السؤال: هل يمكن للعقل البشري أن يتوصّل إلى ملاكات الأحكام وعللها، خاصّةً الأحكام الاجتماعية وليست التعبدية الفردية؟ بحيث نقترب أكثر من روح الشريعة ومقاصدها مما يجعل الأحكام الشرعية مرتبطةً بواقع الحياة، بحيث يستشعر البشر مدى حاجتهم لها إذا علموا ما ستحقّقه لهم هذه الأحكام لو التزموا بها؟ خاصة أنّ البعض يستشهد بمجموعة من الآيات لإثبات عدم قدرة العقل البشري على كشف ملاكات الأحكام، منها مثلاً عندما يذكر الله سبحانه وتعالى الجهاد وأنّه مكتوب عليكم وهو كره لكم، ثم يضيف قائلاً: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة: 216)، وكذلك ورد هذا التذييل في آيات الطلاق، حيث إنّ الله تعالى بعد بيان أحكامه بأنها أزكى وأطهر يقول: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة: 232). وكذلك في مورد الإرث وبعد بيان سهم كل من الرجل والمرأة والأب والأم والأولاد، يقول الله تعالى: (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إنّ الله كان عليماً حكيماً)… الإشكالية الحاصلة لديّ تكمن في اعتقادي بأنّ الشريعة حتى تكون حيّةً بين الناس ومرتبطة بواقعهم لابد أن تكون ملاكات الأحكام ـ خاصّةً الاجتماعية ـ واضحة ومعروفة لدى الناس، ويمكن للعقل أن يكتشفها بحيث يفهم الناس الحكمة منها ويستشعرون حاجتهم إليها، وبالتالي يقبلون عليها راغبين دون إكراه أو إلزام، بحيث تتغيّر النظرة إلى الحكم الشرعي من اعتباره مجرّد حكم تعبدي بحت قد يفهمه البعض بأنه أغلال وقيود، إلى اعتباره معالجة إلهية للقضايا التي يواجهها الإنسان في المجتمع، يطلبها العقل ويطمئن لها القلب.. فباعتقادي أنّه كلّما اتضحت ملاكات الأحكام للعقل كلّما تجلّى جلال وجمال الشريعة الإلهية وزاد تعلّق وارتباط الإنسان بها.. فما هو رأيكم في هذا؟
الجواب: إذا صرّحت النصوص بالعلّة أو استطاع الفقيه بجمع الشواهد والقرائن تحصيل الاطمئنان بعلّة الحكم وملاكه، فلا مشكلة، لكنّ اعتماد الظنون في تفسير ملاكات الأحكام هو المشكلة الأكبر؛ حيث لا يمكن أن ندرك أسرار الشريعة بمثل هذه الظنون التي لم يقم عليها من الله حجّة. نعم قد يلاحظ ـ أحياناً ـ في طريقة الفقهاء السائدة مبالغة في المنع عن قدرتنا على معرفة الأحكام من حيث الملاك، وفي تقديري المتواضع فإنّه يمكن الوصول إلى الملاكات بنسبة لا بأس بها، والنصوص نفسها تساعدنا على ذلك أيضاً ممّا جرى إغفاله في كثير من الأحيان. لكنّ مع ذلك فاعتقادي هو أنّ تحصيل الملاكات كلّها أو غالبها، بما في ذلك القضايا الاجتماعية، صعبٌ وعسير جداً، ما لم تتغيّر عمليّة الاجتهاد نفسها تغيّراً جذريّاً. أما الحديث عن جمال الشريعة فيمكن فيه أن نتحدّث عن حكمة التشريعات، عندما لا يتسنّى الحديث عن الملاكات، فالحكمة غير الملاك، وقد استفاد العلماء كثيراً من الحكمة ـ لاسيما المتأخرون منهم ـ في إعطاء صورة ناصعة عن الشرع بصرف النظر عن مستوى النجاحات التي حقّقت في هذا السياق، لكنّ الحكمة لا نستطيع من خلالها الجزم بالعلّة والاجتهاد وفقاً لها.