السؤال: أودّ أن أطرح عليكم هذه المسألة أرجو تجليتها لي حسب فهمكم. يلاحظ أنّ بعض فقهائنا كالسيد الخوئي وغيره، يستعملون عند بحث بعض المسائل وعند حسم الموقف حيال القضية محلّ البحث، تعبير (مذاق الشريعة)، (ذوق الفقه)، (شمّ الفقاهة). وقد لاحظت في بعض بحوثكم في الدراسات المعاصرة تستخدمون ذوق الشريعة. وكما يبدو أنها قريبة من تعبير معاصر سائد لدى فقهاء القانون وهو (روح النصّ)، كما أنّ هناك من الباحثين من يعبّر بمبادئ الشريعة أو مبادئ القانون وما شابه. ولاحظت أنّ بعض الباحثين من الإمامية يعتبرون الاستناد إلى ذوق الفقه أو الشريعة على أنّه ضربٌ من الاستحسان إلا إذا كان قطعيّاً. وطبعاً مسألة القطع في كثير من الحالات تكون شخصية، وليست موضوعية، كما يحاول بعضٌ ضبطها كالسيد الشهيد باقر الصدر وربما غيره. ما أريد بحثه هنا، أليس تعبير (مذاق الشريعة) شبيه أو رديف لمقصد الشريعة وغرضها وما شابه؟ وبالطبع فإنّ نظرية المقاصد كما نظّرها وطوّرها بعض الفقهاء من غير الإمامية أبرزهم العلامة الشاطبي في الموافقات، فهي أوسع وقد لا تتفق مع مباني الإمامية في بعض التأسيسات والتطبيقات. ما رأيكم؟ هل ثمّة فرق جوهري في البين؟ (م. ل. من سلطنة عمان).
الجواب: توجد هنا عدّة نقاط:
أولاً: عندما يتحدّث الفقهاء وعلماء الشريعة عن ذوق الشارع، أو مذاقه، أو الشمّ الفقهي أو غير ذلك، فإنّهم في الحقيقة يحاولون الحكاية عن مسائل حصلت لهم بها قناعات نتيجة تراكمات جزئيّة عفويّة جاءت من خلال التعايش مع النصوص ولمس تقلّباتها وحالاتها في المجالات المختلفة؛ لأنّ قراءة فكر أيّ شخص كما تكون من خلال مراجعة سطور كلماته ومنصوص عباراته كذلك تكون من خلال النظر فيما بين السطور، بحيث يعرف من يعيش في ثنايا كلامه فترةً زمنيّةً معيّنة مزاجَه الخاصّ وطريقته ونمط تفكيره، وهذا أمرٌ يمارسه البشر في حياتهم في التعاطي مع بعضهم. وهذا يعني أنّ احتجاج الفقهاء بمثل هذه التعبيرات راجع إلى تبلور قناعة اطمئنانية عندهم تولّدت بطريقة عفوية متراكمة عبر السنين، نتيجة التعامل مع كمّ هائل من النصوص في مختلف الأبواب والموضوعات، لكنّ هذا لا يعني أنّه من الناحية البحثية يكفي الادّعاء، بمعنى أنّ الفقيه عندما يدّعي الذوق المذكور يجب عليه إخراجه من الحالة العفويّة إلى الحالة الواعية، وذلك عبر جماع طريقتين هما:
الأولى: العودة مجدّداً إلى النصوص لمطالعتها بطريقة واعية في كلّ ما يرتبط ـ إيجاباً ـ بالموضوع الذي يُبحث عنه؛ لأنّ المراجعة الواعية قد تكشف للإنسان أشياء تبلورت خطأ في المراكمة العفويّة.
الثانية: العودة بطريقة نقديّة إلى النصوص المعارضة ـ ولو احتمالاً ـ ومحاولة استذكارها ومراكمتها، فإنّ النصوص المعارضة يمكن أن تفضي إلى تلاشي هذا الاطمئنان وتحوّله إلى مجرّد احتمال ظنّي.
هذا فيما بين الفقيه ونفسه، أمّا عندما يريد الفقيه أن يطرح ذوق الشارع في أبحاثه التي يقدّمها للمحافل العلميّة، فيجب عليه ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ استخدام طريقة المنبّهات الوجدانية؛ لأنّ هذه الموضوعات قد لا يعثر فيها على نصّ صريح حتى يقدّمه لإقناع الآخرين من الفقهاء، فيلجأ الفقيه ـ اضطراراً ـ هنا للإشارة إلى منبّهات وجدانية لا تشكّل دليلاً في حدّ نفسها بقدر ما تثير الشعور الوجداني عند سائر الفقهاء، مما ينبّههم إلى هذه القضية، فيحصل لهم هذا الاطمئنان نفسه الذي حصل له.
ثانياً: وفقاً لما أوضحناه أعلاه، ستكون نظرية المقاصد بشكلها الاستقرائي الذي طرحه الشاطبي تعبيراً واعياً عن تلك الممارسات العفويّة التي مارسها بعض علماء الإماميّة، غاية الأمر أنّ الممارسات الإماميّة لا تدخل جميعها بالضرورة في باب المقاصد والأغراض، فليس كلّ استقراء للوصول إلى قاعدة في الفقه معناه أنّنا نتحدّث عن المقاصد، فبين المقاصد والقواعد صلة وتمايز معاً.
ثالثاً: ممّا أسلفناه يظهر أنّ الذين قصدوا أنّ مسألة ذوق الشريعة مسألة استحسانية، مصيبون ومخطئون في آنٍ واحد؛ لأنّ مسألة ذوق الشريعة يجب أن تبلغ العلم والاطمئنان، وإلا صارت ظنّاً غير حجّة، وعندما لا تتحوّل ادّعاءات الذوق والشمّ إلى معطيات واعية ـ ولو بنحو التنبيه والتذكير ـ فسوف تبدو للآخر ضرباً من الظنون والاستنسابات.
رابعاً: بدا لي من كلامكم أنّ الطابع الشخصي لموضوعٍ ما يجعل هذا الموضوع غير ذي قيمة، بمعنى أنّ الاجتهاد يجب أن يكون منضبطاً لقواعد واضحة في كلّ تفصيل، ولكنني ألاحظ على ذلك أنّ هذا الأمر غير واقعي؛ لأنّ كلّ من يتعامل مع قضايا التاريخ واللغة يجب أن يدخل مداراً متحرّكاً من تحت أرجله، فمسألة حجيّة الظهور التي عليها عماد الاجتهاد عند المسلمين، وهي المسألة المرتبطة بالدلالات ومناهج فهم النصوص، تسري في ثنايها التطبيقيّة السمة الذاتية والطابع الشخصي، ومثل هذه الأمور تجري في ادّعاءات مذاق الشارع، وكلّ ما يمكن فعله في مجال الضبط هنا هو ـ أولاً ـ توفير بيئة حاضنة صحيّة في المجالين اللغوي والتاريخي، تستطيع إيصال القارئ للنصّ إلى فهم أصوب إلى جانب عنصر المنبّهات الوجدانية ونظام القرائن، وهو ـ ثانياً ـ ممارسة قراءات نقديّة لفهم النصّ؛ لأنّ القراءات النقديّة تستطيع الكشف عن مكامن الخلل في الاستنتاجات اللغويّة.