السؤال: ما رأيكم بالألقاب العلمائيّة كآية الله وآية الله العظمى؟
الجواب: دراسة ظاهرة الألقاب العلمائية في المؤسّسة الدينية عند المسلمين يمكن أن تكون من عدّة زوايا، أبرزها زاويتان سوف أطلّ عليهما باختصار:
1 ـ التطوّر التاريخي لظاهرة الألقاب، نظرةٌ عابرة
الزاوية الأولى: وهي الزاوية التاريخية، بمعنى متى ظهرت هذه المصطلحات؟ وكيف تمّ تداولها؟ وما هي تطوّراتها؟ وسوف اُشير لذلك بشكل بالغ الاختصار؛ لأنّ المقام لا يسمح بالدخول في التفاصيل الصغيرة.
المعروف أنّ القرون الأربعة الهجريّة الأولى لم تشهد ظهور هذا النوع من الألقاب إلا نادراً، بل إنّ مراجعة كتب الرجال والتراجم القديمة وكتب الجرح والتعديل تعطي نوعاً آخر من الألقاب أو التوصيفات التي كانت تُطلق، وغالباً ما تطلق في مناخ من التوصيف لا على مستوى لقب يسبق الاسم عادةً، فنحن نجد أوصافاً وألقاباً من نوع: الشيخ، العالم، المحدّث، الفاضل، الثقة، جليل القدر، القاضي، رفيع المنزلة، الشريف، شيخ الأصحاب، وجه الأصحاب، الرئيس الأقدم، المقدَّم، نقيب العلماء، قاضي القضاة، عظيم المكان في الطائفة..
ولم تكن تستخدم الألقاب في الغالب قديماً بهذه الطريقة اليوم، ولعلّ ذلك لأنّ العرب تعرف الكنية واللقب بمعنى آخر، فتجدهم يربطون الشخص بصفةٍ جسدية أو مكانيّة أو مهنيّة أو قبليّة أو عشائريّة أو دينية أو مذهبيّة أو نحو ذلك، فتجد الجاحظ، والأخفش، والأعشى، والنجّار، والحداد، والورّاق، والعلاف، والبصري، والكوفي، والطائفي، والخراساني، والشامي، والفارسي، والبحراني، والمكّي، والمدني أو المديني، والمصري، وتجد الشافعي، والمالكي، والحنبلي، والحنفي، والشيعي، وترى التميمي، والأسدي، والقرشي، والهاشمي، والأموي، والعلوي، والفاطمي، والكندي، والثقفي، والعبدي، والشيباني، والأزدي، والطرابلسي، وغير ذلك، فلم تكن تلك الألقاب التي نشهدها اليوم رائجةً ولا ظاهرة في الحياة العلميّة والاجتماعيّة، وغاية ما كنت تجد ربط الشخص بمهنته الدينيّة حيث يقال: القارئ، الخطيب، الواعظ، المفتي، المجتهد، الفقيه، المحدّث، الفيلسوف، المتكلّم، الأخباري (المؤرّخ)، النسّابة، ونحو ذلك.
وفي النصف الأخير من العصر العباسي الثاني، بدأت تظهر ألقاب كانت محدودة للغاية ومقتصرة على أشخاص محدّدين جدّاً، فظهر لقب (حجّة الإسلام) الذي ربما اختصّ بأبي حامد الغزالي (505هـ)، واستمرّ مختصّاً به لقرون في الوسط السنّي، ويبدو أنّه لم يُستخدم هذا اللقب قبل الغزالي إطلاقاً، كما لقب (إمام الحرمين) الذي اختصّ بالجويني، ولقب (المحقّق) الذي اشتهر بين الإماميّة لنجم الدين الحلّي، لكن على أيّة حال ظلّ هذا الوضع محدوداً للغاية، ولا يصل إلى مستوى الألقاب التي ظهرت فيما بعد أبداً ولا إلى نسبة شيوعها.
الألقاب في عصر العلامة الحلّي
ومع مجيء العلامة الحلّي (725هـ)، في عصر السلطان خدابنده، شهدنا إطلاق لقب (العلامة) عليه (وبعضهم يطلق لقب العلامة على ابن خلدون أيضاً، والمسألة تحتاج لتتبّع تاريخي في زمان بداية إطلاق هذا اللقب على الحلّي أو ابن خلدون)، وهو اللقب الذي ظلّ يلازم الحلّي عند الإطلاق إلى يومنا هذا، إلا أنّ الجديد مع الحلّي هو ظهور نوع جديد من الألقاب لم يسبق له مثيل أبداً، وهو لقب (آية الله في العالمين)، حيث اختصّ به العلامة الحلّي لقرون عديدة، إلى أنّ تحوّل الوضع مؤخّراً كما سنشير، ويقال: إنّ لقب (آية الله) لم يطلق بعد الحلّي سوى على السيد بحر العلوم، ثم انحصر بهما حتى نهايات العصر القاجاري.
يُشار إلى أنّ هناك ألقاباً اشتهرت في حقّ أشخاص بعد وفاتهم، مثل لقب (أمين الإسلام) الذي عُرف به الشيخ الطبرسي، ولقب (ثقة الإسلام) الذي عرف به الشيخ الكليني، ولقب (الشيخ الصدوق) الذي عرف به ابن بابويه القمّي، ولقب (فخر المحقّقين) الذي عرف به ابن العلامة الحلّي، ولقب (الشهيد الثاني) الذي عُرف به الشيخ زين الدين الجبعي، ولقب (المحقق الثاني) الذي عرف به الشيخ الكركي، ولقب (الفاضل) الذي عرف به الشيخ الهندي الإصفهاني والشيخ التوني، ولقب (شيخ الطائفة) الذي عرف به الشيخ أبي جعفر الطوسي لاحقاً، وغير ذلك كثيرٌ معروف.
تطوّر ظاهرة الألقاب في العصر الصفوي
وفي العصر الصفوي، ظهرت مصطلحات جديدة وألقاب باتت تخصّ مقامات دينية محدّدة، مثل لقب (شيخ الإسلام) الذي كان يعبّر عن المنصب الديني الأعلى في الدولة الصفويّة (يرى بعضهم أنّ كلمة شيخ الإسلام أطلقت قبل العصر الصفوي أحياناً على الفخر الرازي والخواجة عبد الله الأنصاري وأبي العباس السرخسي، وتفاعلت كلقبٍ بين المتصوّفة في القرن الرابع والخامس الهجري).
وعَرَفَ العصرُ الصفوي أيضاً منصب ولقب: 1 ـ الصدر، وصدر الصدور. 2 ـ ملاباشي، وغير ذلك. وبدأنا نشهد توصيفات ومناصب مثل: 3 ـ مجتهد الزمان. 4 ـ أفضل علماء عصره. 5 ـ خاتم المجتهدين. 6 ـ فريد عصره. 7 ـ وحيد قرنه. 8 ـ رئيس العلماء. 9 ـ علامة العلماء. 10 ـ دليل الإسلام. 11 ـ حجّة الله. 12 ـ معتمد الإسلام. 13 ـ ثقة الإسلام وغير ذلك. وإلى جانب هذه الألقاب ظهرت توصيفات قريبة من هذا النوع من التعابير من نوع: 14 ـ المقدّس، وهو اللقب الذي أطلق على المحقق الأردبيلي. 15 ـ سلطان العلماء. 16 ـ المولى أو الملا، وقد اُطلق هذا اللقب على المحقّق النراقي، وصدر الدين الشيرازي (والذي اُطلق عليه أيضاً لقب صدر المتألّهين) والفيض الكاشاني وغيرهم. بل تعارفت في الوسط الصوفي بعض الألقاب أيضاً في هذا العصر، لاسيما مثل لقب: 17 ـ خليفة الخلفاء (انظر حول المناصب والمقامات والألقاب في العصر الصفوي وتطوّراتها: رسول جعفريان، صفويه در عرصه دين وفرهنك وسياست 1: 191 ـ 250؛ وأيضاً هاشم آقاجري، مقدّمه اي بر مناسبات دين ودولت در إيران عصر صفوي: 559 ـ 604، الطبعة الثانية).
العصر القاجاري وإلى اليوم، القفزات النوعيّة في ظاهرة الألقاب
واستمرّ الوضع على هذه الحال بتطوّر محدودٍ ومتنامٍ، حتى نهايات العصر القاجاري في الربع الأوّل من القرن العشرين، فخلال العقود الأخيرة من العصر القاجاري ظهرت فجأة سلسلة التوصيفات التي لم تكن مسبوقة بهذه الطريقة من قبل، حيث استخدم ولأوّل مرّة ـ بعد الحلّي وبحر العلوم ـ لقب (آية الله) ليصبح لقباً شائعاً وعاماً في تلك الفترة، ولمزيد تمييز ظهر أيضاً لقب آية الله في الورى، وآية الله في الأنام، وآية الله الأعظم، وآية الله المعظّم. وإلى جانب هذه الألقاب ظهرت الألقاب الأخرى مثل: حجّة الإسلام والمسلمين، وشمس الواعظين، وإمام الملّة والدين، و..
لكنّ المؤشرات تبدي أنّ هذه الألقاب تراجعت قليلاً، لتعود وتظهر بقوّة مع مرجعيّة كلّ من السيد البروجردي في إيران، والسيد محسن الحكيم في العراق، وذلك في أواسط القرن العشرين، حيث اُطلق ـ وربما لأوّل مرّة كما يقول العلامة محمد مهدي شمس الدين ـ لقب (آية الله العظمى) و (آية الله الكبرى).
واليوم ـ وخلال العقود القليلة الأخيرة ـ نجد الكثير من الألقاب حاضرةً أو شائعةً مثل: 1 ـ فضيلة. 2 ـ حجّة الإسلام (وكثيراً ما تطلق ـ لاسيما في العرف الإيراني ـ على صغار الطلاب الذي لم يبلغوا رتبة علميّة عالية، على خلاف استخدام هذه الكلمة قديماً مع أبي حامد الغزالي حيث كانت تعني معنى عالياً جدّاً كما رأينا، ولم تكن تطلق سوى على المرجعيّات الدينية االبارزة. ونجد في الاستخدام الإيراني اليوم ما يجعل هذه الكلمة تطلق على شخص عالم وفاضل في الحوزة العلميّة لكنّه غير معمّم، بمعنى لا يرتدي لباس علماء الدين، فكأنّ كلمة حجّة الإسلام والمسلمين تختصّ بالمعمّم في بعض الأعراف). 3 ـ حجة الإسلام والمسلمين. 4 ـ آية الله. 5 ـ آية الله العظمى. 6 ـ زعيم الحوزة العلميّة. 7 ـ العلامة (وهي كلمة تطلق بمعنى مخفّف في التداول العربي اليوم، لكنّها في التداول الفارسي تقتصر على الشخص الجامع للعلوم المختلفة، فيكون أرفع شأناً من غيره من هذه الناحية، ولهذا لا يطلقونها على أيّ عالم ولو كان فقيهاً، بل على علماء جامعين وموسوعيّين في معرفتهم مثل العلامة الطباطبائي والعلامة محمد تقي الجعفري والعلامة المجلسي وغيرهم. وأصل الكلمة في العربيّة صيغة مبالغة من العلم، وتعني الرجل كثير العلم). 8 ـ السماحة. 9 ـ الفاضل أو الفضلاء. 10 ـ المفتي. 11 ـ المجتهد الأكبر. 12 ـ المرجع. 13 ـ المرجع الديني. 14 ـ المرجع الديني الأعلى. 15 ـ نائب الإمام. 16 ـ الإمام. 17 ـ اُستاذ الفقهاء والمجتهدين. 18 ـ أستاذ الكلّ في الكلّ. 19 ـ القبلة والكعبة (وصفان يستخدمان في باكستان على ما سمعناه من بعض العلماء الباكستانيين). 20 ـ الآخوند، وربما يكون أصلها من كلمة (آقا خواند)، كما يذكره غير واحد كالشيخ المطهري، بمعنى أنّه سيّد قرأ وتعلّم، فمن يقرأ ويتعلّم فهو آخوند، وقد اشتهر بهذا اللقب ـ أي الآخوند ـ حتى صار عَلَماً له تقريباً الشيخُ محمد كاظم الخراساني صاحب الكتاب الشهير كفاية الأصول. 21 ـ الأوحد، وهو لقب عرف به الشيخ الأحسائي. 22 ـ الوحيد، وهو اللقب الذي عرف به الشيخ البهبهاني. 23 ـ المجدّد، وهو لقب أطلق على كثيرين مثل المجدّد الشيرازي، والشيخ محمّد رضا المظفّر. 24 ـ مرجع المسلمين. 25 ـ الحُجّة. 26 ـ الفقيه الأورع. 27 ـ السيد الولي. 28 ـ السيد القائد. 29 ـ وليّ أمر المسلمين. 30 ـ الأستاذ الأعظم والعلامة الأفخم. 31 ـ العَلَم والأعلام. 32 ـ سيّد الطائفة. 33 ـ قدوة الفقهاء وقدوة المجتهدين. 34 ـ آية الله في الأرضين. 35 ـ العالم الربّاني والفقيه الصمداني. 36 ـ خاتم الفقهاء والأصوليّين.. ومن يراجع يجد الكثير من مثل هذه الألقاب التي تتفاوت في حجم شيوعها في العصر الحاضر، وفي إطلاقها على أصحابها شفاهاً أو على أغلفة الكتب أو تداولاً.
ولم يبتعد العرفاء عن هذه التوصيفات، فاستخدموا في إطارهم ألقاباً كثيرة مثل صدر المتألهين، وقطب دائرة الإمكان، وجامع المعقول والمنقول، والعارف الكامل، والسالك الواصل، والحكيم المتألّه، الحكيم الإلهي، وخاتم الأولياء وغير ذلك الكثير.
ظاهرة الألقاب في الوسط السنّي
لم يقتصر أمر هذه الألقاب على الشيعة، بل شهد السنّة شيئاً من هذا القبيل، فمنذ العبور من عصر الغزالي بدأنا نجد ألقاباً كثيرة مثل برهان الملّة والدين، وشيخ الإسلام، وتاج الإسلام، وشمس الدين، والجهبذ، ومفتي الديار، ورشيد الدين، وعز الدين، والإمام، وسيف الدين، وغير ذلك كثير، وقد تعاظم هذا الأمر في العصر العثماني بشكل كبير جدّاً، وكان من الألقاب الكبيرة التي أطلقت لقب: الإمام الأعظم، والذي استخدم في حقّ أبي حنيفة النعمان (150هـ)، وإليه تنسب الأعظمية اليوم في العراق. ومن اللافت أنّ العثمانيين يطلقون على رئيس الوزراء لقب الصدر الأعظم، علماً أنّ الإماميّة تستخدم لقب الشيخ الأعظم وتريد به في الغالب الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) الذي توفي في العصر القاجاري. وقد سبق لي أن قرأت لبعض من كتب من أهل السنّة حول فوضى الألقاب في المؤسّسة الدينية السنيّة، وذلك في بعض المقالات الصحفيّة.
يُشار إلى أنّ هناك ما يرتبط أيضاً بألقاب السادة، مثل: مير، وميرزا، والشريف، وأمير، والسيّد، وقد كتب صادق الحسيني الإشكوري كتاباً صغيراً مستقلاً تحت عنوان (ألقاب السادة)، شرح فيه معاني وتاريخ هذه الألقاب المشار إليها، فليراجع. علماً أنّ هناك من يتحفّظ حتى على إطلاق لقب (السيد) و (الشريف) على السلالة الهاشميّة؛ إذ في ذلك طبقيّة غير مرغوبة في الإسلام، وكأنّ الآخرين عبيدٌ لهؤلاء السادة والأمراء الذين ما أخذوا سيادتهم بالضرورة من علمٍ أو عملٍ صالح، وهما ـ أي العلم والعمل الصالح ـ معيار تفاضل الناس عند الله تعالى، كما نطق به القرآن الكريم وجاءت به السنّة الشريفة. كما أنّ تعبير (الشريف) يعتبره بعضهم غمزاً بأنساب الناس وكأنّهم ليسوا بشرفاء، ولهذا يفضّل بعضهم إطلاق لقب الهاشمي على المنتسبين للسلالة النبوية أو الهاشميّة، ويرون أنّنا ـ بما صنعناه من ألقاب هنا، ولو عن حبٍّ للنبيّ وحسن نيّةٍ تجاهه وتجاه أهل بيته ـ ابتعدنا كثيراً عن معايير الإسلام وأصوله الصارمة في بناء المجتمع الإسلامي، حتى لو اعتدنا على ذلك، وجعلتنا العادةُ لا نشعر بقبح ما نقوم به ونمارسه يوميّاً، ومخالفته لمقاصد الشريعة الإسلاميّة.
الدور المسيحي ودور الثقافة الفارسيّة والتركية في ظاهرة الألقاب، وجهات نظر
وهناك وجهة نظر تعزو هذا الفضاء من الألقاب الضخمة إلى الثقافة الإيرانية والتركيّة، ولهذا نجد أنّ هذه العناوين الكبيرة لا تقتصر على رجال الدين في هاتين الثقافتين، بل نجدها في المناصب السياسية أيضاً، كالصدر الأعظم، والباب العالي، والدولة العليّة العثمانيّة، وكلمة سايه خدا (ظلّ الله) وما في معناها كانت تطلق حتى زمن الشاه محمد رضا بهلوي على الحكّام في إيران. وثمّة من يرى أنّ القضيّة مرتبطة أيضاً ارتباطاً وثيقاً بالتأثر بالمسيحيّة والمسيحيّين ومحاولة مجاراتهم أو محاكاتهم في تعبير مثل (ظلّ الله والحبر الأعظم وقداسة البابا) وغيرها كثير، وذلك بعد انتهاء الحروب الصليبيّة، فالألقاب في المؤسّسة الدينية المسيحيّة لها تاريخ عريق، وهناك من يرى أنّ الدخول في بازار الألقاب جاء على إثر التداخل والانفتاح المتزايدين مع المسيحية في القرون الأخيرة، حتّى أنّ بعضهم رأى أنّ كلمة (روحاني ـ روحانيّت) التي تعبّر في اللغة الفارسيّة عن رجال الدين والمؤسّسة الدينيّة، هي كلمة من الممكن أنّها اُخذت من المسيحيّة؛ لما فيها من ربط المؤسّسة الدينية بالمجال الروحاني والروحي، فكلمة روحاني في اللغة الفارسية لا تعني ما نفهمه منها في اللغة العربيّة اليوم، بل تعني رجل الدين، وهذا المصطلح متأخّر ولم يكن مستخدماً في مجال رجال الدين قبل قرن ونصف، إذ قبله كان يطلق على رجال الدين عنوان العلماء أو أهل العلم، لكن ونظراً للنزعة الروحانيّة في المسيحيّة من الممكن أن يكون قد حصل تأثّر معيّن في الموضوع، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة تاريخيّة مركّزة، وستأتي الإشارة بعون الله إلى كلام الشيخ المطهري والسيد البهشتي في هذا المجال.
ظاهرة الألقاب بين السمة الرسميّة والتوصيف العرفي
ولابدّ لي أن أشير هنا إلى أنّ أغلب هذه الألقاب لا تمنح بطريقة رسميّة في المؤسّسة الدينية، بل تستخدم بطريقة عرفيّة غالباً، فليس هناك صكّ يصدر بكون شخص معيّن آخوند أو مرجع ديني أو مرجع ديني أعلى أو غير ذلك، ولا هي شهادات رسميّة تمنح لشخص نتيجة وصوله لمرحلة محدّدة على الطريقة الأكاديميّة التي يُعمل بها في المؤسّسات العلميّة والجامعيّة الأخرى في العالم، بل هو عُرف يحظى بقوّة القانون الرسمي أحياناً، ولهذا تجد أنّه من الممكن أن يُطلق على شخص أنّه (آية الله) وهو لا يستحقّ هذا اللقب أساساً، والعكس هو الصحيح.
كما ولابدّ لي أن أشير أيضاً إلى أنّ هذه الألقاب باتت اليوم جزءاً أساسيّاً من العرف الدبلوماسي والأدبي في الثقافة الدينية، ففي إيران مثلاً قد يُفهم عدم منح لقب آية الله لمرجعٍ وأنت تكتب بحثاً معيّناً، قد يفهم نوعاً من الإهانة، فكلمة السيد أو الشيخ لا تكفي، بل هذا قد تجده عند غير رجال الدين، فمثلاً في بعض الأوساط إذا قلت: شريعتي، ولم تقل المعلّم شريعتي أو الدكتور شريعتي، قد يفهم ذلك انحيازاً أو تعريضاً، وهذا أيضاً موجود في بعض الأوساط غير الإيرانيّة، فلو قلت: السيد الخميني، فقد يتحسّس بعض الناس، ويفهمون ذلك على أنّ لديك موقفاً منه؛ إذ المفروض أن تقول: الإمام الخميني، وهكذا لو قلت: ذهب الخوئي إلى كذا وكذا، فقد يتحسّسون من حذف اللقب، ويرون ذلك ضرباً من التوهين، وهذا أمر حصل معي شخصيّاً مرات عدّة.
وإلى جانب الألقاب، فإنّ لواحق الأسماء تنوّعت وتطوّرت هي الأخرى، مثل دام ظلّه، ومدّ ظلّه، ودام ظلّه العالي، ومدّ ظلّه الوارف، ومدّ ظلّه العالي، وزيد عزّه، ودامت بركاته، ودامت إفاضاته، ودامت تأييداته، ومتع الله المسلمين به، وحفظه الله، وقدّس سرّه، وأعلى الله مقامه، بينما كان يشتهر قديماً تعبير: رحمه الله، ورضوان الله عليه، ورضي الله عنه، ونحو ذلك.
هذه إطلالة موجزة حول المسار التاريخي لهذه الألقاب، وبهذه المناسبة أقترح أن يهتمّ بعض طلاب المراحل العليا في العلوم الدينية والتاريخيّة بهذا الموضوع؛ ليرصدوه بالتفصيل تاريخيّاً في رسائل الماجستير أو الدكتوراه، حيث سيكون ذلك مفيداً جدّاً في هذا المجال، فما كتب ليس سوى متفرّقات قليلة، قد لا ترقى إلى هذا المستوى في حدود ما رأيت شخصيّاً، وقد تكون معلوماتي منقوصة.
2 ـ الألقاب العلمائيّة، اتجهات ومواقف
الزاوية الثانية: وهي زاوية الموقف من هذه الألقاب وأنواعها واستخداماتها. وعندما نريد دراسة الموقف منها، سنجد أنفسنا أمام ثلاثة اتجاهات أساسيّة في هذا المجال:
2 ـ 1 ـ اتجاه تحريم بعض الألقاب العلمائيّة، الموقف المتشدّد
الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه الذي لا يرغب باستخدام بعض هذه الأوصاف ـ وهو ما كان من نوع آية الله أو آية الله العظمى ـ بل هو يرى وجود مشكلة شرعيّة وفقهيّة ودينيّة في هذا الاستخدام قد تبلغ به حدّ البدعة أو التعدّي على مناصب الأنبياء والأئمّة. ومن النادر وجود فقهاء أو مرجعيّات دينية معروفة تؤمن بهذا الاتجاه، لكن قد نجد هنا وهناك من يثير هذا الأمر بطريقةٍ أو بأخرى. والسؤال الآن: هل هذه الألقاب (آية الله وآية الله العظمى ونحوهما) تحظى برخصة شرعيّة ودينيّة أو أنّ فيها إشكالاً شرعيّاً جادّاً؟
المعروف والمتداول وعليه العمل بين كثير من الفقهاء المتأخّرين هو أنّ هذه الألقاب جائزة شرعاً، وأنّ استخدامها هو أمرٌ حلال في نفسه، وهناك من يتناقل شفاهاً أنّ بعض المرجعيات الدينيّة لديه إشكال شرعي في خصوص لقب (آية الله العظمى)، ولم أتمكّن من التثبّت من هذا الأمر والتأكّد من مديات صحّة هذه القضيّة.
لكن هناك وجهة نظر تعترض على بعض هذه الألقاب ـ وبالتحديد على لقب: آية الله، وآية الله العظمى، وآية الله الكبرى، وليس على جميعها ـ ومنطلق هذا الاعتراض هو أنّ هذه الأوصاف والألقاب إنّما أطلقت في النصوص الدينية على أهل البيت عليهم السلام، وأنّه قد تمّ سرقة هذه المقامات منهم ونسبتها إلى غيرهم، وهذا الأمر حصل من قبل الشيعة والسنّة، أمّا السنّة فقد أخذوا من الإمام علي لقب الفاروق وأمير المؤمنين والصدّيق وسيف الله المسلول وسيّد العرب وغير ذلك، وأمّا الشيعة فأخذوا لقب آية الله وآية الله العظمى وآية الله الكبرى وحجّة الله من الإمام علي ومن السيدة الزهراء ومن سائر الأئمّة عليهم السلام.
النصوص الحديثية المعتمدة في تحريم بعض الألقاب العلمائيّة، دراسة وتحليل
والشاهد على ذلك ـ من وجهة النظر هذه ـ هو الروايات التي منحت أهل البيت هذه الألقاب وأهمّها ما يلي:
الرواية الأولى: ما جاء في دعاء الافتتاح في سياق توصيف الإمام علي عليه السلام بالقول: (وآيتك الكبرى والنبأ العظيم) (ابن طاووس، إقبال الأعمال 1: 141) ، فعليّ هو الآية الكبرى، وليس المرجع الديني اليوم.
لكنّ الاستناد إلى هذا الحديث / الدعاء، لإصدار حكم شرعي تحريمي غير واضح، فإنّ المصدر الأساس لهذا الدعاء (المحتوي على هذه الجملة موضع الشاهد) هو ابن طاووس (664هـ)، ولم نعثر عليه قبله، وقد ذكر في مطلعه النصّ التالي: (فيما نذكره من دعاء الافتتاح وغيره من الدعوات التي تتكرّر كلّ ليلة إلى آخر شهر الفلاح، فمن ذلك الدعاء الذي ذكره محمّد بن أبي قرة بإسناده فقال: حدّثني أبو الغنائم محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسني، قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمد بن نصر السكوني رضي الله عنه، قال: سألت أبا بكر أحمد بن محمد بن عثمان البغدادي رحمه الله أن يخرج إليّ أدعية شهر رمضان التي كان عمّه أبو جعفر محمد بن عثمان بن السعيد العمري رضي الله عنه وأرضاه يدعو بها، فأخرج إليّ دفتراً مجلّداً بأحمر، فنسخت منه أدعية كثيرة وكان من جملتها: وتدعو بهذا الدعاء في كلّ ليلة من شهر رمضان، فإنّ الدعاء في هذا الشهر تسمعه الملائكة وتستغفر لصاحبه، وهو: اللهم إنّي افتتح الثناء بحمدك..) (إقبال الأعمال: 1: 138).
وربما نتيجة ذلك تلقّى اللاحقون هذا الدعاء على أنّه من الإمام المهدي؛ إذ إنّ العمري كان أحد سفراء الإمام المهدي، فلابدّ أنّه أخذ هذا الدعاء منه، ولهذا يُنسب دعاء الافتتاح إلى الإمام المهدي في الكتب اللاحقة، وذكروا بأنّه كتبه القائم عليه السلام. إلا أنّ مجال النقاش هنا واسع، وذلك أنّه وإن كان ممكناً جدّاً أن يكون العمري قد أخذه من الإمام المهدي إلا أنّه من الممكن جدّاً أيضاً أن يكون من إنشاءاته، أو أن يكون قد وصله عن إمام سابق بسندٍ لا نعرفه، أو يكون دعاء نقله عن أحد الصالحين والأولياء دون أن يكون نبياً أو إماماً، فيكون الخبر مرسلاً، بل لا يعلم كونه رواية أساساً؛ فلم يُشر الناقلون إلى أنّه أخذه من أحد الأئمّة، علماً أنّ في السند بعض من لم تثبت وثاقته، وذلك مثل أبي بكر أحمد بن محمد بن عثمان البغدادي، المعروف بأبي بكر البغدادي، فإنّه لم يوثق، بل أهمل تماماً في كتب الرجال، بل قيل بأنّه وردت فيه روايات ذامّة على ادّعائه البابيّة.
نعم، روى الشيخ الطوسي وغيره ـ مرسلاً، أو بلا سند معلوم محرز ـ دعاء الافتتاح أيضاً في (مصباح المتهجّد: 577 ـ 582؛ وتهذيب الأحكام 3: 110؛ والكفعمي، المصباح: 580 ـ 581؛ والبلد الأمين: 194؛ والفيض الكاشاني، الوافي 11: 408) لكن بدون وجود هذه الجملة موضع الشاهد هنا، بل جاء فيه: (.. اللهم صلّ على عليّ أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين، وعلى الصدّيقة الطاهرة فاطمة سيّدة نساء العالمين، وصلّ على سبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين سيديّ شباب أهل الجنّة، وصلّ على أئمّة المسلمين حججك على عبادك وأمنائك في بلادك صلاةً كثيرة دائمة..).
ولا أريد هنا أن أحسم الموقف من دعاء الافتتاح، وإن كان إثباته بحيث يمكن تحصيل حكم شرعي أو عقدي منه صعبٌ، بل يهمّني الجملة موضع الشاهد (وآيتك الكبرى والنبأ العظيم)، فلم ترد سوى في إقبال الأعمال لابن طاووس، بل محقّقو كتاب الإقبال ذكروا أنّ هذه الجملة ليست موجودة في بعض نسخ إقبال الأعمال نفسه (انظر: إقبال الأعمال، الطبعة الحديثة، نشر وتحقيق دفتر تبليغات، إيران، الطبعة الأولى، 1415هـ، ج1، ص 148، الهامش رقم 5)، كما أنّ كلّ مصادر ومراجع هذا الدعاء لم تورد هذه الجملة فيه، وعليه فليس لهذه الجملة طريق معتبر من حيث السند، بل عدم وجودها في سائر مصادر هذا الحديث بما فيها السابقة على ابن طاووس يعطي شكّاً في احتمال أنّها اُضيفت إليه أو حصل إدراج.
وقد أشار المحقّق التستري إلى أنّ عبارات دعاء الافتتاح واعتماد المفيد عليه يصحّحانه (قاموس الرجال 9: 72)، ولم أعثر على كلام الشيخ المفيد. نعم هناك مقاطع من دعاء الافتتاح وردت في روايات أخرى، في الكافي وغيره، وبعضها بأسانيد معتبرة، مثل مقطع (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة..)، لكنّ دعاء الافتتاح الذي فيه هذا المقطع لم يرد سوى في نقل ابن طاووس بناءً على بعض نسخ كتابه، وقد عرفت أنّه غير ثابت.
الرواية الثانية: ما جاء في أعمال يوم الغدير والصلاة فيه: (.. أنت ربّنا ومحمّد عبدك ورسولك نبيّنا، وعليّ أمير المؤمنين عبدك الذي أنعمت به علينا، وجعلته آيةً لنبيّك عليه السلام، وآيتك الكبرى والنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون..) (الطوسي، مصباح المتهجّد: 750، وتهذيب الأحكام 3: 146؛ والمفيد، المزار: 94؛ والمشهدي، المزار: 289 و..).
ولكنّ هذه الرواية ضعيفة السند بمحمّد بن موسى الهمداني الذي نصّ الرجاليون على ضعفه، كالصدوق وابن الوليد وعامّة القميين وكان ابن الوليد يقول بانه كان يضع الحديث. وعلي بن الحسين (الحسن) العبدي الذي لم تثبت وثاقته كما صرّح بذلك السيد الخوئي (معجم رجال الحديث 11: 106)، إذ لا دليل على وثاقته إلا بناء على تفسير القمّي لو ثبت أنّه هو وليس شخصاً آخر.
الرواية الثالثة: ما ورد في إحدى الزيارات التي يتوجّه بها إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: (.. السلام عليك يا وصيّ الأوصياء، السلام عليك يا عماد الأتقياء، السلام عليك يا وليّ الأولياء، السلام عليك يا سيّد (خير) الشهداء، السلام عليك يا آية الله العظمى..) (المشهدي، المزار: 206؛ وإقبال الأعمال 3: 130 ـ 131؛ والشهيد الأوّل، المزار: 90)، وقد روي أنّ هذه الزيارة علّمها الإمام الصادق لمحمد بن مسلم الثقفي.
إلا أنّ هذه الزيارة ضعيفة السند، ففي كلّ مصادرها لم يذكر لها سند إلى محمد بن مسلم، ولا يعلم الطريق الذي وصلت فيه الرواية هذه، حتى أنّ الجميع بدأ الرواية بعبارة: وروي عن الصادق كذا وكذا وأنّه علّم ذلك محمد بن مسلم، ويكاد يشكَّك حتى في كون ناقل الرواية هو محمّد بن مسلم نفسه، فلعلّه شخصٌ آخر ينقل هذا التعليم، وإلا ناسب تصدير الرواية بالقول: وروى محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق أنّه علّمه كذا وكذا، الأمر الذي لم نجده في مصادر هذه الرواية.
الرواية الرابعة: ما ينقل عن الإمام علي عليه السلام من قوله: (ما (ولا) لله آية أعظم منّي) (مختصر بصائر الدرجات: 44؛ وتفسير فرات الكوفي: 533 ـ 534؛ والحسكاني، شواهد التنزيل 2: 417)، فهذه الرواية تنفي وجود آية أعظم من علي عليه السلام، وقد وردت هذه الرواية بتعبير( آية أكبر منّي) في مصادر متعدّدة ايضاً (مختصر بصائر الدرجات: 96 ـ 97؛ ومناقب آل أبي طالب 2: 294).
أمّا الرواية بصيغة (أعظم منّي) فهي مرسلة في جميع مصادرها عدا تفسير فرات الكوفي، وفي هذا الكتاب هي ضعيفة السند؛ فإنّ في السند ـ لو تجاهلنا أنّه لا دليل على وثاقة فرات الكوفي نفسه، إذ المعلومات عن شخصه قليلة وشحيحة ـ فإنّ في السند جعفر بن محمد بن مالك الفزاري، وهو رجل مذكورٌ بالوضع، وصرّح النجاشي بأنه ضعيف في الحديث ونقل بنفسه عن الغضائري أنّ الفزاري كان يضع الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل، وقد ضعّفه ابن نوح والصدوق وابن الوليد وغيرهم، وقد استغرب النجاشي رواية أستاذه عنه بعد أن كان هذا حاله، وقال بأنّه سمع عنه أنّه فاسد المذهب أيضاً، والشيخ الطوسي رغم توثيقه له نقل أنّ بعضهم قد ضعّفه، وقد نقلوا أنّه روى في ولادة القائم الأعاجيب (انظر نصوصهم في: معجم رجال الحديث 5: 87 ـ 88). كما أنّ في السند محمّد بن حاتم وهو القطّان الذي لم يوثق، كما ويوجد في الطريق الآخر للحديث عند فرات الكوفي كلّ من محمد بن حاتم المجهول، وكذلك (رجل) فيكون الخبر مرسلاً، وكذلك أحمد بن محمد الرافعي وهو رجل مهمل للغاية لم يترجموه، ولعلّه ليست له إلا روايات قليلة بعدد أصابع اليد، وقد أقرّ الشيخ النمازي بأنّهم لم يذكروه (مستدركات علم رجال الحديث 1: 436)، فالسند في غاية الضعف بعد وجود سلسلة من المجاهيل والمضعّفين والإرسال فيه.
وأمّا الرواية بصيغة (أكبر مني)، فقد وردت في مختصر بصائر الدرجات بسندٍ فيه محمد بن الفضيل المضعّف والمتهم بالغلوّ. وقد نسب هذا المقطع إلى الإمام الصادق وفقاً لنقل علي بن إبراهيم في تفسيره، ولعلّه اشتباه اشتهر بين العلماء، فإنّه لا يعلم كون هذه الجملة للإمام الصادق، إذ لعلّها لعليّ بن إبراهيم نفسه؛ وذلك أنّ علي بن إبراهيم قال مطلع تفسير سورة يونس النصّ التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم) قال: الر هو حرف من حروف الاسم الأعظم المنقطع في القرآن، فإذا ألّفه الرسول أو الإمام فدعا به أجيب، ثم قال: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله (أن أنذر الناس وبشّر الذين آمنوا أنّ لهم قدم صدقٍ عند ربهم) قال: فحدّثني أبي، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (قدم صدق عند ربهم) قال: (هو رسول الله صلى الله عليه وآله). قوله: (إنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ـ إلى قوله ـ لآيات لقوم يتقون) فإنّه محكم، وقوله (إنّ الذين لا يرجون لقاءنا) أي لا يؤمنون به (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون) قال: الآيات أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام، والدليل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: (ما لله آية أكبر منّي)..) (تفسير القمّي 1: 308 ـ 309).
إنّ تركيب الكلام يعطي أنّ الجملة المنقولة بالإسناد إلى الصادق عليه السلام يمكن جداً أن تكون قد انتهت عند جملة: (وهو رسول الله)، وما تبقّى هو تكملة تفسير علي بن إبراهيم نفسه، ولهذا استدلّ بكلام الإمام علي، فالمستدلّ هو علي بن إبراهيم وليس الإمام الصادق، فتكون الرواية من علي بن إبراهيم هنا عن علي بن أبي طالب مرسلةً، وليس كما تصوّره بعض من أنّها صحيحة السند بالسند أعلاه الذي هو سند معتبر عند جمهور العلماء.
ويشهد لذلك وأمثاله ما قاله علي بن إبراهيم في الجزء الثاني من تفسيره: (حدّثنا محمد بن سلمة، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا يحيى بن زكريا اللؤلؤي، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، قال: هي للمسلمين عامة، والحسنة الولاية، فمن عمل من حسنة كتبت له عشراً، فإن لم تكن له ولاية رفع عنه بما عمل من حسنة في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق، قال علي بن إبراهيم في قوله: (إنّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها) قال: مكّة (وله كل شيء) قال: لله عز وجل، (وأمرت أن أكون من المسلمين ـ إلى قوله ـ سيريكم آياته فتعرفونها) قال: الآيات أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام إذا رجعوا يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم، والدليل على أنّ الآيات هم الأئمة قول أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما لله آية أكبر منّي، فإذا رجعوا إلى الدنيا يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم في الدنيا) (تفسير القمّي 2: 131 ـ 132)، فلاحظ أنّ تركيب الكلام يعطي أنّ علي بن إبراهيم ينقل الرواية مباشرة عن الإمام علي، وأنّ كلامه منفصل عن الرواية أعلاه التي رواها عن علي بن حسان وعبد الرحمن بن كثير، وهما من وجوه الغلاة المضعّفين عند العديد من علماء الرجال.
نعم، قال علي بن إبراهيم في (تفسيره 2: 401): (حدّثني أبي، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، في قوله: (عمّ يتساءلون..)، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما لله نبأ أعظم منّي وما لله آية أكبر منّي..).. وهذا ظاهر في أنّه رواية، وهي التي أشار إليها القمّي في الموضعين المتقدّمين، لكن في السند الحسين بن خالد، وليس المراد به الحسين بن أبي العلاء الخفاف الذي وثقه بعضهم ـ وإن كان عندي غير ثقة ـ لأنّ الخفاف ذكر في طبقة الباقر والصادق عليهما السلام، ولم يذكره أحد في طبقة الإمام الرضا أو أنّه روى عنه، وإن وجدت رواية يمكن من خلالها التنبؤ بأنّه عاش إلى زمن الرضا وكان من المعمّرين، رغم أنّهم لم يذكروه في المعمّرين، فالأرجح أنّه هنا الحسين بن خالد الصيرفي الذي لم تثبت وثاقته، فهو الذي ذكروا أنّه في طبقة الإمام الرضا، على ما جاء في رجال الطوسي. واثباتُ اتحادهما صعب وفاقاً لغير واحد من علماء الرجال، ويمكن مراجعة التفاصيل في كتب الرجال. هذا كلّه على تقدير تصحيح نسبة هذا التفسير للقمي، أمّا على رأي من يشكّك في صحّة النسبة فلا معنى للأخذ بروايات هذا التفسير عنده، على تفصيل وكلام يراجع في محلّه.
وقد جاءت هذه الرواية أيضاً في (ينابيع المودّة للقندوزي 2: 402) كالتالي: (وعن عبد الرحمن بن كثير قال: سألت جعفر الصادق عن قوله تعالى: (عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون). وسألته عن قوله تعالى: (هنالك الولاية لله الحقّ)، قال: ولاية أمير المؤمنين علي سلام الله عليه، كان يقول: ما لله نبأ هو أعظم منّي، ولا لله آية أكبر منّي. وعن الباقر والرضا نحوه). ولكن في هذا السند إرسال كما هو واضح؛ إذ لم يُذكر الطريق إلى عبد الرحمن بن كثير، علماً أنّ عبد الرحمن بن كثير من المشهورين بالغلوّ، والذين ضعّفهم غير واحدٍ من الرجاليّين، فراجع.
واللافت أنّ هذه الجملة المنسوبة إلى الإمام علي قد دخلت بعض أدبيات العرفاء والفلاسفة المتأخّرين أيضاً (انظر: الملا هادي السبزواري، شرح مثنوي 1: 92، 389).
وبهذا يظهر أنّ هذه الرواية بصيغتيها (أعظم منّي ـ أكبر منّي) لم تحظ بسند قويّ، بل عانت تارة من فقدان السند وأخرى من وجود مضعّفين فيه، فضلاً عن مهملين ومجاهيل، فضلاً عن ورودها في مصادر من الدرجة الثانية حديثياً، علماً أنّه قد تكرّر في هذه الأسانيد أحياناً ذكر بعض من اشتهر بالغلوّ كما ألمحنا.
وما يعزّز نقد هذا الحديث هو أنّه ينحو فعلاً منحى الغلوّ النسبي، فكيف يكون علي بن أبي طالب أعظم آية لله، وليس هناك ما هو أعظم منه، ورسول الله محمد بن عبد الله موجود في الخلق؟! فهل هو أعظم من محمّد؟! أليس في هذا الحديث رائحة الغلوّ؟ وهل عليّ كان أدلّ على الله من محمّد بناءً على تفسير (الآية) بمعنى الدلالة والهداية والاحتجاج؟ وهل كانت بُنية خلقه أعظم من بُنية خلق محمّد وسائر الأشياء، والله سبحانه يقول: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر: 57)؟ فبُنية السماوات والأرض أعظم من بُنية الناس من حيث الخلق، بينما هذا الحديث يريد أنّ يقول لنا بأنّ بُنية خلق عليّ سلام الله عليه أعظم من بنية خلق كلّ شيء، بناء على الاحتمال الثاني في تفسير معنى (الآية) أي الآية التكوينية الخَلْقِيَّة.
الرواية الخامسة: خبر الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (أنا خليفة رسول الله ووزيره ووارثه، أنا أخو رسول الله ووصيّه وحبيبه، أنا صفيّ رسول الله وصاحبه، أنا ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأبو ولده، أنا سيّد الوصيين ووصي سيّد النبيين، أنا الحجّة العظمى والآية الكبرى والمثل الأعلى وباب النبي المصطفى، أنا العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وأمين الله تعالى ذكره على أهل الدنيا) (الصدوق، الأمالي: 92). وقريب من هذه الرواية رواية ضعيفة أخرى بالكابلي وبالإرسال وغير ذلك (دلائل الإمامة: 210؛ وفرج المهموم: 111؛ والعقد النضيد والدر الفريد: 38)، وكذلك خبرٌ يُنسب لجابر بن عبد الله الأنصاري، وهو ضعيف بالإرسال والرفع وغيره أيضاً (انظر: نوادر المعجزات: 42؛ وعيون المعجزات: 31 ـ 32). وقد ورد في بعض روايات أهل السنّة عن ابن عباس أنّه قال في محضر معاوية بن أبي سفيان بأنّ علي بن أبي طالب هو (الداعية إلى الحجّة العظمى) (انظر: الطبراني، المعجم الكبير 10: 240؛ والقندوزي، ينابيع المودّة لذوي القربى 2: 171).
وطريقة الاستدلال بهذه الرواية صارت واضحة بالنسبة لمن يتبنّاها، لكنّ هذه الرواية تالفة السند جدّاً، ففيه غير واحد من الضعفاء والمجهولين والمهملين، مثل عبيد الله بن عبد الله الدهقان الوضّاع المضعّف عند الرجاليين، وسهل بن زياد الذي لم تثبت وثاقته عند كثيرين منهم السيد الخوئي وهو الصحيح، وضعّفه بعضهم، ودرست بن أبي منصور الذي اختلفوا فيه ولم تثبت وثاقته عندي، وجعفر بن محمّد بن بشّار، وهو مهملٌ جدّاً ولم تثبت وثاقته، والحسين بن إبراهيم المؤدّب الذي لا دليل على توثيقه عند كثيرين ـ منهم السيد الخوئي ـ كما هو الصحيح، فأغلب رواة هذا الخبر بين ضعيف ومهمل ومجهول ومختلف فيه.
وبهذا يظهر أنّ الروايات الخمس التي قد يُستدلّ بها هنا على حرمة إطلاق مثل هذه الألقاب ضعيفة الإسناد من غير جهة، وقليلة المصادر ذات الدرجة الأولى، وفيها مشاكل متعدّدة، ومليئة بالرواة المهملين أو المضعّفين أو المجهولين أو الغلاة أو المختلف فيهم، بل بعض هذه الروايات توجد مشكلة متنيّة فيه كما قلنا، فتحصيل خبر صحيح السند هنا أو خبر موثوق بصدوره من بين هذه الأخبار التي على هذه الحال في غاية الصعوبة. علماً أنّه لو صحّت هذه الروايات وأغمضنا النظر عن الإشكاليّات المتقدّمة، فنحن نسأل: هل إطلاق غير وصف آية الله العظمى ـ مثل آية الله مثلاً ـ على غير الإمام علي سيصير حراماً؟ إنّ هذه الروايات لا تشمل هذه الحال كما هو واضح. أمّا إطلاق وصف آية الله العظمى فهل هذه الروايات تحرّمه؟ وهل تشتمل على نهي متعلّق به؟ وأين هو؟ وهكذا الحال في بعض الروايات التي قيل بأنّها وصفت السيدة الزهراء بأنّها آية الله، أو وصفت الأئمّة بأنّهم حجّة الله أو وصفت الإمام بأنّه كلمة الله، فإنّ هذه الروايات تثبت هذه الأوصاف للأئمّة لكنّها لا تنفيها ـ ولو بدرجة أقلّ ـ عن غيرهم، فضلاً عن أن تدلّ على تحريم إطلاقها على غيرهم، فإذا وصف الإمام بأنّه ابن عمّ رسول الله فهل هذا يعني أنّه لا يجوز إطلاق هذا الوصف على عبد الله بن عباس أو جعفر الطيار أيضاً؟!
وعليه، فإذا قصد من هذا اللقب معناه الحقيقي فيكون في ذلك شبهة الكذب والتزوير، إذ ليس هذا المرجع وأمثاله هم آية الله العظمى في الخلق بالتأكيد، أمّا إذا تحوّلت هذه الألقاب ـ كما يقول أصحابها ـ إلى مجرّد اصطلاح يراد منه بيان علوّ درجة هذا العالم وتقدّمه على أهل زمانه ليس إلا، حيث الجميع يعرف أنّ هذا العالم أو ذاك ليس أكبر آية لله على الإطلاق في خلقه برمّته، فما هو الدليل على التحريم ما دام ذلك لا يشتمل على كذب ولا يلغي ثبوت هذا الوصف للإمام علي عليه السلام؟ نعم، نسبة هذه الألقاب وإطلاقها على رجال الدين إلى الشرع هو أمر غير شرعي، فلم يرد في الشريعة الإسلاميّة توصيف رجال الدين بمراتبهم بأيّ من هذه الأوصاف غير وصف العالم وأمثاله، فالقول بأنّ هذه الألقاب هي جزء من المنظومة الدينية بدعةٌ واضحة في تقديري لا أظنّ أحداً قال بها، ولا يجوز نسبتها للدين أبداً. وقد أشار إلى ضرورة عدم نسبة هذه الألقاب برمّتها إلى الدين الشيخُ مرتضى المطهري في بعض كلماته (انظر: مطهّري، مجموعه آثار 29: 552).
ولعلّه لمجمل ما قلناه لم يذهب المشهور إلى الإفتاء الصريح بالتحريم بشكل قاطع، ولو ذهب أحد من الفقهاء إلى ذلك لكان عددهم نادراً للغاية. وعليه فلا يوجد إشكال شرعي في أصل إطلاق هذه الألقاب ونحوها على شخص معيّن، شرط أن لا يكون بحيث يلزم من ذلك الكذب أو محذور شرعي آخر. هذا من حيث الزاوية الفقهية الشرعيّة للموضوع، فما ذكره هذا الاتجاه من ادّعاء وجود إشكال شرعي في ممارسة إطلاق بعض هذه الألقاب غير واضح.
2 ـ 2 ـ اتجاه القبول بالألقاب العلمائيّة مطلقاً، الموقف المتسامح
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي لا يرى أيّ مانع على الإطلاق في هذه الألقاب، بل هو يمتدحها أحياناً، ويراها تعابير تليق بالعلماء، ويحثّ على تعظيم أمر كبار المراجع والفقهاء بمثل هذه التوصيفات. إنّ هذا الاتجاه الذي لا يتحسّس أبداً من هذه الألقاب على اختلافها، ولا يرى حاجةً لإثارة هذا الموضوع، ولعلّه الاتجاه الغالب في الأوساط الدينية اليوم.. يعتبر أنّ هذه الألقاب شيء طبيعي، وتعبّر عن مصطلحات عادية تشير إلى رتبة هذا الشخص من الناحية العلميّة، فكما أنّ هناك أوصافاً أو ألقاباً ومقامات يستخدمها أهل العلم في الاختصاصات المختلفة، مثل الأستاذ، والدكتور، والمُعيد، وحامل الإجازة، والمحاضِر، والأستاذ المساعد، والأستاذ الدكتور، والمهندس، والكيميائي، والفيزيائي وغير ذلك، كذلك هناك أوصاف في الدائرة العلميّة الدينية، مثل آية الله، وهو وصفٌ لمن بلغ رتبة الاجتهاد، أو آية الله العظمى، وهو وصف لمن بلغ رتبة المرجعيّة الدينية، أو الفاضل، وهو وصف لمن أنهى المراحل الأولى وصارت له مقربة معيّنة من الاجتهاد المتجزّئ مثلاً، فلماذا نتحسّس من هذه الألقاب ما دامت مجرّد مصطلحات يصوغها البشر للتعبير عن رتب ومقامات في الوسط العلمي الديني، لاسيما بعد عدم وجود أيّ محذور شرعي في إطلاقها؟!
2 ـ 3 ـ اتجاه التحفّظ غير التحريمي على بعض الألقاب العلمائيّة، الموقف الوسطي
الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي لا يقبل بدعوى التحريم الشرعي في مجال هذه الألقاب، ضمن ما قلناه سابقاً، ولكنّه لا يقبل بطريقة تعامل الاتجاه الثاني في هذا الموضوع، فهو يتحفّظ على بعض هذه الألقاب ـ وليس جميعها بالتأكيد ـ لا من منطلق وجود إشكال شرعي، بل من منطلق وجود إشكاليّة أخلاقيّة أو ثقافيّة أو نفسيّة اجتماعيّة، وهذا هو الاتجاه الذي أرجّحه شخصيّاً؟
ولكن، قبل أن اُجلي موقفي من هذه القضيّة، وأنتصر بطريقة محدّدة لهذا الاتجاه الثالث، لابأس أن نقوم بجولة سريعة في بعض المواقف أو الخطوات التي قام بها بعض العلماء أو المفكّرين والتي تصبّ في إطار التمهيد لشرح فكرتي في هذا الاتجاه.
أ ـ موقف السيد الشهيد محمد الحسيني البهشتي
يتحدّث الشهيد السيد محمد الحسيني البهشتي رحمه الله عن الزعيم الديني المنعزل عن مجتمعه فيرى أنّ كلّ شخص ـ مهما كان مقامه في المجتمع الإسلامي ـ عندما يكون أسير الألقاب والمجاملات والتشريفات والبروتوكولات فهو بعيدٌ عن الإسلام.. إنّ علينا أن لا نصنع لأنفسنا ألقاباً حتى لا تبدأ حمّى التسابق على الألقاب فيما بيننا.. وفي الحدّ الأدنى يفترض بي كعالمٍ دين أن لا أكون أسيراً للألقاب، فالويل للخطيب الذي يصعد المنبر وبين الحاضرين مرجعٌ مرموق ثم لا يدعو الخطيب لهذا المرجع أو لا يصفه بكلمة آية الله العظمى.. نعم لو سقطت كلمة (العظمى) فواويلاه.. ما هذا الوضع؟! أيّ وضعٍ إسلاميّ هو هذا الذي نشاهده؟! عندما أكون عالماً دينيّاً أسيراً لألقاب آية الله وآية الله العظمى، فهل يمكنني أن أحارب هذه التشريفات في الشرائح الاجتماعيّة المختلفة الأخرى؟! (بهشتي، بايدها ونبايدها، أمر به معروف ونهي از منكر از ديدكاه قرآن: 33).
ويذهب السيد البهشتي رحمه الله إلى ما هو أبعد من ذلك، فيرى أنّه لا يوجد في الإسلام طبقة اسمها طبقة رجال الدين، وأنّه لا يحبّ تعبير (روحانيون وروحانيت)، بل يفضّل كلمة علماء الإسلام مكانها (بهشتي، اتحاديه انجمن هاي اسلامي دانشجويان در اوروبا: 134). فليس في الإسلام طبقة اسمها رجال الدين وإنّما سرت من الأديان الأخرى ملوِّثات تتصل برجال الدين، وقد تأثرنا نحن بها، وكان منها مسألة طبقة رجال الدين، ففي عصرنا يُعرف العالم بلباسه لا بعلمه وتقواه، فاللباس هو أساس الانتماء لعلماء الدين. إنّ سيئات المعمّم تلحق الجميع، أمّا حسنات غير المعمّم فقلّما تُحسب لصالح علماء الدين.. إنّهم لو حضروا الصلاة فلن يقدّموا غير المعمّم ممّن هو متقدّم على المعمّم نفسه في العلم والتقوى! إنّهم يظنّون أنّ إمام الجماعة يجب أن يكون معمّماً.. إنّ هذا شيء لا وجود له في الإسلام، بل أيّ مراجع لنصوص هذا الدين يعرف أنّ العمامة واللباس ومسألة الزيّ ليست شيئاً ملازماً لرجل الدين في الإسلام، بل إنّ الشرع لا يعرف شيئاً اسمه حرمان علماء الدين من حقوقهم نتيجة كونهم غير معمّمين. إنّ اللباس الديني ليس سوى عادة، ولا يمتّ بصلة إلى القضيّة الدينيّة (بهشتي، ولايت رهبري وروحانيّت: 377، 385، 387 ـ 388، 390 ـ 391).
يُبدي بهشتي في النصوص أعلاه حساسيةً عالية إزاء عادات وأعراف لطالما حُسبت من أصول التديّن عند جمهور المسلمين، ويتحدّث عن أمور واقعيّة ما زلنا نشهدها إلى اليوم، نعم فإلى اليوم في غير مكانٍ من الحوزات العلميّة ـ ولا أريد الدخول في تسميات ـ لا يُعطى غير المعمّم من راتبه الشهري الذي يوزّعه المراجع عليه ما يُعطاه المعمّم ولو كان معه في الرتبة العلميّة! واليوم هناك من يرى أنّ تقديم غير المعمّم للصلاة بحضور المعمّم قد تكون فيه إهانة! فيما الإسلام لا يميّز بين الناس، لاسيما وأنّ غير المعمّم قد يكون أكثر علماً بكثير من ذلك المعمّم المتقدّم للإمامة. وبالفعل يُبدي كثيرون حساسيةً عالية لو حذفت بعض ألقابهم، وقد شهدنا وقائع حقيقيّة في هذا الموضوع ليس من المناسب نقلها أساساً، بل قد لا يجوز شرعاً، وقد نقل لي شفاهاً الشيخ يحيى كبير أحد أساتذة الفلسفة في جامعة طهران أنّه سمع من السيد بهشتي رحمه الله قوله بضرورة أن يبقى هناك ولو مقدار عشرين في المائة من طلاب العلوم الدينيّة غير معمّمين، والسبب في ذلك ـ عند السيد البهشتي وفق هذا النقل ـ أنّه لو سقطت صورة العمامة في يومٍ من الأيام القادمة فإنّ غير المعمّمين بإمكانهم أن يتحرّكوا بطريقة أفضل وأسهل؛ لضمان عدم لحوق الخسارة بالدّين نفسه.
ب ـ موقف الشهيد الشيخ مرتضى المطهّري
يرى الشيخ الشهيد مرتضى مطهري رضوان الله عليه، أنّه لا يوجد في الإسلام شيء سوى عنوان (العالم)، فحتى كلمة (الشيخ والملا والآخوند والروحاني) لا وجود لها في الإسلام، وفي القرون الهجرية الأربعة الأولى كان العنوان الذي يُطلق هو كلمة العالم، وفي القرن الرابع بدأنا نشهد تغيّراً في العناوين والألقاب، وحتى بعد ذلك فقد كانت هذه الألقاب تختصّ بشخصيّات كبيرة، فالشيخ كلمة تطلق على الشيخ الطوسي في الفقه، وعلى ابن سينا في الفلسفة، وعلى الجرجاني في الأدب واللغة، وعلى سعدي الشيرازي في الشعر، ثم صارت تُطلق على كلّ طالب للعلوم الدينية، وهكذا كلمة (آخوند والملا) فهي كلمات لم تعرف إلا بعد عشرة قرون من البعثة النبويّة الشريفة، وأمّا كلمة (روحاني) فهي كلمة حديثة جدّاً ظهرت أوائل القرن العشرين بالضبط، وهي كلمة مقتبسة من المسيحيّين الذين يميّزون بين المادّة والروح، ويرون الدين معنياً بشأن الروح فقط، فيما الإسلام لا يرى ذلك.. نعم لا يوجد في الإسلام اسم خاص لعلماء الدين ولا يوجد لهم لباس خاص، وليست لهم نشاطات تختصّ بهم على المستوى الاجتماعي، فصلاة الميّت وإيقاع العقود والزيجات والطلاق، والدعاء في إذن المولود عند ولادته، وإمامة الجماعة، والاستخارة و.. ليست من مختصّات رجل الدين، بل هي لمطلق من هو قادر أو يتحلّى بالخلق الإسلامي الصحيح (مطهري، مجموعه آثار (مجموعة الأعمال الكاملة) 29: 552 ـ 555).
ج ـ تجارب الشيخ بهجت والسيد الصدر وآخرين
ينقل ابن الشيخ بهجت رحمه الله عن والده أنّه كان يرفض لقب آية الله أن يطلق جزافاً، وأنّه قد طبعت رسالته العمليّة 117 مرّة، لم يُذكر اسمه أساساً عليها في سبع طبعات منها، أمّا الطبعات المتبقيّة ـ وهي 110 طبعات ـ فلم يقبل أن يُذكر قبل اسمه أيّ لقب سوى كلمة (العبد) (محمدي الري شهري، زمزم عرفان، يادنامه فقيه عارف حضرت آية الله محمد تقي بهجت: 272)، ويقول الشيخ محمّدي ري شهري ناقلُ هذا الكلام، أنّه لا يملك جرأة وصف أحد من المراجع والفقهاء بلقب (آية الله العظمى)، بل يكتفي لهم بلقب (آية الله)، مع علمه ـ كما يقول ـ بأنّ هذه الألقاب نسبيّة، ولا يُقصد منها التعدّي على مقام أمير المؤمنين عليه السلام (المصدر نفسه: 14). وقد وضع السيد محمد تقي القمي المعاصر تعبير (أقلّ العباد الحاج)، على غلاف كتابه الفقهي الكبير (مباني منهاج الصالحين).
ويُعرف عن السيد الشهيد محمّد باقر الصدر إصراره على عدم وضع أيّ لقب له على كتبه كلّها بما فيها رسالته العمليّة التي تعبّر عن مرجعيّته، كما يُنقل عن الشيخ القديري أنّ الإمام الخميني عندما طُبعت رسالته العمليّة في النجف طلب حذف الألقاب من على الغلاف. ومؤخّراً حُذف لقب (آية الله العظمى) من على الموقع الرسمي على الشبكة العنكبوتية للمرجع الديني السيد علي الحسيني السيستاني حفظه الله، وتلقى كثير من المؤمنين هذه الخطوة على أنّها تعبير عن تواضع سماحته، ونظروا إليها بعيونٍ إيجابيّة. وثمّة قصص كثيرة عن بعض الشخصيات هنا وهناك تتصل بمثل هذه الأمور ممّا يعبّر إما عن رفض لهذه الألقاب أو عن تواضع أو عن موقف شرعي معيّن.
د ـ الشيخ محمد جواد مغنيّة وموقف ناقد مشهور
يسخر الشيخ محمّد جواد مغنيّة من ظاهرة الألقاب هذه، ويشنّ هجوماً معروفاً ومشهوراً على بعض الظواهر الاجتماعيّة لرجال الدين في كتابيه: (من هنا وهناك) و (صفحات لوقت الفراغ)، فليراجع، حتى لا نطيل أكثر.
هذا، ويتداول بعض الإخباريين المعاصرين رفضهم لهذه الألقاب، ويعتبرون أنّ السبب فيها هم الأصوليّون، فهذه ـ عندهم ـ من محدثات الأصوليّين في العراق وإيران.
هـ ـ الباحث علي حرب، وانتقاد ثنائية: فخامة الألقاب وهشاشة الأفكار
يعتبر الباحث العربي المعروف علي حرب ـ في بعض مقالاته الصحفيّة ـ أنّ ظاهرة تضخّم الألقاب في العالم الإسلامي والعربي تقف إلى جانبها ظاهرة هشاشة الأفكار، وأنّ كلمة (المفكّر الكبير)، بل حتى كلمة (المفكّر) قد دخلت في استهلاك، بل صارت تبني الحواجز بين المفكّر المزعوم والآخر، وكأنّ الآخر لا يفكّر.
موقفنا المختار من ظاهرة الألقاب العلمائيّة
بعد عرض هذه العيّنات والنماذج، وليس غرضي الاستقصاء، لابدّ لنا من تحديد موقفنا تجاه هذه الظواهر المتصلة بالألقاب والعناوين، ويمكن ذكر ذلك على شكل نقاط سريعة:
أولاً: لا شكّ أنّ هذه الألقاب برمّتها ـ عدا مثل لقب العالم ونحوه ـ لا وجود لها في النصوص الدينيّة المعتبرة، ولهذا لا يصحّ نسبة هذه الألقاب إلى الشرع الحنيف، كما أنّ أيّ لقب يحتوي مضموناً كاذباً ويُقصد منه هذا المضمون ـ مثل لقب آية الله العظمى بمعناه الحقيقي العام عندما يطلق على مجتهد معيّن ـ فهو غير صحيح، بل قد يتورّط المستخدم لهذا اللقب في الكذب والتزوير أحياناً. كذلك الحال لو كان إطلاق هذا اللقب على شخص يحتوي على إخبار معيّن، وكان هذا الإخبار كاذباً، كأن تقول عنه بأنّه دكتور وهو لم يعرف الجامعة قط، أو تقول عنه بأنّه آية الله، وهو لم يكمل مراحل السطوح مثلاً، فإنّ في إطلاق هذه الأوصاف أحياناً نوعٌ من الكذب أو التغرير أو نحو ذلك، ولا بدّ من الانتباه لكلّ هذه العناوين والحالات؛ كي لا يقع الإنسان في محذور شرعي تارةً أو أخلاقي أخرى. كما أنّه إذا كان في عدم إطلاق هذه الأوصاف قصدٌ سيء فهو غير صحيح، بل قد يكون غير جائز لو لزمت منه الإهانة، أمّا لو كان عدم إطلاق هذه الألقاب عن عدم قناعةٍ بها أو نحو ذلك، ففي هذه الحال لا يكون هذا الأمر غير أخلاقي، وعلى المتحمّسين لهذه الألقاب تفهّم هذه القناعة التي يحملها الآخرون.
ثانياً: إنّ المطلوب وضع صيغ تنظيمية لحركة الألقاب في وسط المؤسّسة الدينية وغيرها، فكما هناك معيدٌ، وأستاذ، وأستاذ مساعد، وأستاذ دكتور و.. وهي عناوين تؤخذ نتيجة صيغ قانونيّة، ولو تمّ اللعب عليها أحياناً مع الأسف، كذلك من المطلوب أن تكون في الحوزات العلميّة والمعاهد الدينية صيغ واضح ومحدّدة لحصول الشخص على سمة معيّنة، بحيث لا تبقى هذه القضيّة عرضةً للفوضى النسبيّة، وأبرز مثال على ذلك عناوين مثل: الفاضل وآية الله وآية الله العظمى والمجتهد و.. فلو أنّ هناك جهات رسميّة معترف بها عند الجميع وتتسم بحياديّة عالية، تمنح أوصافاً معيّنة نتيجة حصول الشخص على مواصفات قياسيّة محدّدة سلفاً ودقيقة، لما وصلت الأمور إلى الفوضى التي نشهدها في بعض الأحيان اليوم، وهذا أمر يبدو لي من الصعوبة بمكان تحقّقه في المنظور القريب، لكنّها فكرة أطرحها للتداول لا أكثر؛ وغرضي هو العمل على الحيلولة دون سرقة هذه الألقاب من قبل غير المستحقّ لها.
ثالثاً: تختلف الألقاب التي يحملها الناس، فهناك ألقاب تعبّر عن صفة كالعالم الديني والفيزيائي والكيميائي والصيدلي والطبيب والنجار والبنّاء والرئيس والوزير والنائب والأستاذ والمعلّم والمساعد والمعاون والمدير والمشرف والموظّف والناشط والمدرّب واللاعب والمُخرج والمنتج والممثل والسياسي.. وهذه الألقاب لا مشكلة فيها في نفسها ما لم تصطدم بمفهوم ديني أو أخلاقي في حالةٍ ما كما أشرنا قبل قليل؛ لأنّ هذه الأوصاف مشتقّة ـ في العادة ـ من طبيعة عمل أصحابها، فالمعلّم هو رجلٌ يمارس مهنة التعليم، فهو معلّم، ومن هنا تكون هذه الأوصاف عاديةً جداً ولا تحمل أيّ مضمون سلبي أو غير واقعي، وهذا ما يتلقّاه العرف وعموم الناس لها أيضاً، ولا يشعرون بأيّ مضمون إضافي لهذه الكلمة مغاير لطبيعة العمل الذي يقوم به صاحبها، ويجدونها على مقاس أصحابها عادةً.
إلا أنّ هناك نوعاً آخر من الألقاب يحمل مضموناً أكبر من كونه مجرّد اسم فاعل أو سمة مهنيّة مشتقّة من عمل، وهذا النوع من الألقاب عادةً ما يكون هلاميّاً، ولكي لا نبتعد كثيراً نأخذ مثال: المفكّر أو المفكّر الكبير، فهذه الكلمة لو اُخذت بصفتها اسم فاعل لأطلقت على جميع الناس، لكنّها هنا لا تؤخذ بهذه الصفة بوضعها الطبيعي، وإنّما تشير إلى نسبة عالية من التفكير يمتاز بها هذا الشخص، وهذه النسبة غير محدّدة بل هي هلاميّة، ولهذا لا توجد ضوابط تحدّد مثل هذه الصفة، الأمر الذي يسمح بسرقتها وتقمّصها بهذا المعنى للسرقة. إنّ هذا النوع من الصفات يحمل قيمة مضافة لصاحبها في المجتمع قد تتجاوز حجمه الطبيعي، والمطلوب هنا درجة عالية من التشدّد، وقد رأينا في الفترة الأخيرة كثرة استخدام مثل هذا اللقب على أشخاص ربما كتبوا كتاباً أو كتابين في قضيّة جزئية هنا أو هناك، إنّني أدعو للمبالغة في التشدّد في استخدام هذه الألقاب التي تصنع مسافةً بين الناس وبين صاحبها ـ كما قال علي حرب ـ وهي مسافة هلاميّة قد تترك الصفةُ معها أثراً سلبيّاً في التجربة الاجتماعيّة.
ولو ذهبنا ناحية ألقاب علماء الدين، لاسيما تلك التي تحدّثنا عنها في العصر الصفوي، ثم القاجاري، وعلى رأسها مثل لقب آية الله وآية الله العظمى، لوجدنا الأمر أكثر وضوحاً. إنّ مشكلة هذه الألقاب ـ إضافة إلى الهلاميّة التي فيها، وعدم وجود معيار واضح يضبط إيقاعها ومعناها ـ ليس في أنّك تنحت مصطلحاً، فهذا حقّك، وبإمكانك نحت أيّ مصطلح، وبإمكان أيّ مؤسّسة علميّة أن تفعل ذلك، إنّما المشكلة الأساسيّة في هذا النوع من الألقاب هو التأثير النفسي السيكولوجي الذي تحمله على عموم المجتمع، ففي الوقت الذي كان الأنبياء والأئمة والأوصياء يحملون ألقاباً عادية في حياتهم اليوميّة وفي حقّهم، فيناديهم الناس ويتحدّثون عنهم بألقاب معقولة، ولا يطالبون الناس بأكثر منها، تأتي هذه الألقاب اليوم لتربط الشخص بالله، وليتحوّل إلى ظلّ الله على الأرض، وليكون آيته العظمى ودلالته الكبرى، ومثل هذه التوصيفات تدخل الهيبة والرهبة في نفوس الآخرين ـ ولو اعتادوا عليها ـ لاسيما عامّة الناس؛ لانّها لا تعبّر عن واقع علمي أو فعلي في الشخص فقط، حتى لو قيل بأنّ هذا هو المراد منها، بل هي تعبّر أيضاً في خفاياها ودلالاتها النفسيّة عن بُعد إلهي في هذا الشخص، وقد سبق لي أن نشرتُ قصّةً سمعتها من أستاذنا المرجع السيد محمود الهاشمي حفظه الله، فقد قال لي بأنّ شخصاً في زمان السيد محسن الحكيم كان يريد أن يُرسل له رسالة، ولمّا أراد تصدير الرسالة بما فيه مدح واحترام لشخصيّة السيد محسن الحكيم رضوان الله عليه، شعر من شدّة عظمة السيد محسن الحكيم أنّه لم تعد تكفيه كلمة آية الله العظمى، فخاطبه بالقول: إلى (الله العلماء) السيد محسن الحكيم!! ماذا تعني هذه القصّة بصرف النظر عن تفاصيل حرفيّاتها؟ إنّها تعني أنّ هذا الكاتب أدرك بأنّه ليس فوق آية الله العظمى إلا الله، إنّه ربط في لاوعيه بين هذا المرجع وبين الله، فهل يمكن بناء حريات فكريّة في وسط من هذا النوع.؟ وهل سيتمكّن حتى طلاب العلوم الدينية من أن يطلقوا ـ وبالمقدار اللازم ـ الإبداع الكامن في صدورهم أمام مثل هذه الشخصيات أم سيعيشون التهيّب النفسي منها؟ وهل من المطلوب أساساً تقديم رجال الدين بهذه الطريقة أم أنّهم بشر يجتهدون ويصيبون ويخطؤون، وعلى الأمّة تصويب حركتهم وعليهم تصويب حركة الأمّة؟ وهل ثقافة التأليه (صدر المتألّهين وآية الله والحكيم الإلهي والحكيم المتألّه وأستاذ البشر والعقل الحادي عشر وجامع المعقول والمنقول) هي ثقافة محبوبة دينيّاً أم أنّ ثقافة بشريّته هي المحبوبة مع كونه غير معصوم؟ إنّ تقديم الزعماء الدينيّين على أنّهم ظلّ الله على الأرض والناطقون باسم الله، وإشعار المجتمع بأنّهم فوق النقد، وبأنّهم يدركون ما لا يدركه أحد، وأنّ لهم حبل خاص ممدود لهم بين السماء والارض، مرفقاً ذلك كلّه بهذه التوصيفات التأليهيّة التي تزيد في تقديري على توصيفهم بكلمة (إمام)؛ لأنّ كلمة (إمام) تُفهم في السياق الإسلامي العام على أنّه المتقدّم بين أقرانه، بينما هذه تفهم على أنّه المتصل بالله تعالى، وتُشعر الناس البسطاء الطيّبين بأنّ هؤلاء العلماء مسدّدون قريبون من العصمة (وقد رأينا عمليات نحت المصطلحات التي تحاول إثبات رتبة من العصمة لبعض الأولياء من غير المعصومين كمصطلح العصمة الصغرى والعصمة المكتسبة وغير ذلك).. إنّ تقديم علماء الدين بهذه الطريقة يلحق ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ الضرر بالمقاصد التي وضعها الدين في علاقات الناس فيما بينها، فتاريخ الدين وأدبيّاته تختلف عن هذا النهج تماماً.
كما أنّ تعبير (خاتم) الفقهاء والمجتهدين والأولياء وغير ذلك، فيه الكثير من المبالغة والإيحاء بانتهاء أفق التفكير، وقد سمعنا بعضهم يتكلّم عن انتهاء الفقه بعد السيد الخوئي، حتى قال بعض الفقهاء في قم: إنّه لن يوجد من هو أعلم من السيد الخوئي في مستقبل الأيام، وكلامه وإن كان على نحو المبالغة، لكنّ هذه اللغة لا تساعد على خلق فضاء إبداعي تحتاجه المؤسّسة الدينية دوماً أيّما حاجة، كما تحتاجه المؤسّسات العلميّة الأخرى كافّة.
القضيّة ليست في المعنى اللغوي لكلمة آية الله، فهو إمّا آية تكوينية، وكلّ الخلق كذلك، أو آية بمعنى الدالّ على الله، وكلّ واعظٍ في سبيل الله آيةٌ لله في هذه الحال حتى لو لم يكن عالماً دينيّاً، إنّ القضيّة في الحمولات المعنائيّة التي تصاحب هذه الأوصاف، والتي لا نجدها تعبّر عن التوجّه الديني العام، وعن سلامة العلاقة بين الناس وبين هؤلاء العلماء. من هنا لا نحرّم هذه الألقاب، ولا نعاديها لكنّنا نتحفّظ عليها، ونرى من الأفضل استخدام ألقاب واقعيّة لا تحوي مثل هذه التأليهات، مثل كلمة المرجع، والمرجع الديني، والفقيه، والمجتهد، والمفسّر، والمحدّث، والفيلسوف، والمتكلّم، واللغوي، والقاضي، والمفتي، وغير ذلك من الأوصاف التي تحفظ حرمة هؤلاء الأشخاص من جهة، وتعطيهم ـ من جهة ثانية ـ مكانتهم، دون محاذير على المستوى الاجتماعي والثقافي والنفسي والتوعوي العام.
وهناك مشكلة أخرى في هذه التوصيفات، وهي أنّ الذي يقبل بها كيف يتعاطى مع الموضوع؟ فإذا تعاطى معه بجدّية فهذا معناه أنّه يعاني من نرجسية عالية، وربما وقع في الغرور وتعملق الذات، وهي مفاسد أخلاقيّة كبيرة ينبغي التنبّه لها، ولهذا يجب اختبار النفس في أنّه لو لم تطلق عليّ مثل هذه الأوصاف فهل أنزعج أم لا؟ ولماذا أنزعج حقّاً؟ وما هو السبب الحقيقي الكامن وراء انزعاجي؟ أليست هناك شبهة تفاخر وتعملق في مثل هذه الأوصاف، هي التي دعت مثل الشيخ بهجت وغيره لاستبدالها بكلمة (العبد)؛ لأنّه يرى أنّ هذه الأوصاف تقف في مقابل التذلّل الطبيعي المعبّر عنه بالعبوديّة لله تعالى؟
وختاماً، إنّني أدعو لطيّ صفحة الماضي والتأسيس لمرحلة جديدة في هذا الموضوع. أدعو لهجر ثقافة الألقاب التي جاءتنا منذ العصر الصفوي والعثماني، ثم القاجاري وإلى اليوم، هجراً تامّاً قدر الإمكان ولو بشكل تدريجي، واستبدالها بألقاب أكثر واقعيّة وتواضعاً، وفي الوقت عينه تحوي الاحترام اللازم والتقدير الكبير لهؤلاء العلماء، رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين إنّه وليّ قريب.
احسنت واجدت ووفيت وابلغت بالحق والصدق جزاك الله على كل حرف كتبته وكل وقت قضيته وفكر اثريته
احسنتم لطالما بحثت عن هذا الموضوع وعن مصدر هذه الالقاب غير المحدودة
أحسنت وأبدعت بارك الله فيك ونفع بما جئت به وجعله في ميزان حسناتك ..التجرد من الأهواء وابتغاء وجه الله تعالى فيمن يبحث ويكتب ويعمل على نشر ما وصل إليه هي ميزة الباحث الصادق والأمين …وفقك الله وسدد خطاك