السؤال: أنا فتاة عمري 22 سنة، متخرّجة وأعمل حديثاً، وأنا أصغر إخواني وأخواتي، والدي عاطل عن العمل يسكن بعيداً عنّا في دولة أخرى، ولا يتدخّل فينا، وأخي الكبير يتدخّل في كلّ تفاصيل حياتي، من الخروج من المنزل والتلفون، ويمنعني أن أتصوّر ولو محجّبةً، حتى العريس الذي تقدّم لي رفضه لأجل جنسيّته مع أنّ فيه كلّ المواصفات المطلوبة، وهو يغصبني على لبس عباءةٍ سوداء رغم أنّ عندي ملابس واسعة فضفاضة شرعيّة، وليس ذلك لأجل الموضوع الشرعي عنده، بل لأجل العقد الاجتماعيّة والتأثر بالمجتمع الخليجي.. فهل هذا من الدين يا شيخنا؟! في إحدى المرات لمّا خرجت من البيت مع والدتي كنت أرتدي لباساً شرعيّاً، فلمّا رآني هزأني وأهانني بشدّة، ولمّا عدت إلى البيت (مسح فيني الأرض)، واعتذرت منه ألف مرّة، ولكنّه ظلّ عنيفاً، يتّهمني بأنّني لا أخلاق لي، فماذا أفعل وقد تعبت منه؟ وأين أفرّ بنفسي منه؟ لقد تعبت من أسلوب الرجعيّة والتخويف والتهديد.. والغريب أنّه مع زوجته من أحسن ما يكون! فما هو موقف الدين من هذا كلّه؟ وهل يسمح الدين بهذا؟! (تيما).
الجواب: الكلام في علاقة الأخ ـ لاسيما الكبير أو الأكبر ـ بأخواته البنات له وجهتان: شرعية واجتماعية:
1 ـ أمّا الوجهة الشرعيّة، ففي الفقه الإمامي لا ولاية للأخ ـ كبيراً كان أو صغيراً ـ على أيّ من إخوانه وأخواته، سواء كان الأب والجدّ موجودين أم لا، وسواء كانت الوالدة والجدّة موجودتين أم لا، وسواء كان الإخوة والأخوات صغاراً قاصرين أم كباراً بالغين راشدين، فليست له ولاية عليهم لا في النفس ولا في الأموال ولا في الزواج ولا في الحياة الشخصيّة والعلاقات الاجتماعيّة ولا غير ذلك. وذهنيّة التسلّط هذه لا أساس لها في الاجتهاد الشرعي الإسلامي عند الإماميّة. لاسيما ظاهرة قيام بعض الإخوة بفرض خيار الطلاق على أخته المتزوّجة أو بالذهاب إلى بيتها لإخراجها منه بدون رضاها، بحجّة أنّه يريد مصلحتها!
أمّا في الرأي المعروف في فقه المذاهب الأربعة، فإنّ للأخ الكبير ولاية على أنفس أخواته غير المتزوّجات مع فقدان سائر الأولياء، وأنّ هذه الولاية تشمل التزويج، ولهم كلام وتفصيل وخلاف بين الولاية على النفس والولاية على المال في موضوع الأخ والأخت يراجع في محلّه، ولم أجد دليلاً مقنعاً على هذا الرأي، ومن أهم ما ذكروه هنا رواية الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَال: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ، وَفَرَشْتُكَ، وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟! لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ: الْآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال: فَزَوَّجَهَا إِيَّاه (صحيح البخاري 6: 133). فقد فهم منها العديد من الفقهاء أنّ الأخ ثبتت له ولاية التزويج على أخته، وأنّها لو لم تثبت فلا معنى للعضل هنا، فلو كان لها أن تتزوّج من دون أخيها فلا معنى لاحتياجها إليه، فمن كان أمره لنفسه لا يقال بأنّ غيره منعه (انظر ـ على سبيل المثال ـ ابن حجر، فتح الباري 9: 161).
ولكنّ هذه الرواية، لو غضضنا النظر عن كونها خبراً آحاديّاً ظنيّاً لا أرى الاحتجاج به في الأمور الشرعيّة، لا تدلّ ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ على أنّ الشريعة قد منحت الأخ ولاية زواج أخته؛ فربما كانت قد فوّضت أمر زواجها إلى أخيها ولو بحسب العرف السائد آنذاك، فعمل على ما هو العرف المرضيّ عندها، ولهذا عندما منعها في المرّة الثانية وكانت تريد زوجها السابق نزلت الآية لتمنعه من هذا الأمر، وتكسر إطلاقيّة هذا العرف الاجتماعيّ.
وهذا ما يدفعني ـ استطراداً ـ للإشارة لأمر مهم جداً في فهم الظواهر الممضاة من قبل الشريعة في العصر النبوي، فإنّ العرف لو كان قائماً على نوع من التعاقد الاجتماعي المتفق عليه بين أفراد الأسرة والمجتمع، ويقضي بنوع ولاية وسلطنة للأخ على أخته، ثم جاءت الشريعة وسكتت عن سلطنة الأخ على أخته، ففي هذه الحال لا نستطيع اعتبار السكوت الشرعي دليلاً على ثبوت السلطنة في أصل الشرع، بل هو دليل على رضا الشرع بالتعاقد الاجتماعي القائم والمنتج لهذه السلطنة، وعدم ممانعة الشريعة من هذه السلطنة عندما يرضى بها المجتمع ويتوافق عليها الأفراد، فإذا تغيّر العرف الاجتماعي وزال هذا التعاقد والتراضي المجتمعي لم تعد هناك سلطنة؛ لأنّ هذه السلطنة متفرّعة على التعاقد الممضى شرعاً، وليست ناتجة عن إثباتها بنفسها في أصل الشرع. وحادثة معقل بن يسار لا تعطي إلا سكوت الشريعة عن عمليّة تزويج الأخ لأخته، لكنّ ذلك لا يُثبت أنّ الولاية ثابتة في أصل الشرع؛ إذ ليس هناك نصّ صريح يتحدّث عن ذلك يحمل دلالة إطلاقيّة، فما دمنا نحتمل جداً في الثقافة القبليّة والعشائريّة وجود توافق اجتماعي عام على هذه السلطنة، فيكون إمضاء النبيّ لتزويج معقل أخته إمضاءً لهذا التوافق ما دام قائماً، فلو زال لا نحرز السلطنة في هذه الحال. وبهذا يظهر أنّ الحديث عن عدم وجود معنى للعضل لو لم تكن له ولاية، غيرُ صحيح، فإنّ معقل بن يسار يمارس دوره الممنوح له اجتماعياً بمقتضى التوافق الأسري والقبلي، وقد جاء النصّ القرآني ليؤكّد أنّ هذا التوافق يجب أن لا يُخلّ بمبدأ التزويج بالكفوء، ولا بمبدأ حقّ المرأة، فالمنع عن العضل هو تحديدٌ لأيّ توافق اجتماعي في موضوع تفويض أحد أفراد الأسرة في التزويج، فليلاحظ هذا الأمر فإنّني أجده نافعاً جداً في الاجتهاد الشرعي على مستوى الإمضاءات الشرعيّة (السنّة التقريريّة) التي يؤخذ فيها على مستوى دلالاتها بالقدر المتيقن عند الأصوليين، وله تطبيقات كثيرة.
نعم، يجب على الأخ ـ كسائر المؤمنين ـ أن ينتبه لإخوته الذكور وأخواته الإناث، من كلّ ما يحرفهم عن الصراط المستقيم، ويدعوهم دوماً إلى الحقّ والصلاح والخير، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر بكلّ أسلوب مؤثّر نافع، وهذا ليس من مختصّاته، بل للأخت أن تفعل ذلك مع سائر أفراد الأسرة، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب اجتماعي وأسري عام، فكما أطالب بأن أحمي أخي من التورّط في قتل غيره أو سرقته أو تعاطي المخدّرات.. كذلك أنا مطالب بأن أحميه من الزنا والعدوان على الآخرين بأشكاله، لكن بالأسلوب المؤثر والنافع، لا بالأسلوب الذي تكون نتيجته ردّات فعل سلبيّة من قبل أخي قد تدفعه للمزيد من السقوط في مهالك المعصية والانحراف المسلكي.
كما أنّ تعيين الواجب والحرام في الشرع من شؤون الشرع نفسه، فلو كان اللباس فضفاضاً وشرعيّاً فلا معنى للأمر بالمعروف بطريقة قهريّة للبس العباءة أو غيرها، كما لا يسمح الأمر بالمعروف ـ من حيث المبدأ ـ بالتجسّس على الأخت أو على أجهزتها الالكترونيّة (التلفون و..) والتصرّف في أموالها وما تملك من دون رضاها. وعلينا دوماً أن لا نخلط بين الأمر الشرعي والأمر العرفي الاجتماعي.
2 ـ وأمّا الوجهة الاجتماعيّة، فإنّ الكثير من البلدان العربية والإسلاميّة، وربما غيرها، كانت تعيش هذه الحال في ممارسة الأخ، لاسيما الكبير، لنوع من النفوذ في الأسرة. ولعلّ من أسباب ذلك هو انشغال الأب بالعمل أو السفر (أو لمرض أو لكبر سنّه جداً) الأمر الذي يجعل الأخ الأكبر يلعب دور الأب في بعض الأحيان تفادياً لتأثيرات إحساس الأسرة بفقدان سلطة الأب، وهذا ما يجعل هذه القضيّة في كثير من الأحيان تابعة إما لتخلّي الأب عن دوره أو لتفويضه في كثير من الأسر العربيّة والإسلاميّة بعض مسؤوليّاته لابنه الأكبر، وبالتالي فإنّ طبيعة علاقة الأب بالولد الأكبر تلعب دوراً في منحه مثل هذه السلطة في البيت.
لكنّ سلطة الأخ أمر بدأ بالتراجع تدريجياً في بلادنا بفعل تطوّر التربية والتعليم، ودخول المرأة مجال العمل والإنتاج الاقتصادي، وتنامي قوّتها داخل الأسرة، إضافة إلى التقنيات الحديثة في الاتصال والتواصل وتأثيرها على عجز أرباب الأسرة عن الحدّ من علاقات سائر أفرادها بشكل كامل. بل إنّ كثرة انشغالات الإخوة في هذا العصر بسبب الضغط الاقتصادي والاجتماعي خفّف أيضاً من لعب الأخ دور الوالد، لاسيما لو كان بنفسه متزوّجاً ويتولّى رعاية أسرة أخرى خاصّة به.
لا يتولّى الدين هذه المسؤولية ولا يمنح الولد الأكبر مسؤولية من هذا النوع من حيث المبدأ، لكنّنا نجد أنّ المجتمع بنفسه يلعب دوراً كبيراً في منح الأولاد الذكور مثل هذا الدور، ويرى ذلك مسؤوليّةً وشرفاً وشهامة من الذكور في مراعاة أحوال أسرتهم.
وإذا أردنا التعليق على هذا الموضوع نجد:
أ ـ إنّ المطلوب من الوالدين ـ بما في ذلك الأم ـ أن يمارسا دورهما بشكل فاعل ومسؤول للحدّ من المشاكل الناجمة عن تدخّل الإخوة في الأخوات أو العكس بطريقة غير صحيحة.
ب ـ إنّ هذا التدخل له جانب سلطوي وله جانب مسؤوليّة، ففي جانبه السلطوي يصبح هذا الموضوع ذا طابع سلبي، وذلك عندما يقوم الأخ بفرض نفسه كسلطة إضافية في البيت خالقاً بذلك سلسلة من التناقضات في المنزل، بل في بعض الأحيان نجد أنّ الأخ الصغير يمارس هذا الدور السلطوي تجاه أخواته اللواتي يكبرنه سنّاً وخبرةً وتجربة. وممارسة هذا الأمر من موقع السلطة والنفوذ والتعالي والقهر أمرٌ مرفوض، فلم يمنح الدين هذا الحقّ للذكور في الأسرة.
وأمّا في جانب المسؤولية فهو أمر جيد؛ لأنّه يمثل نوعاً من إحساس الفرد القويّ في الأسرة بقدرته على حماية أخواته أو إخوانه الصغار، ورغبته في تأمين الحماية والرعاية لهنّ، وعندما يتعامل الفرد الذكر في الأسرة بروح أنّه يحمي سائر أفراد الأسرة ويريد مساعدتهم فهذا أمر جيد، لكن عليه أن يقبل قيام أخواته الإناث بممارسة هذا الإحساس الرائع بالمسؤولية تجاهه لكي يقمن بحمايته أيضاً لاسيما لو كان أصغر سنّاً منهنّ. ولهذا إذا أراد الأخ الذكر أن يلعب دوراً من هذا النوع فمن الجيّد له أن يمنح سائر أخواته إحساساً بأنّه يمارس نوعاً من المسؤولية والتعاون والصداقة معهنّ، لا نوعاً من السلطة والقهر والسيطرة؛ فإنّ المنطق السلطوي القهري هنا يخلق عداوات وتراكمات سلبيّة في مثل عصرنا الحاضر على الأقلّ.
وأجد من اللازم هنا أن نحمل أخاكِ ـ أختي الكريمة ـ على الأحسن، فلعلّه حريص عليكِ، ويريد أن يحميك، من موقع إحساسه بالمسؤولية والأمانة والصداقة معكِ، من منزلقات هذا العصر، الذي أفسد الكثير من الشباب والفتيات، وذهب بهم نحو العبثية والعدميّة أو نحو الانحراف المسلكي الخطير وهم لا يشعرون أنّهم يتجهون نحو الهاوية. وحسن ظنّنا بهذا الأخ لا يجعلنا نبرّر تصرّفاته وطريقته وطبيعة تمييزه في ردّات فعله، فقد تجده يُلزم أخته بشيء لا يلزم به زوجته! وحملنا له على الأحسن لا يمنعنا من تنبيهه إلى أمر مهمّ، وهو عدم تغليف وضعنا الشخصي أو الاجتماعي بغلاف الدين أو الأخلاق أو القيم، فقد نظنّ أنّنا نريد الصلاح لأفراد أسرتنا بدعوتهم لهذا اللباس أو ذاك أو لهذا التصرّف أو ذاك، لكنّنا في واقع نفوسنا وذواتنا العميقة إنّما نحاول الدفاع عن سمعتنا الشخصية وكرامتنا الاجتماعية من أن يمسّنا أحدٌ بسوء في كلمةٍ هنا أو هناك نتيجة طبيعة لباس أختنا أو تصرّفاتها، رغم أنّها قد لا تتعدّى الشرع الحنيف والخلق الرفيع، فنحن نقهر الآخر حتى لا يأتي طرف ثالث فيمسّ سمعتنا بسوء أو يقهرنا! وفي هذا الكثير من الظلم على الأخوات في المنزل، رغم أنّني أدعو كلّ أفراد الأسرة إلى أن يأخذوا بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية لبعضهم بعضاً، فلا يُحرج أحدهم الآخر حيث يُمكن.
ج ـ إنّ ممارسة أحد أفراد الأسرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ان يبقى في دائرةِ مقاصديّةِ هذه الفريضة؛ بمعنى أنّ لهذه الفريضة مقصداً، وهو صلاح أفراد الأسرة، وليس انقلابهم على الدين والقيم الاجتماعيّة، بحيث يتحوّل الأخ المتديّن في البيت إلى فزّاعة يحطّم كلّ شيء من حوله، وكأنّه يبحث في الدين عن مسوّغات تسمح له بممارسة نوع من القمع الأسري!
رائع جدا!
والله كلامك صحيح
جدا يا أخي بارك الله فيك
رائع جدا كلامك يا شيخنا الحبيب