السؤال: ألا يتعارض قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) مع قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا)؟ وهل الآية الأولى جملة إنشائيّة أم إخبارية؟ (عمار الكعبي، العراق).
الجواب: الآية الأولى ـ وهي قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِين إِلّا مَنْ رَحِمَ رَبّك..) (هود: 118 ـ 119) ـ تشير إلى خبرٍ عن واقع الإنسان عبر التاريخ، وهو الاختلاف في أمر الدين، فالناس مختلفون في أمر الدين، ويرجع اختلافهم ـ وفق نصوص قرآنيّة أخرى ـ إلى البغي الذي يقوم به ولو بعضهم، بلبس الحقّ بالباطل، وتضليل الآخرين وغير ذلك، فالاختلاف في الدين أمرٌ واقع مُخْبَرٌ عنه قرآنياً بوصفه سنّة، لا يُستثنى منها إلا من رحم الله فقط، كما ذكرت ذلك الآية اللاحقة (هود: 119).
أمّا الآية الثانية، فلنلاحظ سياقها، وهي قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 102 ـ 105).
إنّ هذه الآية توجّه خطابها ـ في مطلعها وسياقها كلّه ـ إلى المؤمنين وليس إلى الناس، وتطالبهم بأن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرّقوا، فإنّ تفرّقهم معناه أنّهم سيصيرون كغيرهم من الذين دخلهم البغي والظلم فاختلفوا في الدين، فهذه الآية هنا إنشائيّة، فيما الآية السابقة إخباريّة، ولا تنافي بينهما، ففي الوقت الذي تخبر الآية السابقة بأنّ بين الناس اختلافاً في الدين سببه الظلم والبغي، تأمر الآية اللاحقة المؤمنين بأن لا يختلفوا ولا يسقطوا في الظلم والبغي والانحراف، ليكونوا مصداقاً للاستثناء الذي جاء في الآية 119 من سورة هود (إلا من رحم ربّك..)، أي ليكونوا ممّن رحمه الله بهدايته وعدم وقوع الاختلاف فيه حول الدين، فلا تنافي إطلاقاً بين الاثنين، فأنت تقول: إنّ الناس يظلم بعضهم بعضاً، ثم تقول لأهل مدينتك: لا تظلموا بعضكم؛ لتكونوا استثناءً في الناس.
بل أنت تقول للناس جميعاً: لا تظلموا بعضكم بعضاً، وأنت تعرف أنّ هناك من يظلم ومن لن يسمع لقولك ويطيع أمرك، وهذا ليس بتناقض (بل كلّ الأخلاقيين والقانونيّين يفعلون ذلك لجعل بياناتهم عامّة تقعيدية)؛ لأنّ الجملة الإنشائيّة لا تحتاج لتبريرها المنطقي أن يكون تحقّق تمام مصاديقها ومطلوبها أمراً واقعاً بعدها بالضرورة، بل يكفي توجيه خطاب دعوي للجميع، لكي يهتدوا، فتُلقي الحجّة عليهم بطلب هدايتهم، مع علمك بأنّ الذين سيهتدون من قولك هم الربع منهم فقط، فأيّ تنافٍ مفترض؟! فكلّ المصلحين ورجال القانون والمفكّرين يطلقون شعاراتهم هكذا، مع علمهم بأنّ بعض شعاراتهم لن يأخذه الناس جميعاً، لكنّ هذا لا يعني عبثيّة الشعار أو الإنشاء ولو كان المخاطب هو جميع الناس؛ والسبب هو أنّ من لا يأخذ بالدين والاعتصام المأمور به في الآية الثانية هو نفسه الذي سوف يخالف في الدين فيحقّق مصداق الآية الأولى، فلكي يتحقّق مصداق الآية الأولى فيما أخبرت عنه، لابدّ من الهداية والبيّنات ـ ومنها الأمر بالاعتصام نفسه ـ لكي يصدق أنّ بعضهم تركها بغياً، فحصل الافتراق، فلاحظ جيداً.
هذا، ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع وما يتعلّق به وبمجموعة الآيات التي تحدّثت عن الوحدة والافتراق في الدين، يمكنكم مراجعة بحثي المتواضع تحت عنوان: مبادئ العلاقات الإسلاميّة ـ الإسلاميّة، مطالعة في الفقه القرآني، والمنشور في كتابي المتواضع (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 7 ـ 57)، لعلّ فيه فائدة إن شاء الله.