السؤال: نحن أبناء عمومة، ونشترك في برنامج الواتساب ونتحاور، وهناك من الإخوة من هم يتصدّون لكشف ضلال العلماء بحجّة أنّ ذلك هو واجبه الشرعي، وأحياناً يكون النقل غير دقيق وليس بموثق، فيرى آخر أن يكشف ذلك الافتراء ويكذّبه بطريقة تجريحيّة بسبب تكراره، معتقداً أنّ واجبه الشرعي هو ذلك أيضاً، فهل دورنا يقتصر على مناقشة ما نُقل وعدم قبول تسقيطه لهذا العالم أو ذاك أو أن نعنّفه أو نتجاوز عنه.؟ مع كلّ الشكر (سعدون).
الجواب: أ ـ إذا كان الطرف الناقد للعلماء (أو لغيرهم) مراعياً للضوابط الشرعيّة في نقده، بحيث كان مؤدّباً ويسجّل ملاحظاته بطريقة سليمة من حيث اللغة والأسلوب والأمانة، فليس من حقّ الآخرين إلا أن يناقشوه بهدوء في نقده هذا إذا لم يتّفقوا معه في ذلك، ومجرّد أنّه ينتقد عالماً من العلماء لا يجعله ذلك مرتكباً للكبيرة ولا للصغيرة ما دام مراعياً لهذه الضوابط المسلكيّة.
ب ـ وأمّا إذا كان عدوانيّاً متهجّماً غير أخلاقي، ويستخدم السخرية أو الاستهزاء أو البهتان أو التقوّل والكذب عليهم، فإنّ من حقّ الآخرين أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأوا أنّ ما يفعله هو من المنكر، وذلك بأن يبيّنوا له أنّ هذه الطريقة التي يستخدمها غير صحيحة أبداً، ولا تخضع للضوابط الشرعيّة والأخلاقيّة. وإذا نقل كذباً عن العلماء جاز للآخرين أن يكشفوا هذا الكذب، لكن ليس من الضروري التسرّع باتهامه بالكذب أو اختلاق مشكلة اجتماعيّة معه، فقد يكون مخطئاً وقد يكون متأثراً بآخرين أوهموه ذلك، وقد يكون فهم خطأ ممّا نُقل إليه أو رآه وقد يكون غير ذلك.
ج ـ إذا كان عدوانيّاً غير أخلاقي في نقده، وكان يعتقد أنّ ذلك جائزٌ له شرعاً وفقاً لتقليده، وكان هذا هو رأي مرجعه أو رأيه الفقهي الشخصي مثلاً، ففي هذه الحال يمكن أن تتمّ المناقشة معه في أصل الطريقة، وبيان أنّها غير صحيحة، فإذا رفض التخلّي عنها كان من حقّ الآخرين أن يطالبوه بعدم استخدامها أمامهم، وإلا تركوا هذه المجموعة وخرجوا منها؛ دفاعاً عن المظلوم وفقاً لاعتقادهم، شرط أن لا يعتدوا عليه شخصيّاً ما دام معذوراً فيما يفعله. وعلينا دائماً أن لا نسمح للآخرين بالعدوان على من نرى أنّه لا يستحقّ هذه العدوانيّة، وأن نقف مع المظلومين من العلماء وغيرهم، دون أن نرتكب خطأ في طريقة وقوفنا هذه، وعلينا أن نفرض بإرادتنا وبذكائنا قواعد للاختلاف، فلا نسمح للآخرين بأن يغرقونا ويغرقوا الساحة بطريقتهم في الاختلاف مهما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولو بإغلاق باب حوارنا. وقد قلتُ يوماً بأنّ الحوار ليس مفهوماً مقدّساً متعالياً على سائر القيم الأخلاقيّة، فأيّ حوار بين اثنين أو جماعتين يؤدّي إلى التخاصم والتنابذ وقسوة القلوب وتفريق المسلمين فعدمه خيرٌ من وجوده، لاسيما إذا لم يكن لينتج عنه أيّ تحوّل في القناعات. وليس إذا كنّا نؤمن بالحوار فهذا يلزمنا أن نخوض في حوارات لا فائدة منها سوى تمزيق اللحمة الاجتماعيّة وتفريق الناس وتشظّي العلاقات بين الأسر والعائلات وغير ذلك من المساوئ الأعظم، فالحوار خُلق لكي يخدم تواصل البشر وينفعهم، فإذا انقلب إلى ضدّه لم يعد قيمةً مضافة، وعلينا تجنّبه أو تصحيح مساره مهما أمكننا ذلك. ألا تجدون أنّ بعض الحوارات الدينية أو المذهبية أو السياسيّة التي أتحفتنا بها مجموعة من الفضائيات العربية منذ تسعينيات القرن الماضي قد أفسدت حالنا ومزّقت شملنا وعمّمت ثقافة العدوانيّة فينا من حيث شعرنا أم لم نشعر؟! فما فائدة هذه الحوارات الصاخبة والعنيفة والعدوانية التي يستمع إليها الأطفال والناشئة فينشؤون عليها في طريقة اختلافهم مع الناس ومع بعضهم بعضاً؟!
لاحظوا أنّ الله تعالى قال ـ رغم دعوته في بعض الآيات لمحاورة الكافرين والجدال معهم بالتي هي أحسن ـ : (وَإِذٰا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..) (الأنعام: 68)، فهذه الآية فهمها بعضهم على أنّ الآخرين إذا كانوا ينتقدون الدين فلا تجلس معهم، وذهب بعضهم إلى حرمة مجالسة الكافرين لو كانوا ينتقدون الدين! وبعضهم عمّمها لمجالسة مطلق العاصي! مع أنّ آيةً أخرى أوضحت المراد منها وأشارت إليها، وهي قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتٰابِ أَنْ إِذٰا سَمِعْتُمْ آيٰاتِ اللّٰهِ يُكْفَرُ بِهٰا وَيُسْتَهْزَأُ بِهٰا فَلٰا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّٰهَ جٰامِعُ الْمُنٰافِقِينَ وَالْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء: 140)، فالخوض في الآيات هنا ليس مطلق الحديث بها، بل هو الكفر بها بمعنى تغطيتها وإنكارها مع الاستهزاء بها، فالقرآن يعلّمنا أنّه لا ينبغي الجلوس أو الحوار مع أيّ شخص يهزأ بآيات الله، بل عليه أن يحترم وجهة نظرنا لكي يخوض معنا حواراً منتجاً، فإنّ عدم إيمانه هو وجهة نظر يمكن النقاش فيها، لكنّ استهزاءه بما نؤمن نحن به ودخوله الحوار بهذه الطريقة ليس وجهة نظر بل هو عدوانية على الطرف الآخر وعلى قيمه وأفكاره، وعلينا السعي أولاً لتغيير هذه العدوانية فيه وإقناعه بتركها وهدايته إلى السبل الأخلاقية السليمة، ثم الدخول معه في حوار حول أفكارنا ومعتقداتنا، فإن رفض وأصرّ على هذا الأسلوب فعلينا الإنكار عليه بطريقة سلبيّة، وهي الابتعاد عنه وتركه والإعراض عن محاورته ومجالسته عندما يصدر منه ذلك (ما قلته مبني على أنّ الجالسين مع المستهزئين هم من المؤمنين، وليسوا من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، وإلا فسيصبح للآية معنى آخر، وإن كانت تنفع فيما قلناه، فلاحظ).
ولا بأس بأن أشير هنا إلى نقطة سبق أن ألمحت إليها في مكانٍ ما، وهي أنّ القرآن الكريم ركّز كثيراً على أنّ المشكلة مع خصوم الأنبياء لم تكن فكريّةً فقط، بل قد ردّد القرآن الكريم في العديد من الآيات فكرة استهزاء خصوم الأنبياء بهم، فهؤلاء لم يختلفوا مع الأنبياء من موقع معرفي بالضرورة ودائماً، بل من موقع عدواني يقوم على السخرية تارةً، وعلى النفاق تارةً أخرى، وعلى كمّ الأفواه ثالثة (راجعوا النصوص القرآنية جيداً وقصص الأنبياء في القرآن جيداً)، وعلينا التنبّه لخصوم الأنبياء ومواصفاتهم في القرآن الكريم قبل أن نحكم على طريقة ردّ فعل القرآن عليهم، فبعضنا يتصوّر أنّ خصوم الأنبياء كانوا فلاسفة ومنظّرين يختلفون مع الأنبياء في وجهات النظر، في حين الصورة التي قدّمها لنا القرآن الكريم عنهم أنّهم كانوا يختلفون معهم بطريقة غير أخلاقيّة، يجب فهم هذا المشهد بشكل صحيح، لنفهم بشكل أصحّ ردّ الفعل القرآني اعتماداً على السياق الزمكاني والظرفي.
ومن هنا نلاحظ أنّ بعض المناصرين للتيارات الإلحادية الجديدة يستخدمون طريقة السخرية في نقدهم للقضايا الدينية، وهذا أسلوب مرفوض، فلك أن تنتقد وتقول بأنّ عندي وجهة نظر ونختلف معك فيها، لكن ليس من السليم لبناء حوار ديني ـ إلحادي منتج أن تهيمن لغة السخرية على خطاباتنا الدينية والإلحاديّة معاً، كما يظهر لمن تتبّع الإصدارات والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مع الأسف الشديد.
وعليه، فمن يريد أن يجلس معنا ويتحاور معنا ليعتمد منطق السخرية والاستهزاء، فلن نقبل منه مجالسته، وأمّا إذا أراد أن يخوض حواراً علميّاً هادئاً وجدالاً صحيحاً فعلينا الاستعداد لذلك والترحيب به.
د ـ وأشير أخيراً إلى أنّ كلّ ما قلته لا يختصّ بعلماء الدين، وليس خاصّاً بحالة نقد علماء الدين، بل هو شامل لنقد المفكّرين والمثقفين والباحثين والإعلاميّين والسياسيّين من غير علماء الدين أيضاً، فبعض الناس يظنّ أنّ غير علماء الدين يجوز السخرية بهم كيفما أردنا، ولو عبر برامج تلفزيونيّة، أمّا علماء الدين فلا يجوز السخرية بهم، بل تقوم القيامة لو حصل مثل هذا في حقّهم، وأقول: كلّ فئة لا ترضى بالسخرية بها وتُطالب الآخرين باحترامها، فمن واجبنا أن نحترمها ما دامت لم تهدر حرمة نفسها وتتخلّى عن حقوقها، كائنةً من كانت، وليس هناك في النصوص الدينية حقوق خاصّة بالعلماء في هذا المضمار، فكما نرفض سخرية الإعلام بعلماء الدين كذلك نرفض سخريته بغيرهم، ما لم يتخلَّ هذا الغير عن حقوقه أو يسكت ـ مختاراً ـ عن المطالبة بها، فهذا شأنه. ومن أخطر الظواهر الاجتماعيّة الاعتيادُ على الخطيئة وتحوّل السلوك السلبي غير الأخلاقي إلى سلوك عادي بسبب تأثير وسائل الإعلام على العقول في ذلك وتكرارها لتظهير الخطأ بشكل طبيعي. وهذه قضيّة تفتح على الضوابط الشرعيّة في الحريّات الإعلاميّة يمكن الحديث عنها في مناسبة أخرى، إن شاء الله.