السؤال: ذكرتم في مقالتكم حول النهضة الحسينيّة، هل هي ثورة إصلاحيّة أم انتحار سياسي: أنّ الحركة الحسينية لم تكن مخطّطاً لها تخطيطاً مسبقاً بشكلها الحالي، بل حصل فيها تبدّل في الأهداف الاستراتيجيّة، فعندما خرج سيّد الشهداء من المدينة لم يكن قاصداً كربلاء ولا الشهادة، ولكنّ خيار الشهادة جاء بعد الاستقرار في كربلاء. كيف ينسجم هذا الكلام مع الروايات المعروفة في أنّ مسألة الشهادة معروفة منذ زمن رسول الله؟! (جعفر الزنكي، العراق).
الجواب: أولاً: لقد أشرت في المقال الذي أرجعتم إليه إلى أنّ هذه المحاولة التفسيريّة تأتي بصرف النظر عن بعض الخلفيّات العقديّة والمذهبيّة، وأنّها محاولة تفسير محايدة من هذه الزاوية.
ثانياً: إذا كنتم تقصدون الروايات التي صرّح فيها الإمام الحسين بأنّه يذهب شهيداً إلى كربلاء، فقد بحثتُ شخصيّاً هذه الروايات في بحثي المتواضع تحت عنوان (الحركة الحسينية والتأصيل الفقهي لشرعيّة الثورة)، والذي نشر في موقعي الالكتروني، وكذلك في الجزء الثالث من كتابي (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 3: 303 ـ 363)، وناقشت ما يتعلّق بها، وهي نصوص قليلة العدد رغم تداولها الشعبي على نطاق واسع، أغلبها جاء في مصادر متأخّرة، ويعاني بعضها من مشاكل في مصادره، وبعضها الآخر يعاني من مشكلات في طريقة إثباته التاريخي، ويعاني قسم ثالث منها في دلالته على المفهوم الذي فسّره به العلماء، كما يعاني مجموعها من نصوص معارضة إلى درجة معيّنة وردت في مصادر قديمة في التاريخ والسيرة. ويمكنكم المراجعة كي لا نطيل.
ثالثاً: إذا كنتم تقصدون التوفيق بين التحليل الذي قلته وبين نظريّة علم الإمام بموته، فيمكنكم أيضاً مراجعة البحث المشار إليه، وأنّ تلك النظرية في علم الإمام ـ لو تمّت ـ فلا تغيّر من سلامة التحليل الذي قلناه شيئاً، وهناك أيّدتُ قولي ببعض ما طرحه كلّ من السيد الشهيد محمد صادق الصدر والعلامة التستري صاحب الخصائص الحسينيّة، وقلت بأنّ علم الإمام بالغيب لا يعني أن حركته محكومة لهذا العلم، بل هو يسير بعلمه العادي ومعطياته الظاهريّة، ألا ترى النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وأهل بيته الكرام ـ يقضي بين المؤمنين، كما يقول هو نفسه، بالأيمان والبيّنات، ولا يقضي بعلمه الغيبي، فهذا من هذا، فلا مانع من أن يكون عالماً بالمآلات علماً غيبيّاً، وفي الوقت عينه تكون حركته محكومة للعلوم الظاهريّة وكأنّه ليس بعالمٍ بالغيب، ونحن ندرس حركته الظاهريّة، ولا ندرس علم الغيب الذي عنده، أي ندرس أداءه الظاهري الذي هو معيار الحجيّة والاعتبار بالنسبة إلينا.
علماً أنّ العلماء مختلفون في قضيّة علم الإمام بموته ونهايته، فقد ذهب السيد المرتضى والشيخ المفيد ـ على سبيل المثال ـ إلى أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على علم الحسين بغدر أهل الكوفة له (راجع: تلخيص الشافي 4: 183 ـ 185؛ والمفيد، المسائل العكبريّة: 71)، كما ذهب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلى أنّ علوم الأئمّة بالغيب يمكن أن يعرضها البداء، لهذا كانوا يحتملون دوماً عروض البداء على علمهم (جنّة المأوى: 189 ـ 190).
رابعاً: إذا كنتم ـ كما بدا من سؤالكم ـ تقصدون النصوص النبويّة التي أخبرت بأنّ الحسين ابني هذا شهيد، وسيُقتل في أرض كذا وكذا، وستكون نهايته الشهادة، وأنّ أمّتي تقتله وما شابه ذلك، ورواية أمّ سلمة و.. فإنّني أدعوكم لمراجعة تلك النصوص التي جُمع أغلبها في الجزء الرابع من كتاب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، من تأليف الشيخ عزت مولائي والشيخ محمد جعفر الطبسي، وهناك عندما ترجعون لهذه النصوص أرجو أن تقرؤوها من هذه الزاوية: هل هذه النصوص ـ بصرف النظر عن قيمتها التاريخية والحديثية ـ تقول بأنّ نهاية الإمام الحسين هي الشهادة أم تقول بأنّ نهايته الشهادة بتاريخ كذا وكذا؟ فإذا كانت تحدّد الوقت بطريقةٍ أو بأخرى، كان إشكالكم وارداً، وأنا أقبل به، بصرف النظر عمّا تقدّم، وأمّا إذا كانت تقول فقط بأنّ نهاية هذا الإمام هي الشهادة، فهذا المعطى لا يحدّد الزمان، بمعنى أنّه من الممكن أن يكون الإمام عالماً بأنّ نهايته الشهادة بموجب الإخبار النبوي ـ بصرف النظر عن علم الإمام بالغيب ـ لكنّه ليس عالماً بأنّ الشهادة الموعود بها ستقع في هذا العام.. أرجو أن نتوقّف قليلاً عند هذه القضيّة المهمّة في تحليل المسألة، فإذا قلتُ لك بأنّ نهايتك في هذه الحياة هي الموت والقتل من قبل الأتراك، وكنتَ أنت من أهل العراق، وسافرتَ هذا العام إلى تركيا، فهل يعني الإخبار السابق أنّك ستعلم بمقتلك هذا العام أم سيكون مجرّد احتمال ولو فيه بعض القوّة؟! ألا يمكن أن يكون الإمام الحسين عليه السلام عالماً بأنّ نهايته في العراق هي الشهادة لكن قد يحصل ذلك بعد عشرين سنة من ذهابه إليها وانتصاره وتحقيق الأهداف الكبرى بإقامة شرع الله فيها؟ فهل من ترابط بين إخبار النبي بمبدأ قتل فلان من قبل الجماعة الفلانية وبين أن يصبح هذا الشخص عندما خرج إلى تلك الجماعة عالماً بموته في هذه السنة؟! هذا يحتاج إلى معطى إضافي. ألم يقل الرسول لعمّار بن ياسر: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، ومع ذلك لم يقل أحد لعمّار عندما خرج للقتال في صفين بأنّك ستقتل في هذه المعركة؟ بل لاحظوا النصوص والروايات التي تحكي عن مناقشات بعض الصحابة للإمام الحسين عليه السلام وبعض هذه الروايات استُدلّ بها لصالح التفسير الغيبي لقضيّة الثورة، فإنّنا نجد أنّ الصحابة لا يقولون للإمام بأنّك ستقتل هناك كما أخبرنا النبيّ، بل يذكرون له أنّك ستخذل؛ وذلك من خلال المعطيات التي حصلت مع والدك مع أهل الكوفة، فهم يبرّرون قولتهم بمعطيات تاريخية وميدانيّة، ولا يقولون له بأنّ النبي أخبر بشهادتك في هذا الخروج، كيف ولو كان النبي أخبر بشهادته في هذا الخروج بالذات فلماذا لم يقل لهم الحسين عليه السلام ذلك؟! ولماذا لم يذكّرهم بقول النبي في هذه المسألة ليسكتهم في اعتراضهم ويقنعهم بخروجه امتثالاً للقدر وما أخبر به الرسول الصادق من أنّه سيخرج إلى العراق وسيقتل هناك؟! ولعلّه لكلّ هذا الذي قلناه ذكر الشيخ المفيد في كتابه (المسائل العكبريّة: 69 ـ 70)، أنّ الإمام لا يملك العلم المطلق هنا، بل هو يعلم ما يكون من مقتله، دون أن يعلم التفاصيل. فلو كان هناك في الروايات ما يفيد تحديد الزمان والتفاصيل وكان ذلك معتدّاً به ـ لا مثل رواية واحدة متأخّرة المصدر يتيمة مثلاً ـ فهو ينفع، وإلا فالحسين عليه السلام ولو علم أنّ نهايته الموت في العراق لكن ما دام لم يحدّد الزمن من قبل النبي الأعظم، فهذا يعني أنّه مُلزم بأداء تكليفه؛ إذ قد تكون شهادته بعد ثلاثين سنة من مشروعه التغييري هذا، ومجرّد أنّه عالم بشهادته من حيث المبدأ لا يسقط ذلك قيمة مشروعه التغييري هذا، تماماً كما كان علي عليه السلام عالماً بما ستؤول إليه أخبار الخارجين عليه، وأنّه سيقتل في لحظة ما، ومع ذلك قام بواجبه وأسّس لتجربة ممتازة، حتى لو سقطت بعد ذلك بفعل المتخاذلين والمتآمرين، فلو نجح الحسين عليه السلام في إقامة دين الله لثلاثين سنة، كنّا اليوم نملك رصيداً كبيراً في الفكر والممارسة والتجربة، كما امتلكنا ذلك مع العصر النبوي والعصر العلوي حتى لو كانت المآلات مؤلمة ومفجعة. ولهذا لاحظوا الروايات التاريخية كيف أنّ الإمام الحسين عندما علم أنّه وصل إلى كربلاء، وازدادت الشدّة، كأنّه أعلم أصحابه بأنّ هذا هو موطن شهادتنا، فطبّق العنوان على المصداق الزمكاني عندما تعاضدت القرائن.
المهم في دراسة الأحداث التاريخية أن لا نقرأها بعيون الذين أتوا بعدها فقط، بل نحاول أن نكون وكأنّنا نعيش في تلك اللحظة الزمنيّة، فنحن نعلم اليوم بما حصل وتفاصيله، لكن فلنحاول أن نكون قبل شهادة الإمام عليه السلام، ونفكّر بعقليّة تلك اللحظة الزمنيّة، حيث الأفراد لا علم لهم بتفاصيل الشهادة، كلّ ما يعرفونه أنّ الإمام الحسين ستقتله الفئة المنحرفة عن الإسلام، أمّا كيف ومتى وما التفاصيل؟ فهذا نحن نعلمه، لكن من غير المعلوم أنّ أبناء تلك اللحظة يعلمونه من إخبار النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، إذ هم يعلمون المبدأ دون التفاصيل الزمنيّة، فإذا قرأنا الأمور بهذه الطريقة فقد نكتشف الخيارات بطريقةٍ أفضل.
إذن الموضوع له أكثر من جانب، ويحتاج للتفكير من عدّة جهات، ولا أريد أن أبتّ الآن في المسألة، فقد تحتاج لمزيد مراجعة قبل ذلك، وإذا تمكّنتم من اكتشاف شيء إضافي فسأكون سعيداً بالاستفادة ممّا توصّلتم إليه.
وفقكم الله.