السؤال: بعض الباحثين ينظَّر للقياس والاستحسان و.. بأنها المقابل السنّي للأصول العملية في الفقه الشيعي، ويقول: وكما قام الدليل عند الشيعة على حجيّة الاستصحاب مثلاً، قام الدليل عند السنّة على القياس. نعم، يمكن المناقشة في تمامية الدليل على القياس، لكن هذا بحثٌ آخر.
الجواب: هذا الكلام فيه جانبٌ صحيح وجانب لا يبدو لي صحيحاً، فأمّا الجانب الصحيح فهو أنّ أهل السنّة العاملين بالقياس يقيمون أدلّةً على حجيّة القياس ومخالفوهم فيه يناقشون هذه الأدلّة، ولا يرونها صحيحةً. لكنّ المخالفين للقياس فريقٌ منهم ـ كبعض أهل السنّة أنفسهم ـ يرفضونه من منطلق عدم وجود دليل على قيمته واعتباره وحجيّته في استنباط الأحكام الشرعيّة، فيما فريقٌ آخر ـ وهم جمهور الإماميّة ـ لا ينطلق في رفضه للقياس من مجرّد عدم قيام الدليل على حجيّته، بل يرى أنّ هناك أدلّةً خاصّة تنهى عنه وتمنعه بعنوانه الخاصّ، وهذه الأدلّة الخاصّة هي الأحاديث عن أئمّة أهل البيت الذين تعتقد الشيعة بمرجعيّتهم العلميّة المعصومة في الدّين، إذ نهت هذه الأحاديث العديدة وبشدّة عن استخدام القياس في الدين، وأكّدت أنّه ليس سبيلاً صحيحاً في فهم الإسلام، بل هو مضرّ به ويمحقه ويلغيه، وهذا يكشف بطريق أولى عن عدم حجيّته أيضاً، فالخلاف بين مؤيّدي القياس ومخالفيه هو في قيام الدليل على حجيّته وعدمه من جهة، وفي قيام الدليل على ضرره وعدم حجيّته من جهة ثانية، وهذا ما أضفى على القياس في العقل الاجتهادي الشيعي لوناً خاصّاً من الرفض جعلهم يتجاوزون فيه أنّه مجرّد طريق لم تثبت حجيّته في استنباط الأحكام، ولهذا السبب أيضاً رأينا القائلين من علماء أصول الفقه الإمامي بانسداد باب العلم والعلمي، يذهبون إلى القول بحجية مطلق الظنّ، لكنّهم ـ مع ذلك ـ يتوقّفون ويتجادلون في أنّ الظنّ القياسي هل يكون حجّةً ـ بناءً على دليل الانسداد الكبير ـ أم لا؟ والسبب في هذا الجدل بينهم هو أنّ القياس ليس طريقاً لمعرفة الأحكام وقعت مناقشات في حجيّته فقط كحجيّة خبر الواحد، بل هو طريق وقع النصّ على ضرره والإلزام بتجنّبه، فيكون النصّ ناهياً عن حجيّته بعنوانه الخاصّ ومانعاً عن شمول دليل الانسداد له، على تفصيل عندهم في ذلك.
وهناك نقطة أخرى خاطئة أيضاً جاءت في هذا التحليل المذكور في السؤال، وهي أنّ القياس لا ينبغي تشبيهه أو تنظيره بالأصول العمليّة عند الإماميّة؛ لأنّ الأصول العمليّة تحدّد وظائف شرعيّة حال فقدان الدليل ـ ولو الظنّي المعتبر ـ أمّا القياس من وجهة نظر القائلين به، فهو من الأمارات، أي من الأدلّة الظنيّة التي قام الدليل على حجيّتها بالخصوص، فإذا أردنا أن نشبّه القياس بشيء في أصول الفقه الإمامي، فمن الأفضل أن نقابله بحجيّة خبر الواحد أو بحجية الظهور الظنّي أو نحو ذلك، لا بمثل الاستصحاب ـ على ما هو المعروف بينهم من كونه أصلاً عمليّاً لا أمارةً ـ ، مع الفارق بين القياس وحجيّة خبر الواحد فيما أشرنا إليه أعلاه.