السؤال: ما هو حكم المتأوّل من العلماء الذي جرّه تأويله إلى مقالة كفريّة (كتحريف القرآن)، دون أن يرجع قوله ذلك إلى تكذيب القرآن، ككثير من الإخباريّين؟ (عمران).
الجواب: حكمه ـ إذا لم يكن مقصّراً ـ أنّه مجتهدٌ نظر في المعطيات المتوفّرة بين يديه فخرج باجتهاد معيّن، وإذا كنّا نحكم بخطئه في اجتهاده ونستعظم ما اختار من رأيٍ وما ذهب إليه من قول، فهذا لا يعني كفره ما دام يؤمن بالله ورسوله. ولا أوافق على توصيف القول بتحريف القرآن بالنقيصة على أنّه كفر، فالخطأ شيء ولو كان شنيعاً والكفرُ شيء آخر، كما لا أوافق على تحويل بعض القضايا الفكرية الدينية إلى فزّاعة يحرم التفكير فيها، مثل قضيّة تحريف القرآن الكريم وعدالة الصحابة وعصمة النبيّ والأئمّة ومسألة السفراء الأربعة وترتيب أفضلية الخلفاء الأربعة والولاية التكوينيّة والعلم بالغيب وغير ذلك، بحيث بمجرّد أن يناقش شخص فيها أو في تفصيل يتصل بها يبدأ قرع طبول الحرب! إنّها كسائر قضايا الفكر الإسلامي اجتهاداتٌ كلامية وتاريخيّة، وعلينا احترامها ومناقشتها والنظر فيها، ولنا كامل الحقّ في نقدها بما نشاء من الكتب والصفحات. نعم لو بلغ الأمر حدّ هتك المقدّسات والتعدّي على الحرمات والتجريح والقذف والإهانة والكلام الهابط فللآخر الحقّ في أن يغضب أو ينتفض، ودائماً نقول: فلنميّز بين النقد والتجريح، وبين الرأي الآخر وهتك المقدّسات، ففي ذلك الجمع بين سلامة أدائنا الأخلاقي وحريّة الفكر والرأي والتعبير في الداخل الإسلامي.
إنّني أجد أنّ القائلين بالتقليد في العقائد ـ رغم أنّني لا أوافق على هذه النظريّة ـ قد يكونون أكثر انسجاماً مع أنفسهم من القائلين بعدم التقليد، فإنّهم من البداية يتعاملون مع الناس على أنّهم عوام يفترض بهم التقليد، ورغم أنّ هذه الفكرة لا تبدو لي تحظى بفرص كثيرة لتصحيحها، إلا أنّها تظلّ أفضل من الازدواجيّة التي يعاني منها الآخرون الذين يقولون بضرورة النظر وعدم التقليد في العقائد، ثم إذا اجتهد شخص ـ ولو كان متخصّصاً ـ قرع بعضهم له طبول الحرب ونصبوا له المناجيق ودعوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، فأيّ حريّة تفكير هذه؟! وأي فتح باب اجتهاد هذا في علم الكلام؟ وأيّ عقل عملي يعتبرونه مرجعاً في الحكم بالحسن والقبح؟! إنّ لكلّ رأي أو موقف أو فكر ضرائب خاصّة على من يؤمن بهذا الرأي أن يدفعها، فمن يقول بأنّ العقائد تُبنى اقتناعاً، عليه أن لا يقمع الناس إذا أرادت أن تفكّر، وأن تقتنع بغير ما اقتنع به هو، قمعاً لا لشيء إلا لأنّ تفكيرهم وصل بهم إلى نتيجة خاطئة من وجهة نظره، وربما يكون هو الذي أخطأ في استنتاجاته الكلاميّة. إنّ الاعتقاد بمبدأ التحقيق في القضايا الكلاميّة لا يمكن أن ينسجم ـ منطقيّاً ـ مع أسلوب الحرب والتهويل والتسقيط الذي يمارسه بعض الناس ضدّ من يختلف معهم في الرأي الكلامي هنا أو هناك، فهذا كمن يضحك على نفسه أو على غيره، ويقول له: اجتهد وابحث وانظر، لكن الويل لك إذا خرجت بنتيجة تخالف ما نراه نحن! والأغرب من ذلك أنّهم إذا ناقشوا شخصاً يرى رأياً مخالفاً لرأيهم في قضيّة كلاميّة أو تاريخيّة اعتبروا أنّه ليس من حقّه أن يثيرها بين (العوام)، فكيف كان لهم الحقّ في أن يطرحوا أفكارهم الكلاميّة أمام الناس (العوام) وغالباً دون أدلّة، بينما عندما يصل الأمر إلى غيرهم يصبح مطالباً بالامتناع وتداول رأيه في غرف مغلقة فقط، أو إذا سُمح له ونزل عليه الحظّ من السماء بذلك، فعليه أن لا يقول رأيه إلا مرفقاً بعشرات الأدلّة، وهنا نجدهم نقّادين وعلميّين ودقيقين جداً، وإلا كان معتدياً على الفكر والنظر والاجتهاد؟!
عقيدتي أن نكفّ عن الخلط بين الصراع السلطوي والخلاف الفكري، وهي عقيدة مستحيلة التحقّق عمليّاً. وأن نكفّ عن التخوين واتهام كل مذهب لا نوافق عليه بأنّه مذهب أو فكر مجوسي أو يهودي أو أموي أو تكفيري أو ناصبي أو امبريالي أو عميل أو ماسوني.. وربط الأمور دائماً بمنطق المؤامرة! وإذا كنت أتكلّم في اتجاه معيّن، فإنّني أقصد بكلامي هذا أن يستوعب أيضاً حتى أنصار الحريّات الفكرية أنفسهم، ممّن رأينا تجربة بعضهم في القمع والتنكيل بخصومهم فزادتنا إحباطاً، ورأيناهم يدعون إلى الحريّة بالقمع، وإلى التسامح بالعنف، وإلى الاجتهاد باستخدام منطق التقليد!
جزاكم الله خير الجزاء!!!! حفظكم الله شيخنا الجليل!!!!
عندما اقراء هذا التحليل الرائع كاني جالسا في احدى محاضرات سيدي ومولاي سماحة السيد محمد حسين فضل الله قدس الله سره… الحمد لله بعدد ما احاط به علمه … الذي ابقاني لالتقي بافكار السيد فضل الله مرة اخرى.. بارك الله فيكم شيخنا الكريم
شكرا جزيلا على الإجابة شيخنا..