السؤال: ما رأيكم في أداء بعض القنوات المذهبيّة، مثل….. وذلك بالتركيز على الطقوس والشعائر، بدل طرح الفكر والمنهج الإسلاميين في شتى علوم الحياة؟ أليس هذا تقزيم للإعلام الديني في زمن أهميّة دور الإعلام في نشر الفكر والمعرفة؟ (جوادي علي).
الجواب: للإعلام دور مهمّ جدّاً في عصرنا الحاضر، وهو السلطة الأولى أحياناً وليس الرابعة كما يقولون، وإنّنا بحاجة لعقول إعلاميّة ناضجة قادرة على تغطية كلّ المجالات التي يحتاجها المشاهد والمستمع، لتكون معيناً له على قضايا دينه ودنياه، وسدّاً للفراغ الذي يعيشه أحياناً، وتقديماً للبديل الجذاب أمام حمّى القنوات الأخرى التي تجتذب شبابنا نحو قضايا، أقلّ ما فيها أنّها تسطيح للوعي وإدخالنا في غيبوبة ثقافية وسياسية ودينية.
لكنّ المشكلة أنّ بعض قنواتنا الدينية لا تعرف عن الإعلام إلا ما تعرفه عن الدين، والدين عندها كأنّه ليس سوى بعض العقائد (وليس كلّ العقائد)، فإذا حصلت على هذا البعض العقائدي فقد انتهى الدين وتمّ! مع أنّ المفروض أن يكون بدأ لنرى امتداداته الناتجة عن هذه الاعتقادات، ولتفتح لنا القنوات الفضائية مجال الحديث في سائر قضايا الدين والفكر والحياة والإنسان والاجتماع والحضارة و.. هنا تكمن المشكلة ليس في العقل الإعلامي فحسب، بل في العقل الديني الذي يقف خلف هذا العقل الإعلامي، وهو العقل الذي كأنّه لا يرى في الدين سوى مجموعة اعتقادات وكفى!! بل ويذمّنا وينهانا عن أخذ العِبرة من التاريخ، مكتفياً بالعَبرة والحزن، وكأنّ ضمّ الأوّل إلى الثاني حرام، رغبةً في الإغراق باللامعقول. وكأنّ الفكر والثقافة والسياسة والاجتماع والفنّ والجمال والاقتصاد والتاريخ والتربية والتعليم والطفولة والمرأة والجنس والعمل والطبقية والظلم الاجتماعي والسياسي والحضارة والإنسان والأنا والآخر وهموم الناس وقضاياهم وغير ذلك لا شأن للدين بها، فالدين كلّه هو أن تعتقد بأربع جمل أو عشرة جمل خبرية ويتوقّف!! هذه هي الكارثة الفكرية بامتياز عند بعض القنوات وما يقف خلفها من فكر ديني.
والأنكى من ذلك، أنّ سائر العلوم الدينية لا تجدها حاضرةً ـ إلا نادراً ـ في التثقيف الإعلامي، فلا الفقه ولا الأخلاق ولا تفسير القرآن ولا الحديث ولا الفلسفة ولا العرفان ولا غيرها من العلوم والمعارف الإسلاميّة بالتي تأخذ حظها، بل ولا حتى اللغة العربية رمز موروثنا الثقافي، وكأنّ الدين ليس هذه ولا علاقة له بها!
بل الأسوأ من هذا، وما يدمي القلب ويبعث على التأسّف والخجل، تلك الوسائل الإعلامية التي نذرت نفسها للتفريق بين المسلمين، وسبّ رموز بعضهم بعضاً، وآلت على نفسها إلا أن تجعل عدوّها أخاها المسلم، وهي تنطلق أو تبث من دول الكفر والإلحاد!! من الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا وغيرها، فنجدها تسكت عن الغرب، بل وتمتدحه أحياناً، وتعظّم من ملوكه وسلاطينه، فيما تنزل جام غضبها على إخوتها من المسلمين، لتهين مقدّساتهم وتشكّك الناس بنزاهتهم وأخلاقهم، وتمزّق شملهم، وتستخدم أبشع الألفاظ وأسوأ التعابير الهابطة البائسة الكاشفة عن تدنّي الأخلاق والقيم الروحية الدينية الرفيعة.
لا أقصد بذلك قناةً بعينها، ولا قنوات مذهبٍ بعينه، بل هذه هي حال بعض قنوات هذا المذهب أو ذاك. خطابٌ ديني بائس يرتدّ إلى القرون الغابرة، غارق في الخرافة والتهريج، مستفزّ لأبعد الحدود، حتى لتجد بعض أنصاف العلماء وأرباعهم (وأحياناً أقلّ من عشر معشارهم) يدّعي أنّه أعلم من المراجع الكبار في طائفته ويهزأ بأكبر مراجع الأمّة عند هذا المذهب أو ذاك، مدّعياً أنّه خادم المذهب أو أنّه نصير الصحابة ومدافعهم!!
1 ـ إصدار كبار العلماء والمرجعيّات الدينية الكبرى في المذهبين مواقف واضحة مُدينة وشاجبة لهذا النوع من الإعلام الديني، أو على الأقل موجّهة له ومرشدة، وإذا لم تتفق المرجعيات على موقف فلتقدم على ذلك تلك المقتنعة ولو كانت لوحدها، فطريق الهدى لا وحشة فيه ولو قلّ سالكوه.
2 ـ دعم سائر القنوات الدينية الطيبة التي نجد عندها ـ رغم أنّها قد لا تكون بمستوى الطموح ـ وعياً وهمّاً رساليّاً، واهتماماً بسائر قضايا الدين التي تشغل همومُها شبابَنا اليوم. فهناك العديد من القنوات الدينية ـ وليست بالقليلة ـ عند هذا المذهب أو ذاك تخلّصت بدرجة جيدة من سلبيات تلك القنوات التي تحدّثنا عنها، وقدّمت أنموذجاً أفضل نسبيّاً، ودعم مثل هذه القنوات بالشكل الممكن وتقويتها وتطويرها واجبٌ علينا جميعاً.
3 ـ تصدّي العلماء الحقيقيين لمجال الإعلام المرئي والمسموع، دون قمع الآخرين، لكي يطلّوا على الناس من موقع الخبرة والفهم الديني، ولا يتركوا صغار القوم يستبدّون بتمثيل ملايين المسلمين في هذا المذهب أو ذاك.
4 ـ القيام بورش عمل مكثفة وناشطة في الحوزات والمعاهد والجامعات الدينية، تعمل على تربية وإعداد كوادر علمائيّة وثقافية واعية، وعلى إنجاز عمل إعلامي وشخصيّات إعلامية ناضجة، بدل ترك الأمور للعفويّة القائمة حالياً على بعض الصعد.
5 ـ الاهتمام بمجال العلوم الدينية الأخرى غير الفقه عند الشيعة والحديث عند السنّة، والتركيز أيضاً على القضايا المعاصرة (غير العقائد المذهبية)، بوصفها همّاً كبيراً أمام الشباب اليوم، وعلى رأسها حركة الإلحاد الجديد.
6 ـ السعي لتكريس إعلام تسامحي وإنساني، وتقديم صورة وسطيّة في الإعلام عن الإسلام والدين عموماً.
7 ـ تأسيس قناة تلفزيونية إسلامية يديرها الشيعة والسنّة على السواء، ويشاركون فيها في كلّ صغيرة وكبيرة، تقدّم خطاباً متفاهماً ومتسامحاً يقرّ بحقّ الاختلاف والنقد المتبادل، وفي الوقت عينه يحترم كلّ فريق فيه الآخر، فنقدّم بذلك أنموذجاً للإعلام الوحدوي الحقيقي.
8 ـ أعرف أنّ هذا كلّه صعب مستصعب، لاسيما في ظلّ ظروفنا السياسية القاتلة الحاليّة، لكنّ الأمل والتفكير خير من السكوت والإحباط وضرب الأكفّ على بعضها، فإذا أخلصنا النية لله تعالى لربما أمكن لنا الدخول في مرحلة خلق نواة جديدة لمنطق ديني جديد، ووعي ديني آخر، إن شاء الله تعالى.