السؤال: استمعت إلى دروسكم في نظرية المعرفة من كتاب فلسفتنا للسيد الشهيد الصدر ـ أعلى الله مقامه ـ واستوقفتني نقطة طالما تكرّرت، ألا وهي أنّ الإدراكات التصوّرية ليس فيها أيّ كشفٍ عن الواقع الموضوعي الخارجي، وإنما هي محض مرتسمات ذهنية لا تفيد اليقين بأنّ الواقع الموضوعي موجود. ولكنّي أجد نفسي عاجزاً عن التسليم بهذا الكلام؛ لكون مصدر التصوّر الأساس هو الحسّ؛ لأنّ ما أفهمه هو أنّ الإيمان بكون الحسّ هو المصدر الأوّل للمعرفة التصوّريّة، وفقاً للنظرية الإسلامية للمعرفة، هو فرع كونه حاكٍ عن الخارج، ولازمه كون الواقع الموضوعي متحقّقاً، وإلا كان القول بأنّ الحسّ مصدر المعرفة كلاماً لا معنى له، أرجو إفادتنا. (عبد الله).
الجواب: يعتقد الكثير من فلاسفة المسلمين ـ بصرف النظر عن مدى موافقتهم على ذلك ـ أنّه عندما يمنحنا الحسّ صورةً عن الواقع الخارجي، يبدأ الذهن بالإحساس بالصور لأوّل مرّة، ويصاحب هذه الصور إدراك تصديقي بالواقع الخارجي، وهنا يأتي الفيلسوف المعرفي (الايبستمولوجي) ليحلّل، ما الذي حصل في جهازنا الإدراكي، إنّه يقول لنا: إنّ جهازنا الإدراكي تعرّف أو شهد ظاهرتين في داخله مندمجتين، بحيث خيّل إلينا أنّهما ظاهرة واحدة، الظاهرة الأولى هي التصوّر، بمعنى حصول صورة في الذهن، بصرف النظر عن استحضار فكرة حكاية هذه الصورة عن الخارج أو عدمه، والظاهرة الثانية هي التصديق، بمعنى أنّنا بتنا ندرك ونعتقد بأنّ ما في ذهننا حاكٍ عن الواقع الخارج عن ذواتنا، إنّ ما يحدث في الذهن البشري عندما نفتح أعيننا على الخارج هو ظاهرة ملتحمة، لكنّ الفيلسوف يقوم بتحليلها وتفكيكها ليكتشف أنّها تختزن ظاهرتين: تصوّر الشيء والتصديق بالشيء الذي تصوّرته، ومن الطبيعي أنّ التصديق مبنيّ على التصوّر، ولهذا يقولون في الفلسفة بأنّ التصور هو الذي يمنح التصديق وجوداً وجودةً كما يحلو لبعضهم أن يعبّر.
حسناً، عندما أتى الفيلسوف للتصوّر، رأى أنّه لم يكن ليحصل لديه لولا الحسّ، فالحسّ كان المصدر الأصليّ للتصوّرات التي أتتني من الخارج، وأنّ الذات المدرِكة لم يكن لها سوى دور التلقي لما أتاها عبر الحسّ، فانتقشت الصورة في الذات المتلقيّة انتقاشاً قهريّاً، لكن عندما نظر الفيلسوف إلى التصديق، رأى أنّ الحسّ بنفسه لا يعطي تصديقاً، إنّه فقط يلقي صورةً من الخارج، وهناك شيء آخر دخل على الخطّ عندما انفتحت عينيّ على الخارج، وهذا الشيء الآخر هو العقل وقضاياه، فلولا العقل ـ بما يحمله من مخزون ـ لما أمكنني بمجرّد تماسّ الحسّ مع الخارج أن يحصل لي تصديق بالخارج، فإنّ كلّ ما حصل لديّ هو أنّ صورةً ارتسمت في ذهني لحظة فتح عينيّ، لكن هل هذه الصورة تحكي عن شيء خارجي أم لا؟ فهذا موضوع آخر لا يفي به الحسّ الذي كان دوره إلقاء الصورة في الجهاز الإدراكي، وإذا كنّا نحن نشعر ببداهة هذا الأمر وأنّ ما حكت عنه الصورة موجودٌ في الخارج، فإنّ هذا الشعور ـ من وجهة نظر الفيلسوف ـ جاء نتيجة تراكمات، أو نتيجة دليل عقلي مختزن مستكنّ في الذهن البشري، أو نتيجة مفهوم بديهي كان يحمله العقل وتبلور لحظة حصول التصوّر، والسبب في قناعتهم هذه هو أنّ مجرّد حصولنا على صورة وشعورنا بها لحظة فتح عيننا على شيء لا يدلّ بالضرورة على وجود شيء غير هذه الصورة، لهذا فنحن بحاجة إلى معطى عقلي يفضي بنا إلى التصديق بوجود محاكٍ لهذه الصورة في الخارج، مثلاً بعضهم يستدلّ ـ بصرف النظر عن صحّة هذا الاستدلال ـ بأنّ الصورة حدث ممكن، فلابدّ له من علّة أوجدته في الذهن، وهذه العلّة إما من داخل الذهن، والمفروض أنّنا لم نتخذ قراراً بخلق هذه الصورة في ذهننا، أو من خارج الذهن، فيثبت أنّ هناك شيئاً خارج الذهن حكت عنه الصورة، وهذا يثبت الواقع الخارجي، وأمّا تطابق الصورة مع الواقع الخارجي بالدقّة فله بحثه الآخر أيضاً في قيمة المعرفة. هذه هي طريقتهم في التفكير بشكل مبسّط ومختصر. وبعبارة نهائية: الحسّ يأتي بصورةٍ من الخارج ويلقيها في الجهاز الإدراكي، فيما العقل يتلقّى هذه الصورة ويخلع عليها تصديقاً.