السؤال: مسألة الغناء من المسائل الشائكة شيخنا، وإذا اتضحت صورتها النظريّة تبقى تطبيقاتها العمليّة صعبة، ونحن نرى هناك من الأغاني والأناشيد وأنواع مختلفة من الموسيقى تمنح الحماس والقوّة والهدوء والسلام والحبّ و… والسؤال: ما هو المشهد الفقهي في الغناء والموسيقى عند الفقهاء؟ وما هو رأيكم الاجتهادي؟ وهل تستطيعون تبسيط الصورة لنا عمليّاً؟ وجزاك الله خير الجزاء ودمتم موفقين.
وهناك مسألة أخرى أحببت أن أثيرها، وهي المشاكل التي تحصل أثناء إقامة حفلات الزواج، والانسحابات التي تحصل من الحفلة؛ نتيجة اختلاف الفتاوى، وحتى الأشخاص الذين تحلّ عندهم بعض أنواع الموسيقى ينسحب بسبب الاختلاف على المصاديق، كيف لنا أن نحلّ هذا الأمر؟
الجواب: الرأي المعروف عند الفقهاء المتأخّرين، ومنهم أغلب مراجع التقليد الحاليّين، هو أنّ الحرمة في الغناء متوجّهة إلى اللحن والإيقاع الموسيقي لا إلى الكلمات أو مضمونها، فإذا تكلّمت بكلام حقّ كالقرآن الكريم أو الشعر الوطني أو الثوري أو الإنساني، لكن بلحن غنائي، فإنّهم يحكمون بحرمته، ولكنّ القضيّة تكمن في طبيعة الإيقاع الموسيقي للأغنية والذي يوجب تحويلها إلى محرّم من حيث الأداء والاستماع معاً، فالفقهاء في الغالبية الساحقة إن لم نقل جميعهم لا يذهبون إلى حرمة كلّ إيقاع موسيقي، وإن نسب إلى بعض قليل منهم، بل يرون أنّ الإيقاعات الموسيقية للأغنية ـ وأقصد بالإيقاع الموسيقي ليس الصوت الصادر من الأدوات الموسيقية بالضرورة، بل طبيعة اللحن الذي يصدر من المغنّي ـ تكون على نوعين، فهناك إيقاعات تحدث طرباً وتتناسب مع مجالس لهو أهل الفسق والفجور، وهناك إيقاعات لا تتناسب مع أهل اللهو والباطل ومجالس الفسق والفجور، وهذا المفهوم يعني أنّ اللحن الحرام ـ ومن ثمّ الأغنية الحرام عندهم ـ هي تلك الأغنية التي إذا سمعتها رأيت تناسباً وتشابهاً بين إيقاعها الموسيقي وبين ما هو رائج في متعارف أهل الحفلات والفنّ والغناء اللهوي من ألحانٍ وأصوات، وعندما يكون هذا هو المعيار فمن الطبيعي أن القضية ستكون نسبيّةً، يُرجع فيها للعرف في كل زمان ومكان، فربّ لحنٍ ما في زمنٍ ما يتناسب مع الشائع في أوساط الأغنية اللهويّة التي يلتقي عليها أهل الفسق والفجور، لكنّ اللحن عينه يغدو في زمانٍ آخر خارج هذا السياق؛ لأنّ الأغنية تتغيّر أيضاً جيلاً بعد جيل في نوعية الإيقاع الموسيقي الذي تختاره، وإذا كان فقيهٌ قد قال في الستينيات من القرن الماضي مثلاً بأنّ أغنية فلانة أو فلان حرام؛ لأنّها تتناسب مع مجالس الفسق والفجور، فهذا لا يعني بالضرورة أنّها حرام الآن، بل لابدّ من عرضها على الشائع في عصرنا لنرى هل تتناسب أم لا؟ وهكذا الحال لو حكم آنذاك بحليّتها؛ كونها لا تتناسب.
ولكي أكون أوضح، يمكنني القول بأنّ التناسب عملية يمكن اكتشافها عفويّاً من جانب شخص سمع أو اعتاد أو طرق سمعه مراراً ألحان مجالس الطرب والملاهي، فهذا الشخص عندما يستمع إلى لحنٍ أو أغنية ما، يمكنه ـ بطريقة عفوية ـ أن يقول لك بأنّ هذا اللحن متعارفٌ في تلك الأوساط اللهوية والفسقيّة، أو يقول لك بأنّه غير متعارف أو هو غريب عن تلك الألحان والأغاني، تماماً كما هي الحال عندما تستمع إلى لحنٍ، فتقول بأنّ هذا اللحن يتناسب مع الأغنية الأجنبيّة أو مع الأغنية العربيّة أو مع الغناء الهنديّ، بل قد تدخل في تفاصيل أكثر لتقول بأنّه يتناسب مع موسيقى الروك أو البوب أو غير ذلك.
وهذا التحديد الذي طرحه الفقهاء لن يحلّ المشكلة التطبيقية قطّ، ولم يدّع الفقهاء ذلك، وليس هذا أوّل موضوع يقع اختلاف في مصاديقه، فقد يقع اختلاف في أنّ هذا اللحن متناسب مع مجالس الطرب والملاهي أو لا، فيقول شخصٌ بتناسبه فيما يرى آخر عدم ذلك، وفي هذه الحال قد يتساءل عن الحلّ، ما هو؟ وكيف؟
وللجواب عن هذه القضيّة، يرى الفقهاء المتأخّرون في الغالب أنّ المرجع إمّا حصول الاطمئنان للشخص من خلال خبرته الذاتية، أو رجوعه إلى من يشهد له من أهل الخبرة والاطلاع بأنّ هذا اللحن يتناسب مع ذلك الجوّ، لكن لو لم يحصل له كلا الأمرين، واضطرب موقف أهل الخبرة، وصعب ترجيح بعضهم على بعض من خلال الخبروية الأزيد هنا أو هناك، ففي هذه الحال يحكم الفقهاء في العادة بأنّ الأغنية المشكوكة يجوز الاستماع إليها؛ لأنّ هذا من الشك في الشبهة المصداقية بحسب تعبيرهم، ولا يمكن إثبات الحرمة على مورد أو حالةٍ لا نعرف بكونها مصداقاً للغناء المحرّم، فيجوز الاستماع إلى أن يثبت العكس، وبعض الفقهاء احتاط وجوباً هنا في حالة التردّد، كالشيخ جواد التبريزي رحمه الله، وإن كانت له عبارات توحي باختياره القول الأوّل.
وأمّا فيما يتعلّق بقضيّة الخلافات التي أشرتم إليها في المناسبات والأعراس، فأعتقد أنّها قضيّة لابدّ وأن تحلّ اجتماعيّاً، وليس لها أيّ حلّ فقهي أو شرعي، فإمّا أن يتنازل هذا الفريق ليحتفظ ببقاء الآخرين في الحفل، أو تنظّم الأمور بطريقة لا يحصل تصادم بين الفريقين ويصار إلى وضع صيغة توافقيّة معيّنة، ولا تملك الأدوات الفقهيّة ـ في حدود معلوماتي البسيطة ـ حلولاً لمثل هذه المشكلات الناتجة عن الاختلاف في المصاديق أو في التقليد، فعلى كلّ واحد أنّ يعمل بحسب موقفه الشرعي. ويمكن هنا أن نشير ـ فقط ـ إلى ضرورة التخلّي عن المبالغات التي قد تدفع بعضهم للمزايدة، حتى على الموقف الفقهي، بادّعاء تسمية ذلك بالاحتياط، كما ينبغي للذين ليس لهم تحفّظ شديد، بحسب اجتهادهم أو تقليدهم، أن يخفّفوا من التساهل في التشخيص؛ لأنّ هذا التساهل كثيراً ما يحصل أيضاً، وربما يخفّف هذا ـ مع التركيز على مرجعيّة الحكم الشرعي وليس مرجعيّة الأمزجة ـ من هذا الوضع القائم.