السؤال: تمّ في الأيام الأخيرة تداول جواب عن سؤال لكم حول أسباب الغيبة، وقلتم فيه بأنّكم لم تجدوا دليلاً عقليّاً عليها، وبعض الأشخاص انتقدكم في ذلك على أساس أنّكم تجاهلتم الأدلّة العقلية التي عند الطائفة على وجود الإمام المهدي وغيبته، ولم تذكروها مثل: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وقال بعض آخر بأنّكم تجاهلتم أيضاً مثل حديث الثقلين وغيره، وأنّ في جوابكم تناقضاً، ففي الوقت الذي تنفون الدليل العقلي على الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه تذكرون ضرورة التهيؤ والاستعداد لظهوره ونصرته، فكيف يمكن الجمع بين ذلك؟!
الجواب: بعد شكركم على سؤالكم وشكر الناقدين، أعتقد بأنّ علينا أن نميّز بين أشياء متعدّدة ونفكّك بينها، فإذا فكّكنا بينها ارتفع الالتباس الحاصل، واكتشفنا ـ فيما يبدو لي ـ أنّ المسألة بسيطة جداً إن شاء الله، ويمكنني توضيح بعض التفكيكات هنا من خلال نقطتين أرجو أن يكمل مطالعتَهما القارئُ العزيز؛ لأنّ جوابي يكمن في النقطة الثانية بالتحديد:
النقطة الأولى: يمكن لأيّ باحث أن يدرس قضيّة المهدوية ـ بمعناها الإمامي الخاصّ ـ على صعيدين:
الصعيد الأوّل: وهو الصعيد النقلي التاريخي، فنقوم بدراسة الآيات والروايات الحديثية والتاريخيّة، ونجمعها ونحلّلها، ونتوصّل إلى نتيجة معيّنة، فنقول مثلاً: إنّ الإمام محمد بن الحسن المهدي عليه السلام من أئمّة أهل البيت، وأنّه وُلد بالفعل، وأنّه الآن غائب، وأنّ الدليل على ذلك هو مجموعة دراستنا التي تقوم على الكتاب والسنّة ووثائق التاريخ معاً.
الصعيد الثاني: وهو الصعيد العقلي، بمعنى أنّني أترك النقل والتاريخ والحديث، وأتوجّه هذه المرّة إلى العقل وما يملكه من عُدد وإمكانات، ثم أطلب منه أن يفكّر ويتأمّل في نفسه، هل لديه دليلٌ يتصل بقضيّة المهدويّة بمعناها الخاصّ أو لا؟ هل يمكنه أن يثبت (لوحده) وجود الإمام المهدي بغض النظر عن أدلّة القرآن والسنّة والتاريخ أو لا؟وهناك يُعْمِل العقلُ التفكيرَ وينشط مستخدماً أدواته فيتوصّل مثلاً إلى نتيجة تقول بأنّ المهدويّة أمر ثابت، وأنّ الغيبة أمر واقع الآن بالأدلّة العقليّة، وهكذا.
وبناءً على هذا التمييز بين النقل والعقل، قد يقول شخص: أنا توصّلت من خلال المعطيات النقلية إلى قضيّة الإمامة المهدويّة وأنّ الإمام قد وُلد بالفعل وأنّه حيّ غائب اليوم، لكنّني من خلال العقل لوحده، وبعيداً عن الآيات والروايات، لم أستطع التوصّل إلى برهانٍ عقليّ محض على إثبات ذلك، وفي هذه الحال يكون شخصاً مؤمناً بالمهدويّة تماماً بمعناها الإمامي؛ لأنّ المفروض أنّها ثبتت عنده بالأدلّة النقلية، حتى لو لم يقدر العقلُ لوحده على إثباتها عنده، فهذا تماماً مثل شخص يقول لك: إنّني قاطعٌ بأنّ صلاة العصر أربع ركعات، لكنّني لا أستطيع أن أثبت أنّ الله شرّعها أربع ركعات من خلال العقل فقط، بل أنا اُثبت لك ذلك من خلال الآيات والروايات وسيرة النبي وأهل بيته الأطهار مثلاً، فلا يمكننا أن نقول لهذا الشخص: إنّك لا تؤمن بأنّ صلاة العصر أربع ركعات! فهذا خطأ واضح.
وعلى أيّة حال، فحديثنا في ذلك السؤال والجواب عن أسباب الغيبة لم يكن هنا أصلاً، ولم يكن يتّصل أساساً بإثبات المهدويّة لا عقلاً ولا نقلاً، كما سأبيّن ذلك بعد قليل إن شاء الله، وإنّما ذكرت هذه النقطة الأولى هنا لمزيد تفكيك فقط، وإلا فهي لا علاقة لها بالموضوع.
النقطة الثانية: إذا أردنا دراسة قضيّة الإمام المهدي وغيبته، من الزاوية العقليّة، فيوجد سؤالان يجب أيضاً أن نفكّك بينهما:
1 ـ هل يمكن عقلاً إثبات المهدويّة بمعناها الإمامي (أي تحقّق الولادة بالفعل ووجود الإمام الآن وأنّه غائب) أو أنّ إثبات المهدويّة عقلاً غير ممكن، بل علينا سلوك سبيل آخر كالنقل؟ هذا السؤال سوف أسمّيه تعقيل الوجود أي (الإثبات العقلي لوجود الإمام المهدي).
2 ـ هل يمكن للعقل أن يكتشف ويعيّن السبب وراء غيبة الإمام المهدي أو أنّ هذا السبب مخفيٌّ عن العقل وهو عاجزٌ عن معرفته بحيث يكون العقل مدركاً أنّ هناك سبباً ما للغيبة لكنّه غير قادر على اكتشافه وتعيينه بالدقّة، وهذا ما نسمّيه بتعقيل الغايات، أي (الإثبات العقلي لغايات الغيبة ومبرّراتها).
والفرق بين السؤال الأوّل والثاني كبير جداً، فأنت في السؤال الأوّل تسأل عن أصل وجود الإمام المهدي، وما هو الدليل على وجوده عقلاً؟ بينما في السؤال الثاني من الممكن أن تكون أنت قد فرغت عن إثبات وجوده وآمنت به، لكنّك الآن تسأل: ما هو السبب يا تُرى الذي دفع لهذه الغيبة الطويلة؟ هل السبب هو الخوف أو التدريب أو عدم وجود الأنصار الحقيقيّين أو أنّ الله له سرّ في هذا الأمر الحقيقي الواقعي لكنّ عقل الإنسان غير قادر على معرفته بعينه؟
هذا هو سؤال الغايات الذي كنت أجبتُ عنه هناك، فقد سُئلتُ هناك عن الغاية من الغيبة عقلاً، لا عن إثبات المهدويّة عقلاً، وفرقٌ كبير جداً بين الموضوعين، ولهذا قلتُ هناك بأنّ عقلي غير قادر على معرفة غايات وأسباب الغيبة بشكل قاطع، بل هو يطرح احتمالات وفرضيّات فقط، وبالتالي فلابد لمعرفة الغايات والأسباب من الذهاب إلى النقل، فإذا وجدنا فيه توضيحاً أخذنا به تعبّداً، وإلا قلنا: إنّ الله شاء هذه الغيبة، لكنّ عقولنا قاصرة عن معرفة السبب، وإنّ الله شاء أن تطول لهذه المدّة لكنّ عقولنا لا تعرف السبب بالدقّة، بل نحن نحتمل في ذلك احتمالات وفرضيات قد يكون بعضها أرجح من بعض، فلا ننسب إلى الله أنّه قرّر غيبة الإمام المهدي لأجل كذا وكذا بعينه، بل نقول: ربما يكون السبب هو هذا، وربما يكون هناك سببٌ آخر لا نعرفه، وهذا نحوٌ من التواضع العقلي إزاء أسرار غايات الفعل الإلهي.
وهذا أمرٌ نحن نمارسه كلّ يوم في فضائنا الديني، فمثلاً هل نعرف عقلاً (لماذا) كانت صلاة الظهر أربع ركعات؟ نحن هنا لا نريد إثبات كونها أربع ركعات عقلاً، بل نريد معرفة السبب والغاية والهدف من وراء كونها أربع ركعات عقلاً وليس خمس ركعات؟ وكلّ العلماء إذا سألتهم يقولون لك: لا نعرف السبب بعقولنا، لكنّنا نؤمن بذلك لقيام الدليل القطعي على أنّ صلاة الظهر أربع ركعات. ولو سألنا أنفسنا: لماذا كانت عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيّام، ولم تكن أربعة أشهر وخمسة عشر يوماً مثلاً؟ سيكون الجواب: لا نعرف السبب في ذلك، ولا الغاية، فعقولنا قاصرة حتى الآن عن فهم ذلك، لكنّ عدة الوفاة هي أربعة أشهر وعشرة أيام قطعاً؛ لأنّ عندنا دليلاً يقينيّاً يُثبت ذلك في الدين. وهكذا لو سألنا أنفسنا لماذا كان عدد الأنبياء مثلاً مائة وأربعة وعشرين ألف نبيّ ولم يكن أزيد أو أقلّ؟ ولماذا كان عمر النبي محمد عند البعثة أربعين سنةً كما يقال ولم يكن ثلاثاً وأربعين سنة مثلاً؟ فنقول: لا نعرف عقلاً، بل لله حكمة بالغة، ولكننا نؤمن بذلك؛ لقيام الدليل على ذلك.
وعليه، فلا علاقة لذلك السؤال أساساً بمسألة إثبات المهدويّة لا عقلاً ولا نقلاً، ولهذا لم أذكر هناك مسألة أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، ومسألة حديث الثقلين وغير ذلك، بل كان الموضوع هو الغايات والأسباب وراء الغيبة، هل يمكن أن نفهمها بعقولنا أم أنّها ما تزال سرّاً على العقل؟ وبالتالي يجب على من ثبت عنده ـ بالعقل أو النقل ـ المهدويّة بمعناها الإمامي أن يؤمن بها، ويقول: لا أعرف الأسباب في هذه الغيبة الطويلة، تماماً كما يجب على من يؤمن بصلاة العصر وأنّها أربع ركعات أن يقول: أؤمن بذلك؛ لأنّ عندي على ذلك دليلاً، ولكن لا أعرف السبب بعقلي القاصر، فأين المشكلة في ذلك؟ ولعلّه يأتي يوم يتمكّن مفكّر ما فيه من تقديم تفسير غائي للغيبة عقلاً، فيضيف إلى معلوماتنا معلومات.
ومجرّد عدم قدرتنا على تفسير غاية الفعل الإلهي في أمرٍ ما لا يدلّ على نفي هذا الفعل، ولهذا فإنّني في موضع آخر من الأسئلة والأجوبة ناقشتُ من أنكر الرجعة من خلال أنّنا لا نفهم مغزاها وهدفها، وقلتُ هناك: إنّ عدم إمكان معرفة المغزى والعلّة الغائيّة من شيء، لا يعني أنّ هذا الشيء لم يقع، إذا قام دليلٌ على وقوعه من عقلٍ قاطع أو نقل صحيح. وهذا نصّ كلامي هناك (السؤال: يستدلّ بعض العلماء على إبطال عقيدة الرجعة بعدم ظهور الفائدة منها؛ لأنّه إذا أراد الله هزيمة هؤلاء فهم مهزومون بظهور الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وإذا أريد تعذيبهم فهم الآن معذّبون عند ربّهم، فما قيمة الرجعة إذاً؟ هل ترون هذا الاستدلال على إبطال الرجعة صحيحاً؟ الجواب: هذا النوع من النقاش لا يبدو لي صحيحاً؛ لأنّ مجرّد عدم ظهور فلسفة هذه الظاهرة لا يكفي لنفيها، فهناك ما لا يعدّ ولا يحصى من الظواهر الكونية التي لم نفهم بعدُ المصلحة فيها إلا بشكل كلّي عام، وذلك عبر إرجاعها إلى حُسن الظنّ بالله واعتقاد الحكمة بالباري تعالى، وهناك فرق بين إقامة الدليل على عدم منطقيّة أمرٍ ما وبين عدم ظهور مبرّر منطقيّة هذا الأمر، ففي الحالة الأولى يكون الدليل كافياً لنفي هذا الأمر، على خلاف الحالة الثانية، فإذا صحّت أدلّة عقيدة الرجعة، فلا تكون مثل هذه المناقشة واردةً عليها) (انظر: إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 1: 145).
هذا هو ما يفسّر أنّني من جهة تكلّمت عن التهيّؤ للظهور، وفي الوقت عينه قلتُ بأنّه لا يوجد دليل عقلي على الأسباب من وراء الغيبة وفلسفة الغايات منها.
أعتقد أنّه لو قرأ السؤال والجواب الذي أشرتم إليه، بعد توضيحي هذا، لن يعود هناك أيّ إشكال، إن شاء الله.