السؤال: يقول بعض الكتّاب الأردنيين: إنّ أول مظاهر العدالة وإنصاف المرأة، تحرير جسدها من التقاليد البالية بإلغاء الحجاب، وإلغاء الفصل بين الجنسين، ونشر ثقافة الحبّ، وعدم إبقاء المرأة في البيت، ومساواتها مع الرجل في الميراث، ونزع البرقع عن وجهها، إذا خرجت من المنزل، وتحريرها من التقاليد السيئة، وتحرير جسدها، والسماح لها بدخول التجربة العاطفية بإرادتها، ما دامت عاقلة راشدة. إنّ الغريزة التي تربط بين الجنسين إذا استنارت، اتخذت بعداً جديداً، وولدت الحب والإخلاص والإيمان. وعلامة الحب أنه يجمع بين الدوافع والتصور، ومن أحب حباً صادقاً، لن يكون في أذنه وقر عن سماع صوت العقل. فهذا هو الإمام ابن حزم الأندلسي، عندما قرأ قول الله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) ذهب إلى الأخذ بالرأي القائل: اللمم: هي القبلات والمداعبات التي تحدث بين الرجل والمرأة ما دون الزنا، فكان أوّل أئمة الفقه الإسلامي، الذين أقرّوا بفرضية نظرية الحبّ والتجربة العاطفية. وكان أحد الأئمة الذين وقعوا في فخاخ الحب، إذا تعلّق قلبه بالجارية "نعم" وأحبها حباً جمّاً، وكان يخرج إلى قبرها ويقول فيها الشعر الملتهب بالعواطف. وحديث الزانية مشهور، ويظهر فيه تأكيد النبي عليه السلام، على التفريق بين الزنا وهو من الكبائر، وبين اللمم. فقد سأل تلك المرأة، التي راجعته ليقيم عليها حدّ الزنا: أودخل كذا في كذا؟! ويكفي أن نعلم بأنها لو قالت لا، فليس عليها حدّ. وها هو ذا أبو ذر يسمع من النبي قوله: ما من عبد قال لا اله إلا الله ثم مات على ذلك إلا ودخل الجنة. وقتئذ سأله أبو ذر: وإن زنى، وإن سرق؟! قال النبي: وإن زنى، وإن سرق. فأعاد أبو ذر السؤال مرتين وثلاثاً، حتى قال النبي: وإن زنى، وإن سرق، رغم أنف أبي ذر! ويجب أن نفهم بأنّ المرأة التي تبيع جسدها، ليست مدفوعةً بالشهوة، ولكن الذي يدفعها إلى ذلك، هو الجهل والعجز عن كسب قوتها عن طريق شريف، والنقص الذي نشاهده في أخلاقنا، وما أصابنا من فتور وقلّة اكتراث، وما ابتلينا به من بلادة في الإحساس، وفي تذوّق الجمال، كلّ ذلك إنما هو ناشئ من نقص في تربيتنا الأولى.
شيخنا الجليل، ما هو تعليقكم على هذا الكلام؟ (أ. من الكويت).
الجواب: أولاً: إنّ ما نقله عن الإمام ابن حزم الأندلسي لم أعثر عليه في كتبه، بل رأيت له في كتاب (المحلّى) الذي هو موسوعته الفقهية التي تمثل المذهب الظاهري يقول: (مسألة: والمعاصي كبائر فواحش وسيئات صغائر ولمم، واللمم مغفور جملةً، فالكبائر الفواحش هو ما توعّد الله تعالى عليه بالنار في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اجتنبها غفرت له جميع سيئاته الصغائر. برهان ذلك قول الله عز وجل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إنّ ربك واسع المغفرة) واللمم هو الهمّ بالشيء، وقد تقدّم ذكرنا الأثر في أنّ من همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء) المحلى ج1، ص41. وله كلام قريب من هذا في كتابه الأصولي: الإحكام في أصول الأحكام 6: 867. فهذا النصّ يجعل اللمم خارج المعاصي كلّها صغائرها وكبائرها، على خلاف ما جاء في الكلام المنقول أعلاه، ولعلّه في مكان آخر لم أوفّق للعثور عليه.
ثانياً: إذا وقع الإمام الأندلسي نفسه في الحبّ فلا ضير، فليس الحبّ بحرام، ولا أظنّ فقيهاً يملك دليلاً على تحريم الحبّ، وقد سبق أن نشرتُ في مجلةٍ إسلامية تصدر في لندن بحثاً مختصراً في هذا الموضوع تحت عنوان: أزمة الحبّ والإيمان، وتوصّلت إلى أنّ الحب العذري لا مشكلة فيه في حد نفسه، إنّما المشكلة في أن يصاحبه ما هو محرّم.
ثالثاً: إنّ حديث الزانية لا يفيد جواز غير الزنا، فإنّ النبيّ سأل عن الدخول لكي يتأكّد من تحقّق موجب الحدّ، أي الجريمة التي توجب عقوبة الحدّ، لا لكي يتأكّد من أصل الحرام، وهنا نسأل: كيف عرف الكاتب الكريم أنّ سؤال النبي كان عن الحرام وأنّ غيره جائز، مع أنّ الحديث لا يفصح عن ذلك، ولم تثبت قاعدة أنّ ما من معصية ففيها التعزير بنحو مطلق.
رابعاً: وأمّا حديث أبي ذر الغفاري فإنّني أعجب من بعض الكتّاب المعاصرين يريدون أن يستفيدوا من هذا الحديث ولطالما هاجموه؛ لأنّه يعطّل العمل ويشلّ فعل الالتزام بالقانون عند الأمّة، إنّ هذا الحديث اتخذ منه العلماء موقفين: أحدهما رفضه لأنّه يخالف القرآن الكريم الذي دلّ على نزول عقوبات أخروية ببعض المعاصي غير الشرك مثل القتل وأذية المؤمنين وغير ذلك. ثانيهما: تفسيره على نفيه الخلود في النار للمسلم لا نفي دخول النار، وهذا هو تفسير المشهور منهم، فيكون معنى الحديث أنّ المسلم يدخل الجنّة بالتأكيد ولو فعل أعظم الكبائر؛ لأنّه مسلم، لكنّه يدخل النار قبل دخوله الجنّة، والله يعلم كم يمضي فيها.
خامساً: إنّ الحديث عن المرأة التي تبيع جسدها يمكننا أن نطبّقه على كلّ الجرائم المخالفة للقانون من السرقة والاختلاس والاحتيال والكذب والتزوير؛ لأنّه ما من جريمة قانونية إلا ويمكن التعاطف نفسياً مع بعض مرتكبيها، ونحن لسنا ضدّ هذا التعاطف في بعض الظروف الخاصّة، فقد أسقط الإسلام حدّ السرقة عمّن سرق في ظروف المخمصة والمجاعة، تفهّماً منه للظروف الضاغطة، وهناك في الفقه الإسلامي من يتحدّث عن موجبات تخفيف العقوبات في بعض الحالات، وقد ذهب السيد محمّد باقر الصدر ـ فيما ينقل عنه ـ إلى سقوط حدّ الارتداد في حال كان الجوّ الاجتماعي كلّه جوّ شك والتباس، كما في مثل عصورنا هذه، كما أنّ التعزيرات يأخذ فيها الحاكم الظروف التي من هذا النوع، فهناك فرق بين الحديث عن ظروف تخفيف العقوبة بحسب التسمية الفقهية والقانونية، وبين الحديث عن عدم تعنون الفعل بأنّه جريمة، بحيث نريد من بعض الظروف الاستثنائية أن نقنع أنفسنا بأنّ هذا الفعل ليس بجرم من الأساس. وأظنّ أن هذا هو الخطأ الذي وقع فيه الكاتب المحترم.