السؤال: أحد أصدقائي يقول بأنّه اطّلع على مناهج الحوزة، وما يخصّ نظريّة الاحتمال، فوجد أنّ الحوزة ليس لديها اطّلاع على آخر التطوّرات التي أجراها علماء الغرب على هذه النظريّة، وذلك يؤثر على دليل التواتر عندكم، ودليل وجود الصانع الذي صاغه الصدر، فضلاً عن كونها نظريّة معرفيّة كاملة؟ (علي، من العراق).
الجواب: هذا الكلام فيه جوانب من الصحّة، وجوانب من الخطأ:
أ ـ أمّا صحّته، ففي أنّ الحوزة بالفعل غير مطلّعة بالشكل الكافي على آخر تطوّرات نظريّة الاحتمال في الغرب، فهذا صحيح، بل حتى السيد محمد باقر الصدر لم يكن مطّلعاً على تمام الأعمال التي قدّمها الغرب وغيره في هذا الموضوع، وهذا يظهر بوضوح من مراجعة كتابه ومصادره في هذا الكتاب.
ومن جوانب الصحّة في الكلام أعلاه أنّ عدم الاطلاع (يمكنه) أن يؤثر على النظريّات التي يقدّمها العلماء المسلمون؛ لاحتمال أنّ عند الغرب معطيات تغيّر أو تبدّل في القضيّة وفقاً لتصوّر المسلمين لها.
ب ـ أمّا ما يبدو لي أنّه جوانب للخطأ في هذا السؤال، فهو النتائج التي بنى عليها أو يمكن أن يكون قد بنى عليها، وأوضح ذلك كما يلي:
أولاً: لماذا إذا لم يطّلع السيد الصدر على منجزات الغرب فهو لم يقدّم نظريّة معرفيّة كاملة، أمّا إذا كان الغرب وفلاسفة نظرية الاحتمال عنده لم يطّلعوا على نظريّة السيد الصدر فلا نقول عنهم بأنّهم لم يقدّموا نظريّة معرفية كاملة؟! وهل كل مفكّر اطّلع على جميع نظريّات عصره ثم أتى بنظريّته؟ هل هذا صحيح حقّاً؟ هل لو قرأنا أعمال المفكّرين الغربيّين نجد كلّ مفكّر فيهم أو صاحب نظريّة قد اطّلع على جميع الأعمال الفكريّة في عصره؟! وهل كلّ فلاسفة الغرب المتأخّرين مثل كارل بوبر وغيره اطّلعوا على فلسفة الملاصدرا بوصفها واحدة من أهم المدارس الفلسفيّة في العالم؟! فلماذا الباء تجرّ في مكان ولا تجرّ في آخر؟ هل الانبهار الذاتي بالآخر أو فقدان الثقة بالذات هو الذي يعطي هذا أم معطيات علميّة دقيقة في هذا المجال؟ لقد اطّلع الصدر على بعض أهمّ المدارس في عصره، وهذا يبرّر له طرح مشروعه حتى لو لم يكن مشروعه هو الأكمل.
ثانياً: لنفرض أنّه لم يطّلع، لكن هل هذا يعني أنّه صار بالتأكيد ما قدّمه مثل السيد الصدر خطأً؟ ما هو الموجب لذلك منطقيّاً؟ هل يمكنني أن أقول عن الفيلسوف الغربي بأنّ نظرياته باطلة أو خاطئة؛ لأنّه لم يطّلع على فلسفة الملا صدرا؟! كلا، بل غاية ما أقول بأنّ من كمال البحث ومزيد نضجه أن يبني الإنسان فكره بعد الاطّلاع على منجزات الآخرين، لكنّ هذا لا يعني أنّه لو لم يطّلع فنتائجه خاطئه. أتمنّى أن نفصل ونميّز بين الأمور. نعم إذا اطّلعنا نحن على المنجز الغربي في نظريّة الاحتمال ورأينا معطيات محدّدة أقنعتنا بخطأ ما توصّل إليه السيد الصدر فهذا جيد، ومن حقّنا هنا أن نقول بأنّ الصدر أخطأ أو بنى نظريّاته على معطيات ثبت بطلانها أو نحو ذلك.. أمّا الحكم من الخارج ومن بعيد على مدرسة فكريّة بأنّها باطلة أو مخطئة أو لا تملك نظريّة كاملة في المعرفة بسبب عدم اطّلاعها على إحدى الفلسفات العالميّة، فهذا غير دقيق.
ثالثاً: إنّ تطوّر نظريّة من النظريات لا يعني بطلان النظريّات التي سبقتها بالضرورة؛ لأنّ تطوّر علم من العلوم له أشكال متعدّدة، فتارةً يحافظ على النتائج لكنّه يغيّر في آليات الوصول إليها ويتطوّر في ذلك، وأخرى يحافظ على النتائج لكنّه يضيف إليها نتائج جديدة، وثالثة يُبطل النتائج السابقة ويبتكر مكانها نتائج حديثة، وغير ذلك من الحالات التي تطرأ على التطوّر المعرفي لعلمٍ من العلوم، فالسيّد الصدر نفسه رغم أنّه طوّر في نظريّة الاحتمال مقارنةً بمعطيات التراث الإسلامي، لكنّه لم يُبطل أكثر النتائج التي وصل إليها قدماء المسلمين في نظريّة التواتر؛ لأنّ إبطال الجذور شيء وإبطال النتائج شيء آخر على حدّ تعبير الدكتور أديب صعب في حديثه عن الجذور والنتائج، فقد تُبطِل جذورَ فكرةٍ ما لكنّك تستعيض لها بجذور جديدة، والنتيجة هي نفسها، وقد تبقي على الجذور وتضيف إليها معطيات، فتختلف النتيجة تلقائيّاً، ففي عالم المعرفة ليس هناك لونٌ لواحد ونمطٌ واحد للتغيّرات المعرفيّة في سيرورة العلوم وصيرورتها، ونحن لأننا نتعامل أحياناً بشكل عاطفي أو شعاري أو حماسي مع أمرٍ ما، نتصوّر أنّه إذا تطوّر علمٌ من العلوم فهذا يعني أنّ كلّ النتائج السابقة للنسخة السابقة لنفس هذا العلم ستغدو باطلة! وهذا غير دقيق، فالقضية مفتوحة على صور وحالات كثيرة.
رابعاً: يجب أن نعرف بأنّ هناك تياراً غير بسيط في الغرب وعند الفلاسفة والمفكّرين المسلمين أيضاً يشكّك أصلاً في قيمة المعرفة القائمة على الاستقراء وعلى نظريّة الاحتمال، ومن هنا فأدلّة التواتر وثبوت الصانع لا تقف عند حدود ما قدّمه السيد الصدر لمن راجع كتب الفلاسفة والمفكّرين الدينيين في الغرب والشرق قديماً وحديثاً.
ولهذا فإنّني أدعو نفسي دوماً وكلّ المشتغلين بالمجال المعرفي للابتعاد عن اللغة الدوغمائية والطوباوية والشعارية في التعامل مع المعرفة، ففيما نجد بعض أنصار الفلسفة الإسلاميّة ـ مثل بعض أنصار فلسفة الملاصدرا وبعض أنصار فكر السيد محمد باقر الصدر نفسه ـ يتكلّمون بلغة تبجيليّة مذهلة عن منجزاتهم، وكأنّ العالم أغلق أبوابه وحطّ رحاله على أعتاب صدر الدين الشيرازي أو محمّد باقر الصدر، وبعض هؤلاء ليس لديه اطّلاعٌ كافٍ أصلاً على فلسفة الملا صدرا أو فلسفة الصدر، ولم يقم بأيّ مقارنة بينهما وبين من سبقهما ليكتشف مدى الإضافة النوعيّة التي حقّقاها، وإنّما يسير خلف ما أسمّيه: الدعاية الإعلاميّة المتحمّسة.. نجد أيضاً بعض المنبهرين بالفكر الغربي يتعامل بالطريقة نفسها، وربما تجد أنّ بعضهم عندما يحكمون بحكمهم الوارد في السؤال أعلاه لم يقرأ كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء) أساساً!!
ولا نستغرب من هذا، فهذه ظواهر لمسناها من كثيرين، وسببها في تقديري أنّ شخصيّتنا ما تزال غير متوازنة علميّاً، فنعيش الدعاية الإعلاميّة أكثر ممّا نعيش القراءة المعرفيّة المتحرّرة من الضغط النفسي السلبي أو الإيجابي، ولحالة الهزيمة الحضارية ـ كما أزمة الخوف على الهويّة ـ أدوار كبيرة في بناء وترسيخ هذه الشخصيّة غير السويّة فينا.
وأخيراً، أشير إلى أنّني، رغم ميولي الشديدة لنظريّة الاحتمال التي أبداها السيد الصدر، لكنّني حريص دوماً على تقديم قراءات تقويميّة ونقديّة لها، ولهذا قمنا في مجلة (نصوص معاصرة) بالتفتيش عن الدراسات النقديّة التي كتبت حول هذه النظريّة وترجمناها ونشرنا قسماً منها، وهناك قسمٌ آخر سيُنشر تباعاً إن شاء الله؛ لأنّ تطوّر المعرفة لا يمكن أن يكون عادةً في ظلّ ثقافة التقديس وثقافة (منتهى الكلام) و (نهاية الأفكار) و (خاتمة الفلسفات) وغير ذلك من التعابير، فمن لديه قراءة نقديّة لنظرية الصدر فليقدّمها، وليس في ذلك عيب، أمّا أن نُطلق الكلام في الهواء الطلق لمجرّد عنوان عام اسمه وجود دراسات غربيّة أو غير غربيّة فهذه طريقة غير علميّة، وينبغي أن نتحرّر من هذه الطرق التي نعيش الابتلاء بها جميعاً من مجمل الأطراف الفكريّة في الساحة اليوم. ولعلّ صديقكم ليس من هذا النوع، بل قام بمقارنة جديّة وتوصّل إلى نتائج، ونتمنّى أن نستفيد من قراءته في هذا المجال إن شاء الله.
إنّني دائماً أركّز على أزمتنا المنهجيّة والشخصيّة؛ لأنّ واحدة من أكبر مشاكلنا هي فوضى تلقّي الأفكار، وفوضى الإيمان بها، وفوضى التفكير فيها، وفوضى نقدها، وإذا حسّنّا أداءنا في التعامل مع الأفكار، وتحرّرنا من الضغوطات النفسيّة القائمة، وأخذنا بمجتمعاتنا نحو ردود أفعال أكثر توازناً، فربما نفتح على أفق جديد، ونتخلّص من جزء من الحوارات غير المنتجة، ونوفّر على أنفسنا عناءها، بعون الله سبحانه.
سيدي العزيز
تحية طيبة..
شكرا لما ابديتموه من جهد كبير وبعض ماطرحتموه من اجوبه قد انقدح في ذهني لكن احببت ان اخذ المزيد منكم,بما يخص صديقي نعم هو بالفعل حسب ادعاءه له اطلاع على نظريات الغرب,لان ذلك من صلب اختصاصه,وقد طلبت منه ان يزودني ببعض البحوث,مع العل انه احد الشباب العراقيين الذين يترجمون اخر البحوث العلمية في العالم من الانكليزية الى العربية,وهو من الاادريين وليس ملحدا او ربوبيا,يعني لحد الان وصل الى نتيجة يوجد هنالك خالق وللايزال يبحث هل هذا الخالق رحيم او حكيم او او… جوابكم على مسالة البحوث العلمية وقصص القرا الكريم والجواب اعلاه كنت انتظرها حتى ادرجها في كتابي القادم حول الالحاد,واحاول ان اترجم بعض المقالات من هذا الكتاب الى الانكليزية,لكي اوصلها الى مناطق معينة من العالم.
شكرا لك.