السؤال: سماحة الشيخ، خلال قرائتي لتفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39)،لاحظت أنّ المفسّرين يستفيدون من الآية أنه لا يمكن للأنبياء أن يخشوا أحداً إلا الله، وبالتالي فالآية السابقة عليها: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولً) (الأحزاتب: 37)، لا يمكن أن يكون المقصود منها أنّ النبيّ محمداً (ص) خشي الناس في قضية زيد.
والسؤال هو: هل تدلّ الآية 39 على عدم خشية الأنبياء من الله بصورة عامة وشاملة أم لا؟ وهل الآية 37 تدلّ على خشية النبي من الناس في خصوص موضوع زيد؟ فالذي أراه أنّ آية (الذين يبلغون رسالات الله…) لا تدلّ على المعنى المذكور ـ أي أنّ الأنبياء لا يخشون إلا الله ـ إنما تريد أن تقول: إنّ هناك فئةً من الناس لديهم ثلاثة صفات، وهي أنهم يبلغون رسالات الله، ويخشونه، ولا يخشون أحداً إلا الله، وهي تحثّ النبي على أن يكون من هؤلاء، وأنّ هذه الفئة من الناس ذكروا بنحو القضية الحقيقية، وليس القضية الخارجية، حسب اصطلاحات المناطقة.كما أرى أنّ الآية 37 واضحة الدلالة على خشية النبي من الناس في قضية زيد. يرجى التكرّم بالردّ مع توضيحه مهما أمكن، ولكم كلّ الشكر والتقدير. (عدنان محمد، سلطنة عمان).
الجواب: فهم هذه الآية القرآنية الكريمة ووضعها في سياق الآيتين السابقتين، يختلف تبعاً للمصادرات القبلية التي يحملها المفسّر هنا، وجهة البحث التي يعالج الموضوع على أساسها، وهنا جملة معطيات نوجز أهمّها على شكل نقاط:
1 ـ إذا بقينا نحن وهذه الآيات القرآنية ـ بصرف النظر عن المعطيات الخارجيّة من العقل أو نصوص السنّة الشريفة أو.. ـ فإنّ هذه الآيات الكريمة تدلّ على أنّ السابقين من مبلّغي الرسالات كانوا لا يخشون إلا من الله تعالى، وعليه فتكون الآية 39 بنفسها تعريضاً بالنبي الأكرم، وكأنها تريد أن تقول له: إنّ هؤلاء الذين تسير أنت على طريقهم كانوا لا يخشون إلا الله تعالى، فلماذا تخشى أنت الناس والله أحقّ أن تخشاه؟! وبهذا تكون هذه الآية مؤكّدةً للعتاب الإلهي للنبي في الآية رقم 37. وبهذا يمتاز الأنبياء السابقون على رسول الله تعالى بهذه الميزة وهي أنّهم لم يخشوا غير الله سبحانه قطّ، فيما وقع النبي الأكرم في هذه الخشية في حادثة زوجة ابنه بالتبنّي.
بل قد يقول شخصٌ ـ انسجاماً مع هذا الفهم ـ أنّ الآية رقم 39 لا تفيد أنّ جميع الأنبياء كانوا كذلك، فإنّ الآية رقم 38 والتي تقول: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)، تفيد أنّ ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم كان سنّة الله في الذين خلوا من قبل، ثم جاءت الآية 39 لتوضح من هم أولئك الذين خلوا من قبل، فتكون قيداً احترازيّاً لا توضيحيّاً، لتكشفت عن أنّهم جماعة كانت هذه صفاتهم، فهي بهذا المقدار لا تدلّ على أنّ المراد منها كلّ الأنبياء والأوصياء، فلعلّ هؤلاء المقصودين والموصوفين بهذه الأوصاف هم بعض الأنبياء أو هم من الأنبياء وغيرهم، وبهذه الطريقة يرتفع الإشكال الذي قد يفترض هنا، من أنّه لو صحّت الآية 39 لناقضت ما دلّ على أنّ موسى عليه السلام خاف أن يقتلوه لو عاد إلى فرعون وقومه، فكيف تقول الآية بأنّ السابقين على الرسول الأكرم لم يكونوا يخشون أحداً إلا الله؟ اللهم إلا بناءً على التفريق بين الخوف والخشية.
هذا وقد حصر بعض المفسّرين الآية 39 بحالة التبليغ، بمعنى أنّ الأنبياء لا يخشون إلا الله في تبليغهم للرسالات التي أرسلوا بها، ومن ثم تكون ساكتةً عن خشيتهم من غير الله في غير مجال تبليغهم للدين، فيرتفع بذلك الالتباس المتوهّم بين الآية 37 والآية 39؛ لأنّ خشية النبي في الآية 37 كانت على خلفيةٍ شخصيّة، في أن يًُتهم أو يقال عنه شيء غير حسن، لاأنه خشي من تبليغ حكمٍ من الأحكام.
وقد يناقش هذا القول بأنّه احتمال غير قويّ؛ نظراً لإطلاق عدم الخشية الوارد في الآية الكريمة رقم 39، ومجرّد ذكر التبليغ قبل ذلك لا يفيد التخصيص في لغة العرب.
وقد يجاب بأنّ سياق الآيات هو سياق إبلاغ الرسول حكم الزواج عبر الفعل النبوي، ومعه يحتمل أن تكون جملة (يبلّغون رسالات الله) قرينة متصلة مخصّصة للمراد من الخشية بحصرها في دائرة التبليغ، وعليه لا يمكن التمسّك بالإطلاق الموجود بعد ذلك؛ لأنه من الشك في قرينية الموجود، وقد قال علماء أصول الفقه ـ محقّين ـ: إنّه يوجب الأخذ بالقدر المتيقن.
وقد يردّ هذا الجواب بأنّه لو صحّ هذا الكلام، لما حلّ المشكلة؛ لأنّ المفروض أنّ هذه الآية قد جاءت في سياق الحديث عن موضوع الزواج النبوي، فلو لم يكن لموضوع التبليغ أيّ حضور هنا لما كان معنى للإتيان بالحديث عن التبليغ في هذه الآية، علماً أنّ الآية 37 نفسها قد أشارت في آخرها إلى أنّ الغرض الإلهي من الزواج النبوي هو غرضٌ بياني تشريعي تبليغي، وهو أن يعلم المؤمنون أنّه لا حرج عليهم في الزواج من أزواج أدعيائهم، وبهذا تكون الآية 37 قد جاءت في عتاب النبي على قضيّة ترجع للتبليغ، فيما تفيد الآية 39 عدم خشيّة السابقين لغير الله في قضايا التبليغ فيتأكّد العتاب، اللهم إلا إذا قيل بأنّ جهة التبليغ كانت من الله تعالى، وقد لا يكون النبيُّ على علمٍ بحيثيّة طلب الله منه الزواج من زينب بنت جحش، فلا تلازم بين الإرادة الإلهيّة للتبليغ من خلال الفعل النبويّ، والتفات النبي إلى جهة التبليغ في هذا الفعل نفسه.
وأمّا افتراض أنّ الآية الكريمة رقم 39 قد جاءت بنحو القضيّة الحقيقيّة، فهو وإن كان أمراً ممكناً في حدّ نفسه، لكنّه يحتاج لتأوّل وتقدير من الناحية اللغوية، نعم لو كانت الآية على هذا الشكل: الذين يبلّغون رسالات الله يخشونه.. وليس (ويخشونه)، لكان افتراض القضيّة الحقيقيّة أكثر إمكاناً.