السؤال: ما مدى صحّة هذين الحديثين المنسوبين إلى الإمام عليّ عليه السلام: (القناعةكنزٌ لا يفنى)، و (لو قنع الناس بما لديهم لما تعمّرت الأرض)؟ ثم أليس بينهما تعارض واختلاف؟
الجواب: أمّا الحديث الأوّل (القناعة كنز لا يفنى، أو لا ينفد، أو مالٌ لا ينفد ولا يفنى)، فهو مرويٌّ تارةً عن الإمام عليّ (روضة الواعظين: 454؛ ومستدرك الوسائل 15: 226؛ ونهج البلاغة 4: 14، 109؛ وتحف العقول: 100؛ والشريف الرضي، خصائص الأئمّة: 125 و..)، وأخرى عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم (روضة الواعظين: 456؛ ومشكاة الأنوار: 233؛ والمنذري، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف 1: 590؛ والديلمي، إرشاد القلوب 1: 118؛ وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 3: 155، و11: 198؛ والشعراني؛ العهود المحمدية: 133؛ وكشف الخفاء 2: 102؛ والسيوطي، الدرّ المنثور 1: 361؛ ومعارج نهج البلاغة: 397؛ والهيثمي، مجمع الزوائد 10: 256؛ والمعجم الأوسط 7: 84؛ والأمثال في الحديث النبوي 1: 52 ـ 53؛ والفوائد المنتقاة: 110؛ ومسند الشهاب 1: 72؛ وربيع الأبرار 5: 327؛ والتذكرة الحمدونية 1: 45، و3: 116 و..)، فالحديث شيعياً ينسب في الغالب إلى عليّ عليه السلام، فيما يُنسب سنيّاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
وقد جاء الحديث في جميع المصادر والكتب الإماميّة خالياً ـ على ما يبدو ـ من أيّ سند، وأقدم مصدر متوفّر له هو تحف العقول في القرن الثالث الهجري، وكذلك الحال في العديد من كتب أهل السنّة، لكنّه ورد مسنداً عند الطبراني بسند فيه خالد بن إسماعيل المخزومي الذي وصفه الهيثمي بالمتروك، وأخرى في السند قتادة وفيه كلام، وثالثة في السند عبد الله بن إبراهيم الغفاري ولهم فيه كلام، ولهذا اعتبره الذهبي بأنّه حديثٌ ذو سندٍ واهٍ. وعلى أيّة حال فالحديث يعني أنّ الإنسان الذي يقنع بالعيش ويرضى بما هو فيه في مقابل من لا يقنع بل يعيش حالة التذمّر واليأس والطمع، فهو ـ أي القانع ـ يملك كنزاً ومالاً، فقد أراد الحديث أن يقول له بأنّ قناعتك بما عندك من مالٍ ورضاك به حيث لا يتوفّر لك غيره، هي في نفسها مالٌ أفضل من المال الذي تريد أن تحصل عليه؛ لأنّ القناعة تعطيك الغنى عن الناس وعدم الحاجة إليهم واللهث خلفهم واستجداءهم لتحصيل الأموال، فحالك كحال من يملك المال والكنوز في عدم لهثه خلف الناس لأخذ المال منهم، وبهذا لا يكون معنى الحديث هو عدم العمل أو ترك الطموح، بل هو في سياق الذي لا تتوفّر له الحياة الأفضل ماليّاً، فيرشده الحديث إلى ضرورة القناعة من العيش وعدم التذمّر ولا الكفر ولا الشعور بالإحباط واليأس والفشل، وهذا معنى بعض الأحاديث والكلمات التي تتكلّم عن الذي يقنع بأنّه يظلّ عزيزاً، فالقناعة عزّ لصاحبها، وليست خمولاً عن العمل.
وهذا الحديث ولو كان غير مسندٍ بسند صحيح وفقاً لمعايير السند، لكنّ بمضمونه ـ بهذا المعنى الصحيح والسليم ـ الكثيرُ من الأحاديث المرويّة عند المسلمين والتي تؤكّد هذا المفهوم، وهو المفهوم المنطقي الذي يُستنتج من سياق هذه الأحاديث وضمّها إلى مجموعة الأحاديث الكثيرة جداً والدالّة على الحثّ على العمل والتجارة والزراعة وحسن التدبير وتحصيل الأموال، وكذلك سيرة المسلمين الأوائل في هذا النطاق، فالقناعة هنا لم تقع في مقابل العمل، بل وقعت في مقابل الطمع وعدم الرضا وعدم التسليم، وإلى هذا المبدأ ترشد العديد من النصوص القرآنية مثل قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ..) (الحديد: 22 ـ 23)، وكذلك قصّة الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتين من أعناب ونخل والتي أوردها القرآن الكريم في (سورة الكهف: 32 ـ 44)، فإنّ أداء الرجل المؤمن في القصّة هو أداء الإنسان القانع الذي لا يؤدي به سوء ماله ورزقه إلى الكفر والإحباط واليأس والحسد للآخرين، بل يكون له فيه الأمل، واحتمال أن يؤتيه الله خيراً من جنّة ذلك المختال الفخور.
وأمّا الحديث الثاني، فلم أعثر عليه ـ على عجالة ـ في الكتب الحديثيّة المعتمدة، ورأيت من نَسَبَه هنا وهناك، فلم يتّضح لي وجهٌ لاعتماده، ولو صحّ لأمكن فهمه في سياق النهي عن الخمول وترك الطموح والعمل والكسب، وهي مفاهيم صحيحة كما دلّت الكثير جدّاً من النصوص الأخرى. والعلم عند الله.