السؤال: عند اقتراب ليلة القدر (أو موسم الحج) تردنا رسائل كثيرة من أصدقائنا ومن أعدائنا يطلبون فيها براءة الذمّة، وأنا لا أرغب في مسامحة من ظلمني وشتمني واغتابني؛ لأنّني أريد من الله سبحانه وتعالى أن يردّ لي مظلمتي، وردعاً لهم عن ذكري بسوء، فما رأيكم في هذا؟ وهل هذا حقٌّ من حقوقي؟ لأنّني دائماً أصمت عمّن ظلمني وفي قلبي ألمٌ منهم لكثرة تجريحهم لي (أنفاس).
الجواب: لا يجب على الإنسان مسامحة الآخرين الذين ظلموه، ولو طلبوا المسامحة لم تجب الاستجابة لهم، والإسلام يحترم مظلوميّة المظلوم ولا يقمعها أو يلغي عناصر الشعور بالانفعال والمظلوميّة التي عنده، حتى أنّ من موارد جواز الغيبة في الشرع أن يغتاب المظلومُ ظالمَه، قال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء: 148)، ولهذا نجد في بعض الأدعية الدعاء على من ظلمني أو كادني أو غير ذلك.
وإذا كانت المظلمة شخصيّة وانقضت فإنّ العفو أقرب للتقوى، لاسيما وأنّها لا تتكرّر ولا تستمرّ. فلنلاحظ هذه الآية الكريمة التي تتحدّث عن حالات الطلاق قبل الدخول وما يوصي به القرآن الكريم الطرفين عندما يقدمان على الطلاق، حيث قال تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237)، فرغم حالة الطلاق التي يصاحبها ـ عادة أو أحياناً ـ نفور أو ظلم من طرف للآخر لكنّه يرى أنّ العفو عن الحقّ في نصف المهر المسمّى الذي في ذمّة الزوج أفضل وأقرب للتقوى.
أمّا لو كانت المظلمة الشخصيّة مستمرّة ولم تنقضِ، فإن لمس الإنسان مؤشرات التأثير في المسامحة ولو على المدى البعيد، فإنّ الأفضل هو الإعلام بالمسامحة، بل المبادرة إلى فعل الخير معهم، قال سبحانه وتعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 34 ـ 35). وهذه مرحلة سامية في التعامل الأخلاقي قلّما يتحلّى بها إنسان، فهنا يحكّم العقل ويتخلّى عن الشعور بالانتقام لكي يكسب الآخر بدل أن يصرعه وينتقم منه. وإذا لم تكن المسامحة أو مبادلة الظالم بالخير مؤثرةً بحسب المعطيات الموضوعيّة أو كانت موجبةً لتماديه في الظلم والعدوان فإنّ الأفضل هو المصارحة وبيان المظلمة والمطالبة بالحقّ ورفع الظلم عنك وعدم الخوف، فإن لم يتمكّن الإنسان من هذا أيضاً أعرض عن الظالم وحاول أن يفكّ ارتباطه به وينعزل تماماً عنه.
لقد قدّم القرآن الكريم مجموعة من المعايير التي ينبغي النظر بعين العقل والتدبير في مجال تطبيقها، مثل: 1 ـ الحقّ في ردّ العدوان والظلم وفي الانتقام الشرعي من الظالم. 2 ـ مبدأ العفو عمّن ظلمك. 3 ـ مبدأ المقابلة بالحسنى بهدف التأثير الإيجابي على الآخر. 4 ـ مبدأ الإعراض. وقد اختصر الحديث الشريف المبدأ الثاني والثالث، فقد جاء في الحديث الشريف الوارد مضمونه بصيغ متعدّدة وبعضها صحيح السند: قال رسول الله في خطبته: (ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك) (الكافي 2: 107؛ وانظر مسند أحمد 4: 148 و..). وهذه المبادئ ليست متعارضة، فالأوّل مبدأ حقوقي فيما الثاني والثالث مبدأ أخلاقي غير إلزامي، ويحتاج التعامل مع هذه المبادئ لدراسة الواقع دراسة موضوعيّة عقلانية هادئة، وليست نفسية انفعالية، لمعرفة أيّ من هذه القوانين العمليّة يفترض القيام به، فحقوقياً المبدأ هو ردّ العدوان والتعامل بالمثل، أمّا أخلاقيّاً فالمبدأ هو التعامل بالحسنى والصبر والتحمّل، والقيم الأخلاقية ليست خالية من الاستثناء، فعلى الإنسان متابعة الموضوع عقلياً للنظر فيما يحسن تنفيذه من هذه المبادئ الحقوقيّة والأخلاقيّة.
المعذرة أستاذنا الفاضل.. تكلمت أخيرا عن مبدأ الإعراض والإنعزال عن الظالم؛ لكن لم أجد أنكم ذكرتم الدليل والنص الشرعي عليه.. فهل تذكروه لتكتمل الفكرة؟ وشكرا سلفاً