السؤال: قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم)، ألا تتعارض مع قوله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)؟ (عمار، العراق).
الجواب: طرح هذا الموضوع منذ بدايات نشوء علمَي الكلام والتفسير عند المسلمين، وقد كان مرتبطاً تارةً بمسألة التوبة والشفاعة والتكفير، وأخرى بمسألة حبط الأعمال، ويتعاطى الكثير جدّاً من المفسّرين والمتكلّمين مع هذا الموضوع من منطلق نظرية التخصيص، حيث يقولون بأنّ الآية مخصّصة بما دلّ على العفو عن الذنوب بالتوبة أو نحوها، فيما يعبّر مثل العلامة الطباطبائي بأنّ آيات التوبة والإحباط حاكمة على هذه الآية، وأمّا الذين أنكروا حبط الأعمال فقد كانت هذه الآية بالنسبة إليهم أحد المستندات المهمّة.
إلا أنّ الذي يبدو لي ـ بنظري القاصر ـ هو أنّه لا تنافي إطلاقاً بين مثل هذه الآية الكريمة وبين نصوص العفو والتكفير عن الذنوب أو نصوص حبط الأعمال الواردة كلّها في غير آية أو حديث من الكتاب والسنّة؛ لأنّ السياق القرآني في آية سورة الزلزلة التي نحن فيها لا يشير إلى الجزاء والعقاب والحساب، بل يشير إلى مرحلة يمكن أن نسمّيها مرحلة العرض والإنباء والرؤية؛ فإنّ الناس يصدرون يوم القيامة بعد زلزال الأرض كي يريهم الله أعمالهم، ومرحلة إراءة الأعمال وعرضها أمام أصحابها وإخبارهم بها، تسبق مرحلة إجراء الحساب والكسر والانكسار، ثم العقاب أو الثواب عليها، فهذا مثل قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف: 49)، ومثل قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 5 ـ 7)، وقوله سبحانه: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: 14)، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام: 159)، وقوله عزّ من قائل: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس: 23)، وقوله تبارك: (مَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (لقمان: 23)، وهكذا آيات أخَر كثيرة، مثل: (المائدة: 48، 105، والأنعام: 60، 108، 164، والنور: 64، والتوبة: 94، 105، والزمر: 7، والتغابن: 7، والقيامة: 13، والجمعة: 8 و..)، وثمّة آية في القرآن الكريم تجمع بين مرحلتي الإنباء والعقاب، قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) (فصلت: 50).
والتأمّل في آيات القرآن الكريم حول القيامة والبعث يفضي إلى قناعة بأنّ ما يحدث هناك عبارة عن مجموعة مراحل وخطوات متناسقة منطقيّاً، يتمّ طيّها في هذا اليوم العظيم، فمنها العرض والإخبار والإنباء بكلّ ما حصل للإنسان ما له وما عليه، ومنها الحساب والتدقيق في الحسابات، وهنا يكون العفو والتكفير (الذي يعني بالكناية العفو) والحبط وغير ذلك، ثم يتلوه مرحلة الثواب والعقاب، فلا تنافي بين الآيات فيما يبدو لي لو دقّقنا في مديات دلالاتها، ولا حاجة لافتراض التخصيص أو الحكومة، كما هو مذهب جمهور المفسّرين والمتكلّمين القائلين بنظرية العفو والحبط معاً، كما لا ضرورة تفرض إبطال نظرية الحبط انطلاقاً من هذه الآية هنا. وتفصيل الكلام حول حبط الأعمال وسائر إشكاليّاته المطروقة اُحيله إلى مناسبة أخرى. والعلم عند الله.