السؤال: يقول النجاشي في ترجمة الصفّار: (کان وجهاً فی أصحابنا القميين، ثقة عظيم القدر، راجحاً، قليل السقط في الرواية)، وعلى ما يبدو لم تستعمل عبارة (قليل السقط) في حقّ شخص آخر من الرواة، وقد اختلف العلماء في اعتبارها جرحاً أو تعديلاً للصفار، فما هو رأيكم بالنسبة لهذا التعبير؟
الجواب: لم اُلاحظ وجود خلاف يُذكر بين العلماء في دلالة كلمة: (قليل السقط)، وهذه الكلمة نوع مدح يستبطن قدحاً، فالنجاشي يريد أن يقول بأنّ الصفار كان قليلاً ما يحصل في نقله للروايات سقط، على خلاف غيره ممّن تكثر هذه الظاهرة عندهم، وهذا يعني أنّ في التعبير نوع تفضيل للصفار على غيره، وإن كان نفس وجود السقط ولو قليلاً عنصر ضعف في الرواية. وهذا يشبه قولنا: فلان رجل محترم قليل الأذية للجيران، فهذا مدح لكنّه يستبطن تعريضاً به بأنّه يؤذي جيرانه قليلاً جداً مثلاً على خلاف غيره ممّن يكثر اُذية الجيران. وأمّا لو اُريد منها الذمّ فقط لكان يرجح أن يقول ـ بعد سلسلة المدح السابقة ـ: ولكنّه قليل السقط في الرواية، فحذف كلمة (لكنّه) يعزّز فرضية المدح في التعبير والتمييز الإيجابي عن سائر الرواة والمحدّثين.
وهذا التعبير الوارد في حقّ الصفار يعدّ من التعابير المهمّة في دراسة الحديث وعمليات نقله، فهو يوحي لنا بأنّ السائد أو شبه السائد بين النقلة والرواة أنّهم يكثرون من السقط، فتراهم يسقطون من الحديث كلمةً أو جملةً أو مقطعاً، ولو كان ذلك لسهوٍ أو غفلة أو غير ذلك بما لا يطعن في عدالتهم وصدقهم من حيث المبدأ. وإذا عمّمنا السقط للسند فقد يكون المعنى أنّهم يكثرون من إسقاط أسانيد رواياتهم ويبقونها مرفوعةً غير متصلة، وإن كان الراجح بنظري أنّ هذا التعبير (السقط) ينصرف عن هذه الحالة، وأنّه إذا شمل السند فهو يعني سقوط اسم راوٍ في السند إمّا غفلةً مثلاً من الراوي أو الناسخ، فبدل أن يقول: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير.. قال: علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، أو عمداً كأن يسقط اسم شيخه موهماً أنّه روى الحديث مباشرةً عن شيخ شيخه، وهذا ما يُعدّ أحد أبرز أشكال التدليس في السند، كما هو معروف في علوم مصطلح الحديث، وعليه فلم يكن النقلة بالغي الدقّة دوماً لكي لا تفوتهم عبارةٌ أو جملة أو مقطعٌ ما في المتن أو السند، بل كثير منهم كان مثل هذا سائداً في نقله، والصفار يتميّز بقلّة هذه الظاهرة عنده وفقاً لنقل النجاشي.
وعمليات السقط في الحديث غالباً ما تكون في مجال الاستنساخ؛ فالنسّاخ يقعون في مشاكل السقط في النقل، فيسقطون سطراً حيث لا ينتبهون إليه، وهذا كثير في مشاكل النسخ عبر التاريخ، بل قد يسقطون أسطراً عدّة، ولهذا تجد أنّ مشكلة التصحيف والسقط من أعظم مشاكل تناقل الكتب والمخطوطات قديماً، ومن هنا نجد مثلاً أحمد بن حنبل (241هـ) يقول في حقّ عبيدة بن حميد الضبّي بأنّه: (قليل السقط، وأما التصحيف فليس عنده) (انظر: تاريخ بغداد 11: 124؛ وتهذيب الكمال 19: 260؛ وسير أعلام النبلاء 8: 510 و..).
لعلَّ المراد من قول النجاشي: “قليل السقط في الرواية” هو: عدم اختصار الصفّار(رض) للروايات، والاقتصار على موضع الشاهد، كما هو عادة كثير من المحدّثين الذين دوّنوا الحديث؛ وبذلك تكون عبارة النجاشي جارية على سياقها، ألا وهو المدح المتصّل بما قبله عبارات مادحة، وهو أولى من حملها على المدح المراد به الذم، والذي هو خلاف الأصل.
ويعين عليه: أنّ وصم الرواة بالسقط الكثير مخالف لما شرطه علماء الرجال من الضبط المأخوذ في حدّ الوثاقة، فلو كان الرواة يغلب عليهم السقط، لما جاز وصفهم بالوثاقة المطلقة!
ولعلّ وصف النجاشي هذا استفاده من خلال مطالعته لكتب الصفّار الكثيرة، وفطنته لهذا المنهج الذي اتبعه الصفّار في مؤلّفاته، ألا وهو عدم تقطيع الرواية، والاقتصار على محلّ الشاهد منها، الملائم لعنوان الباب.
والله أعلم!