السؤال: قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَىَ مُوسَىَ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلّ فِرْقٍ كَالطّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمّ الاَخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَىَ وَمَن مّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ﴾. السؤال هنا: لماذا لم يهلك الله سبحانه وتعالى فرعون ومن معه وأمهلهم حتى أدركوا قوم موسى وأصابهم ما أصابهم من الرعب والخوف؟ هل أنّ الله سبحانه وتعالى أراد من هذه الحادثة أن يعلّمنا أنّ الإنسان يجب أن يعمل بجدّ ويعتمد على الأسباب حتى تنتهي، ومن ثمّ يأتي الفرج أم أنّ هناك أموراً أخرى؟ (جعفر الزنكي، من العراق).
الجواب: عندما نتعامل مع النصّ القرآني بوصفنا مفسّرين له، فهناك مستويان:
المستوى الأوّل: تفكيك النصّ وتحليله وتركيبه مع سائر النصوص مقارنةً ومقاربةً، للخروج بدلالاته ومعطياته، وهذا هو عمل المفسّرين عبر التاريخ، وهو عمل مشروع ينطلق من دلالات النصّ نفسه، فلا نحمل على النصّ شيئاً ولا نزد عليه ولا ننقص منه قدر ما يمكننا ويوفّقنا الله في هذا الإطار.
المستوى الثاني: تكملة العناصر الفارغة من الصورة التي قدّمها لنا النصّ، أو الإجابة عن تساؤلات أو فرضيات محتملة لم يحكِ النصّ عنها، ولكنّنا نحاول أن نحلّل الأسباب أو الأمور التي تكون خلف الحدث الذي يحكي النصّ عنه، لتكتمل عندنا الصورة بشكل أكبر، كما في الحالة التي تسألون عنها، إذ ما يبدو لي هو أنّ القرآن لم يشر إلى السبب في تأخير إنزال العذاب بقوم فرعون إلى هذه اللحظة بالذات، ولماذا لم يهلكهم قبل ذلك بعشرة أيام مثلاً؟ في هذه الحال يجب على المفسّر البحث في ثنايا النصّ القرآني هنا أو هناك، علّه يجد إشارةً لقانونٍ من سنن التاريخ يفيد في هذه القصّة أو تلك، لكن إذا لم يعثر ـ وأنا شخصيّاً لم أعثر هنا على ذلك في موضع سؤالكم ـ فيمكنه الرجوع إلى النصوص الدينية المعتبرة الأخرى إذا توفّرت في هذا المضمار، وإلا فإذا أسعفنا العقل والعلم بمعطى يقيني مؤكّد وعلمي فلا بأس، ومن دون ذلك فلا يخلو قولنا من الظنّ والترجيح، وعلينا أن نقول ذلك بوضوح حتى لا نفسّر القرآن أو نحلّل الوقائع أو ننسب للإرادة الإلهيّة شيئاً بغير علمٍ ولا حجّة ولا بيان. وكثيراً ما يقع المفسّر أو المتكلّم أو الخطيب أو الواعظ في عمليّة الدمج بين تحليله الترجيحي ـ وهو يتعامل مع نصّ قرآني أو حديثي ـ وبين تفسيره للنصّ، فيقدّم لنا تحليله المخارج للنصّ بلغةٍ توحي وكأنّ ذلك تفسيراً للنصّ نفسه، وعلينا دوماً الحذر من هذا الأمر الذي قد نسقط فيه من حيث لا نشعر، وعلينا أن نستخدم لغةً تميّز بين تفسيرنا للنصّ وبين التحليلات الشخصيّة القائمة بعد تفسير النصّ واستنفاد طاقتنا في أخذ مدلولاته.
وما سألتم عنه لا جواب عندي حوله، ولعلّ ذلك من قصور عقلي وضعف معلوماتي، لكنّ ما تفضّلتم به يبقى احتمالاً معقولاً وجميلاً، يمكن طرحه بوصفه فرضيّةً أو ظنّاً لا أكثر، أو كما كان يسمّيها الشهيد الصدر الثاني رحمه الله (أطروحة)، على طريقته المعروفة في نظام الأطروحات لديه.