• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
الاجتماعية والأخلاقية التاريخ والسيرة الفقهية والشرعية الفكرية والثقافية الفلسفية والكلامية القرآنية والحديثية
# العنوان تاريخ النشر التعليقات الزائرين
296 الأحزاب السياسيّة، مشروعيّتها الفقهيّة وإشكاليّاتها الميدانيّة 2015-10-05 4 13779

الأحزاب السياسيّة، مشروعيّتها الفقهيّة وإشكاليّاتها الميدانيّة

السؤال: ألا يتنافى الإسلام مع الانتماء للأحزاب والحركات خصوصاً حين يكون هذا الانتماء يحمل نوعاً من التعصّب؟ ألا يعني الإسلام التسليم لحقيقة واحدة والتخلّي عن الحزبيّة والعشائريّة والعنصريّة؟ أليس ما نشهده اليوم من التعصّب لأحزاب ومراجع دينيّة منافياً لحقيقة وجوهر الإسلام؟ (رحاب عطوي، لبنان).

الجواب: العلاقة بين الدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص من جهة والحزبيّة والانتماءات التنظيميّة السياسيّة من جهة ثانية لها جوانب متعدّدة، وقد وقع جدل في شرعيّة أو نفعية أو جدوى العمل الحزبي منذ مطلع القرن العشرين تقريباً، وكان هذا الجدل يشتدّ ثم يضعف تبعاً للمرحلة، حيث شهد ظهوراً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حتى على المستوى الشيعي في سياق تأسيس بعض الأحزاب مثل حزب الدعوة الإسلاميّة في العراق، بعد أن كان شهد ما يشبهه في أجواء تأسيس حزب التحرير. وكذلك شهد حضوراً في بدايات انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران كما تشرح لنا بعض المواقف آنذاك وخلفيّات الجدل في شرح الدستور الإيراني تارةً (انظر الجزء الثاني من كتاب: صورت مشروح مذاكرات مجلس بررسي نهائي قانون اساسي جمهوري اسلامي ايران، عند الحديث عن المادة 30 من الدستور) وقضيّة الحزب الجمهوري أخرى، وهكذا شهدنا مثل هذا الجدل في الفترة الأخيرة عقب سقوط نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، حيث وقع خلاف بين التيارات الدينية والسلفية حول شرعيّة تشكيل الأحزاب الدينيّة، ضمن جدل سياسي تعلّق بأحد هذه الأحزاب المعروفة هناك، وظلّت المواقف والفتاوى تظهر هنا وهناك بين الفينة والأخرى تتخذ آراء مختلفة من تشكيل الأحزاب عامّة والأحزاب الدينية بشكل خاصّ. كما شهدت الساحة الباكستانية ـ ومنها الساحة الشيعيّة أيضاً ـ جدلاً حول شرعيّة الأحزاب بين التوجّه نحو مفهوم الأمّة ومفهوم الحزب ما يزال قائماً في بعض الأوساط إلى يومنا هذا.

ولا نريد أن نستعرض المشهد الجدلي في هذا الموضوع، فقد كتبت العديد من الكتب والمقالات، وصدرت الكثير من المواقف أو الفتاوى أو التوجيهات في هذا الصدد، يمكن مراجعتها لمن أحبّ (وممّن ساهم في هذا الموضوع أودّ ذكر بعض الأسماء فقط: السيد محمّد باقر الصدر، الشيخ حسين علي المنتظري، الشيخ علي الكوراني، الدكتور داوود فيرحي، الشيخ محمّد صادق الكرباسي، الشيخ عبد العزيز بن باز، الدكتور صادق حقيقت، عبد القيّوم سجادي، الشيخ محمد مجتهد شبستري، الشيخ تقي الدين النبهاني، الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، السيد محمّد حسين فضل الله، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الشيخ مصطفى العدوي، الشيخ أبو إسحاق الحويني، السيد محمد الحسيني الشيرازي، السيد حسن الشيرازي، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، السيد محمد حسين البهشتي، الدكتور محمّد عمارة، الشيخ يوسف القرضاوي، الأستاذ مصطفى الزرقا، وعبد العزيز الخياط وغيرهم..)، ولكنّني سوف أحاول هنا أن أتناول هذا الموضوع باختصار بالغ لأشرح المواقف، ثم مستنداتها، والتعليق عليها، واتخاذ مواقف من هذا الموضوع؛ لأختم كلامي في الإشكاليّات التي تواجه العمل الحزبي والتي ينبغي أخذها بعين الاعتبار أثناء ممارسة هذا العمل.

أولاً: الاتجاهات المختلفة في شرعية العمل الحزبي، الأدلّة والمناقشات

ظهرت على مستوى الجانب الشرعي الفقهي، آراء متعدّدة من جانب بعض الفقهاء أو الباحثين الإسلاميّين من مختلف المذاهب، وقد انقسموا في الرأي إلى اتجاهات أبرزها:

1 ـ اتجاه حظر العمل الحزبي مطلقاً أو رفضه

الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه الذي يرى حرمة تأسيس الأحزاب مطلقاً أو رفض تأسيسها، وأنّ الحزب هو مشروع غير شرعي مهما كان وكيفما كان. وهؤلاء تارةً وجدنا عندهم أدلّةً تحرّم العمل الحزبي بالعنوان الأوّلي، وأخرى وجدنا التحريم عندهم ينطلق من العنوان الثانوي ومن بعض النتائج المضرّة التي تلحق هذا النوع من العمل، كما سنلاحظ من خلال عرضنا القادم إن شاء الله. ومن أبرز المنطلقات التي ينطلق منها هذا الفريق ـ بعد حذف العديد من الأدلة واضحة الضعف جداً ـ ما يلي:

الدليل الأوّل: إنّ الحزب نظام أو تنظيم لم يكن له وجود في عصر النصّ، ولم يعرفه النبي ولا أصحابه، ولا عُرف في عصر السلف من الأئمّة والصالحين، وهذا يعني أنّ بناء الحياة الإسلاميّة أو الجماعة المسلمة على نظام العمل الحزبي يستبطن شيئاً من البدعة؛ فلابدّ من ترك هذه السبل الحادثة والعودة لما عليه السلف في هذا المضمار. وهذا ما يُنتج أنّ تكوين فقه سياسي حزبي من خلال النصوص الدينية هو عملية غير مجدية وغير ممكنة.

ولكنّ هذه الطريقة من الاستدلال، والتي أكثر جماعة من علماء المسلمين استخدامها في إصدار أحكام شرعيّة، تعاني من خطأ منهجي، فالبدعة ليست كلّ شيء حادث أو كلّ طريقة عمل حادثة، إنّما البدعة هي الأفكار أو الأقوال أو الأفعال أو المناهج التي لا وجود لها في الدين، ثم تتمّ ممارستها أو التنظير لها بوصفها جزءاً من المنظومة الدينيّة ولو في الوعي الشعبي العام، فإذا تمّ اعتماد العمل الحزبي في عصرنا الحاضر، وتمّ تلقّي العمل الحزبي بوصفه أمراً دينيّاً جاء به الكتاب والسنّة، فهذه بدعة؛ لأنّها إدخال ما ليس من الدين فيه، أمّا لو تمّ اعتماد العمل الحزبي بوصفه طريقة عمل بشريّة لتنظيم نشاط الجماعات السياسية والاجتماعيّة دون أن تنسب نفس هذه الطريقة إلى أصل الدين وإلى الكتاب والسنّة، فليس هذا ببدعة، فأيّ فرق بين العمل الحزبي من هذه الناحية وبين اعتماد وسائط النقل الحديثة؟ ولماذا كان اعتماد التكنولوجيا لا يمتّ إلى البدعيّة بصلة بينما اعتماد (تكنولوجيا الإدارة إذا صحّ التعبير) بدعة؟ إنّ أصل هذا التفسير للبدعة غيرُ صحيح. وهذا كلّه مع غضّ النظر عن مستندات المرخّصين في العمل الحزبي والتي سنشير لبعضها قريباً إن شاء الله.

الدليل الثاني: إنّ تأسيس الأحزاب بشكلها المعاصر يرجع إلى الثقافة الغربية الليبرالية الحديثة والثقافة الشرقية الماركسيّة الشيوعيّة، فلم يعرف العالم الأحزاب بهذا الشكل سوى في القرنين الأخيرين؛ لأنّها وليدة الحياة الديمقراطية، وهذا يعني أنّ اعتماد طريقة العمل الحزبي نوعٌ من التأثر الثقافي بالغزو الغربي الكافر، وهو ما يضع مناهج عملنا في إدارة المجتمعات موضع اعتماد مرجعيّة الغرب والتخلّي عن مرجعيّة الكتاب والسنّة.

ولكنّ هذه المحاولة الهادفة لتحريم العمل الحزبي غير دقيقة أيضاً رغم بذل بعضهم جهوداً في تكريسها؛ فمجردّ ظهور العمل الحزبي بشكله المعاصر خلال القرنين الماضيين في الغرب ـ وإن كان بعضهم يرى أنّ العمل الحزبي التنظيمي موجود حتى في تاريخ المسلمين منذ القرن الأوّل مع الخوارج وبعض الشيعة وتنظيمات أخرى، مع فارق وجود تطوّر تنظيمي في العمل الحزبي الغربي ـ لا يعني أنّ العمل الحزبي هو أمر محرّم؛ لأنّ العمل الحزبي ليس سوى صيغة بشريّة تنظيمية قابلة للتطوّر بفعل تراكم الخبرات البشريّة، وأيّ ضير في اعتماد هذه الطرق حيث لا تصادم القيم الدينية والأخلاقيّة؟! فكما نعتمد اليوم الأنظمة الإدارية لإدارة الدولة أو المؤسّسات الحكومية أو الأهليّة أو الشركات الاقتصادية وغيرها، ونرفض منها ما كان معارضاً للدين (مثل تشريع القوانين مع الاستقلال عن النصوص الدينيّة) كذلك الحال في العمل الحزبي، فليس سوى طريقة تنظيم بشري للوصول إلى أهداف محدّدة. وبحسب ما يُنقل عن السيد محمد باقر الصدر فإنّ العمل الحزبي يشبه مسألة توزيع كتاب، في أنّه ما هي أفضل الطرق لتوزيعه وإيصاله إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء، والتنظيم الحزبي ليس سوى طريقة لإيصال الأفكار الإسلامية والإنسانيّة لأكبر عدد ممكن من الناس (انظر: علي الكوراني، طريقة حزب الله في العمل الإسلامي: 89)، وينطلق السيد الصدر في فكرته هذه ـ على ما يبدو ـ من اعتقاد ساد في تلك الفترة أنّ المؤسسة الدينيّة لم تعد قادرة على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس وإدارة أمورهم ومتابعة قضاياهم للبلوغ بهم نحو تحقيق الأهداف الإسلاميّة، بينما طريقة العمل الحزبي قادرة على فعل ذلك. إضافةً إلى فكرة أخرى كان مرحّباً بها في تلك الفترة في غير بلد كالعراق ولبنان، وهي أنّ ظهور حزب إسلامي سوف يؤدّي بشكل أو بآخر إلى انضواء الشباب المسلم تحت لوائه، بدل الذهاب هنا وهناك للانخراط في التنظيمات الحزبية الماركسيّة أو القوميّة أو اليساريّة عموماً بأشكالها، فالشباب يريد تحقيق مصالح أوطانه، وهو لا يجد غير هذه الطريقة في العمل سائدةً في زمنه، فما لم نقم باحتوائه عبر هذه الطريقة فسوف يذهب إلى التيارات السياسيّة الأخرى، ومن هنا استند بعض القائلين بشرعيّة العمل الحزبي ـ كتقي الدين النبهاني وحسين علي المنتظري وغيرهما ـ إلى عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وإن كان بعضهم اعتبر الحزبيّة ـ على النقيض ـ بديلاً غير طبيعي لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وعليه فليس إذا كانت الطرق البشرية قد جاءت من الغرب فهذا يعني بالضرورة أنّها محرّمة. نعم، طبيعة علاقة الأحزاب بالدولة الإسلاميّة أو المرجعيّة الدينية، وكذلك مسألة التعدّدية الحزبية، موضوعان آخران، فكلامنا في أصل الفكرة حاليّاً.

الدليل الثالث: إنّ تأسيس الأحزاب يؤدّي إلى وقوع التفرّق والانقسام في المجتمع، فكم رأينا بعد تشكيل الأحزاب ـ بما فيها الأحزاب الدينية ـ من صراعات حزبيّة جرّت على المجتمعات الإسلاميّة الويلات، وحيث إنّ الفرقة محرّمة فلابدّ لنا من الحكم بحرمة مختلف أنواع المقدّمات القريبة المؤدّية إلى حصول هذه الفرقة بين شرائح المجتمع ومكوّناته، وعليه فينبغي الحكم بحرمة الانتماء الحزبي درءاً لمفسدة الفرقة والتمزّق.

وبعبارة أخرى: إنّ تشكيل المنظّمات الحزبيّة يوقع الفرقة في بلاد المسلمين وأوطانهم، ويُكثر التنازع والاختلاف على السلطة، وهو أمر منبوذ، وقد أكّدت التجارب مثل هذا الأمر، فعلينا التخلّي عن أسلوب إنشاء الأحزاب إلى اعتماد خيارٍ آخر لا يوقعنا في هذا الوضع الفتنوي البغيض.

وهذه الإشكاليّة حقيقيّة؛ لكنّها لا تُدار بهذه الطريقة حتى نُصدر أحكاماً عامّة حول فقه العمل الحزبي في الإسلام، ففي الغرب وكثير من الدولة المستقرّة لا تؤدّي الأحزاب المتعدّدة إلى شيء من هذا النوع، وفي بلداننا نجد الفرقة حتى مع عدم وجود الأحزاب، وهذا يعني أنّ المشكلة ليست في تأسيس الأحزاب في البلدان المسلمة، وإنّما تارةً في التعدّدية الحزبيّة (وهذا موضوع مختلف عن أصل وجود الحزب) وأخرى في طريقة إدارتنا للاختلاف في بلداننا، فما لم نقم بالوصول إلى حلول لعنف اختلافنا المفضي إلى تراجع تطوّرنا وتقدّمنا، فإنّ وجود الأحزاب وعدم وجودها سوف يكون بنسبة واحدة تقريباً. وهذا لا يمنع من تحريم العمل الحزبي في بعض الفترات الزمنيّة أو في بعض البلدان إذا كانت طريقة العمل الحزبي تؤدّي في لحظة زمنية أو مكانية معيّنة إلى مفاسد كبيرة على المجتمع، إنّما كلامنا في إصدار حكم عام في هذا الموضوع، وهو ما لا تفي به هذه المقاربة الاستدلاليّة للتحريم، فهل تأسيس الأحزاب في الغرب يشمله هذا التحريم؟ وهل تأسيس حزب مسلم في الغرب يرعى مصالح الأقلّيات المسلمة يشمله شيء من هذا النوع؟!

الدليل الرابع: الاستناد إلى الاستخدام القرآني لكلمة (حزب ـ أحزاب)، فكلمة الأحزاب وردت في كل الآيات للإشارة أو متضمّنة للذم (انظر: هود: 17، الرعد: 36، مريم: 37، الأحزاب: 20، 22، ص: 11، 13، غافر: 5، 30، الزخرف: 65)، كما أنّ قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (المؤمنون: 52 ـ 54)، وقوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 30 ـ 32). إنّ هذه النصوص تشمل واقع الأحزاب اليوم، فإطلاق كلمة (حزب) تستوعب هذه الأحزاب المعاصرة. ومن الواضح أنّ النصوص بصدد الذمّ والتحريم فيستفاد منها تحريم تشكيل الأحزاب. ولعلّ هذا الدليل والذي قبله من أهم أدلّة من ذهب من الباحثين إلى حرمة الانتماء للأحزاب أو تشكيلها إذا كثرت وضجّ بها المجتمع.

ولكنّ هذا الاستدلال ضعيف جداً، فإنّ كلمة (حزب) في اللغة ترجع إلى معنى الطائفة من الشيء، والطائفة من الناس يقال لهم حزب، كما الطائفة من الآيات القرآنية يقال لها: حزب، والنصوص هنا تريد أن تقول بأنّ هؤلاء الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً إنّما يذمّون على فعلتهم هذه، كيف مزّقوا دينهم وتحوّلوا إلى جماعات يفتخر كلّ واحد منهم بفئته، وهذا إذا انطبق على الأحزاب المعاصرة فهو ينطبق على المذاهب أيضاً! فلماذا كان الانتماء للمذاهب حلالاً وواجباً فيما الانتماء للأحزاب حراماً؟! لاسيما وأنّ الأحزاب لا تكون بالضرورة موجبةً لتمزّق الدين، فقد تكون أحزاباً غير عقائديّة ولا أيديولوجيّة، وإنّما هي أحزاب سياسية وخدميّة فقط على الطريقة المعمول بها في بعض بلدان العالم اليوم، فالإشكاليّة التي تثيرها الآيات هي إشكاليّة الفُرقة لا إشكاليّة تأسيس حزب بالمعنى المعاصر، إنّها إشكاليّة التمزّق والتشرذم والغرور بالذات الصغيرة والتضحية بالذات الكبيرة والدين كلّه لمصالح جزئية للجماعة الصغيرة، وهذه مشاكل تعاني منها الأحزاب والتيارات الدينية والمذاهب والمدارس الفكرية وغيرها إذا لم تُحسن إدارة اختلافها بما لا يضرّ بالوحدة العامة والعيش المشترك والسلم الأهلي والخلاف والحوار الهادئ. بل يمكن أن يقال بأنّ اختلاف الأحزاب فيما بينها قد يكون أحياناً تعبيراً عن نوع من الاختلاف في الاجتهاد الشرعي والمصالح الشرعية العامّة، فأيّ فرق بينه وبين اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم؟!

إنّ الأمر المنطقي أكثر هو أن نعتبر فضاء النصوص القرآنية المستخدمة لكلمة الحزب والأحزاب فضاءً أجنبيّاً تماماً عن موضوع بحثنا، وإنّما غرّنا فيه تشابه التعبير فقط، هذا فضلاً عن وجود مفهوم الحزب الممدوح في القرآن الكريم أيضاً مما لا يصحّ تجاهله لو صحّت هذه المقاربة، مثل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة: 56)، وقوله سبحانه: (.. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22)، وعليه فلا حزب الله في الآية إشارة إلى تنظيم سياسي خاصّ ولا حزب الشيطان في آيات أخر إشارة لمثل ذلك، بل هي تعبير عن جماعة المؤمنين وجماعة الكافرين عامّة.

الدليل الخامس: إنّ العمل الحزبي يفضي بمرور الزمان إلى مجموعة من السلبيّات التي يصل حدّ بعضها إلى التأثير في إشكاليّة شرعيّة ودينيّة، وذلك مثل أنّ تنامي مرجعيّة الأحزاب في الحياة السياسية والاجتماعيّة بين المؤمنين سوف يؤدي شيئاً فشيئاً إلى تضاؤل مرجعيّة علماء الدين والفقهاء الكبار، وهذا ما يلمس في تجربة ما يسمّى بـ(الإسلام السياسي السنّي)، حيث شهدنا في غير موقع عدم وجود فقهاء كبار يمثلون مرجعيات دينيّة للحركات الإسلاميّة مما جعل نموّ هذه الحركات بمعزل عن المؤسّسة الدينية والحواضر العلميّة في بلاد المسلمين. ومن الواضح أنّ إضعاف مرجعيّة الفقهاء وما تحمله من مرجعيّة الشريعة القائمة على الاجتهاد الشرعي أمرٌ بالغ الخطورة، فينبغي تجنّبه فوراً. وهذا كلّه لأنّ العمل الحزبي قائم على النظام الديمقراطي ونظام الانتخابات، فمن حصل على الآراء وصل إلى قيادة الحزب حتى لو لم يكن مجتهداً فقيهاً، ومن ثمّ فمصدر القرار في الأحزاب ليس مصدراً شرعيّاً. وشيئاً فشيئاً يظهر الوجه الحقيقي للأحزاب وهو أنّ صيغتها صيغة بشريّة لا تنتمي إلى الدين، بل إلى نظام الأكثريّة الذي قد يوافق الحقّ تارةً ويخالفه أحياناً أخَر.

وهذه الإشكالية التي أثارها كثيرون من أمثال السيد حسن الشيرازي قبل نصف قرن تقريباً، ليست سهلة أبداً، وهي تنبؤ عن وعي كبير لدى قائليها لو أخذنا بعين الاعتبار لحظتها الزمنيّة، فمن الواضح أنّ قوّة الأحزاب الدينيّة عندما تتعاظم فإنّها قادرة على ابتلاع قوّة ونفوذ المرجعيات الدينيّة، أو على الأقلّ الحدّ من تلك المرجعيّات في التأثير على القاعدة الشعبيّة أو على العناصر المنتمية لهذا التنظيم، وهذا شيء لمسناه في غير موضع وله وجهة نظره الصحيحة. لكن هل هذا يعني تحريم العمل الحزبي أو أنّه يفرض ضرورة تقييد هذا العمل بمرجعيّة دينيّة؟ ولا نعني بذلك أن يصبح المرجع الديني هو رئيس هذا الحزب بالضرورة، بل أنّ تُحال قوانين الحزب وقراراته الكبرى إلى مجلس فقهي للتصويب عليها أو لممارسة حقّ النقض تجاهها إذا صادمت الشريعة أو القيم الدينيّة، ومن ثمّ فهذه الإشكاليّة لا تلغي شرعيّة تشكيل الأحزاب بقدر ما تقونن هذه الشرعيّة بما لا يلحق الضرر بالقيم الدينيّة.

هذه الصيغة التي قلناها تنسجم مع أغلب الاتجاهات الفقهيّة، أمّا على اتجاه الولاية العامّة للفقيه فيجب افتراض تعديل في الصيغة؛ لأنّ نظرية ولاية الفقيه العامّة تعتبر ـ في الرأي المشهور فيها ـ أنّ كلّ ما ينتمي للشأن العام فلا يجوز القيام به إلا بإذن الفقيه، وهذا يعني أنّ أصل تشكيل الأحزاب وخوض الحياة السياسية الحزبيّة مشروط بإذن الوليّ الفقيه ومحدّداته التي يضعها وتشخيصاته الموضوعيّة، بينما على سائر النظريات المشهورة فقهيّاً لا يجب أخذ إذن الفقيه في العمل الحزبي، وإنّما اللازم هو أن لا يُقدم التنظيم على أمر يخالف بنود الشريعة التي يقدّم الفقهاء رؤيتهم الاجتهاديّة فيها. بل لو قلنا بعدم وجوب تقليد الأعلم فإنّ قيادة الحزب الإسلامي يمكنها أن تختار من الفتاوى القائمة في عصرها ما ينسجم مع اُطروحتها ورؤيتها السياسية بحيث لا تكون مخالفةً لموقف شرعي مخالفةً حاسمة، وهذا باب يفتح أيضاً في هذا السياق ولا يلزمنا بوجود فقيه في أعلى هرم التنظيم الحزبي، كلّ ما يلزمنا به هو وجود مجلس رقابة شرعي يقوم بمنع أيّ خطوة تخالف الشريعة وفقاً لاجتهادات الفقهاء المعاصرين.

وأعتقد شخصياً أنّ ملاحظة السيد حسن الشيرازي رحمه الله كانت تنطلق آنذاك من فضاء تجربة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، ولم تكن قد أخذت بعين الاعتبار التجربة الحزبيّة الدينية التي تطوّرت ـ شيعياً أيضاً ـ فيما بعد.

الدليل السادس: إنّ العمل الحزبي يؤدّي إلى تنامي الدعوة للحزب واختفاء الإسلام والقيم اختفاءً ضمنيّاً، فتصبح مصالح الحزب أكبر في الحضور من مصالح الإسلام وقضاياه، وتضيع الأمور الدينية في خضم الأمور السياسيّة، وينتج عن ذلك تنظيمات استبداديّة وزعماء مستبدّون بلباس ديني، وهذا أمر خطير جداً يكفي للإفتاء بحرمة هذا المسلك في العمل السياسي؛ لأنّه يكرّس تأليه الفرد ـ الزعيم.

إنّني عندما أجيب عن هذه الأدلّة التحريمية فلا أنفي مضمون الفكرة، فهذه الفكرة صحيحة في كثير من المواقع، وتجارب الكثير من الحركات السياسية الإسلاميّة (وغير الإسلاميّة) تؤكّد ـ في الجملة ـ مثل هذه الأزمة الحقيقيّة، بل يمكن أن نزيد بأنّ الولاء للزعيم السياسي يصبح أحياناً أكبر من الولاء للقيم الدينيّة نفسها، ويصبح الزعيم السياسي مقدّماً على كلّ الشرائح المثقّفة والعلميّة في المجتمع!

لكنّ هذه الإشكاليّة لا تطال العمل الحزبي بما هو عمل حزبي، بل تطال نمطنا وطريقتنا في الانتماء، وأرجو أن ندقّق جيداً في مركز المشكلة لتشخيص المرض بعناية فائقة، فنحن في كثير من بلداننا العربية والإسلاميّة لا نجيد ممارسة عملية صحيّة في انتماءاتنا، وهذه قضية بالغة الخطورة، فعندما ننتمي لمذهب أو دين أو تيار سياسي أو حزب سياسي أو جمعيّة اجتماعية أو زعيم ديني أو مرجع ديني أو غير ذلك فنحن ننتمي بطريقة مشوّهة، تجعلنا ننغلق على انتمائنا، فننسى سلبيّات جماعتنا ونتجاهل إيجابيات الآخرين، هذه هي المشكلة، أمّا لو تجاوزنا هذا الأمر وعزّزنا من الحريّة الفكرية والسياسيّة والدينية والثقافية في مجتمعاتنا، فسوف يكون الانتماء الحزبي مثل سائر الانتماءات، لا يؤدّي إلى مثل هذه السلبيات. إنّ هذا الدليل لا يحرّم العمل الحزبي بالمطلق لكنّه يحذّرنا من الانتماءات غير السليمة أينما كانت، والتي تساهم في تكريس الخطأ ووقف النقد والمحاسبة وغير ذلك.

هذا، وقد يحاول بعض أنصار فكرة تأسيس الأحزاب أن يخفّفوا من هذه الإشكاليات المثارة هنا تارةً من خلال القول بأنّ القضية تخضع للدوران بين الضرر الكبير والضرر الأقلّ منه؛ فعدم تشكيل أحزاب سيجعل الحالة الإيمانية ضعيفة جداً وتسلب حقوق الأقليّات، وهذا ضرر أكبر من بعض الآثار السلبية الناجمة والتي يمكن الاشتغال على وضع صيغ متطوّرة لتفاديها.

وأشير أخيراً هنا إلى وجود من ذهب إلى حرمة الانتماء للأحزاب الدينيّة، لكنّه كان يرى وجوب نُصرتها من الخارج، ولعلّه أراد أن ينسجم مع نفسه في القول بالتحريم في الوقت الذي أقرّ فيه بأنّ هذه الأحزاب تقدّم خدمات جمّة للقيم الدينية والشريعة الإلهيّة.

والنتيجة: لا يوجد دليل قاطع على تحريم مطلق للعمل الحزبي.

2 ـ اتجاه التفصيل بين الأحزاب في الدولة الإسلامية والدول العلمانيّة

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يفصّل في شرعيّة الأحزاب بين تشكيل أحزاب في داخل الدولة الإسلاميّة، فيراه حراماً، وتشكيل الحزب في بلاد لا تقوم على الشريعة الإسلاميّة فهو حلال، بل أفتى بعضهم في عصرنا بوجوبه الكفائي. وينطلق هؤلاء من أنّ تأسيس الحزب في بلاد لا تطبّق الشريعة الإسلاميّة ـ كالبلدان غير المسلمة ـ فيه خدمة لمصالح المسلمين، أمّا لو اُقيمت الشريعة وحكم وليّ الأمر فإنّ إقامة أحزاب معناه معارضة وليّ الأمر ومخالفته، ومن هنا يعتبرون أنّ البديل عن الأحزاب في الدولة الإسلاميّة الشرعيّة هو النظام الشوروي القائم على مجلس شورى من الفقهاء أو غيرهم، هو الذي يحول دون حصول الاستبداد والانحراف في الحكم، وليس تشكيل الأحزاب التي سوف تقوم مقام المعارضة للدولة الشرعيّة، وهو أمر غير جائز.

وفي ظنّي إنّ بعض الذين حرّموا تشكيل الأحزاب بقولٍ مطلق، إنّما كانوا يقصدون التعدّدية الحزبيّة في الدولة الإسلاميّة، وليس مطلق تشكيل الأحزاب، فليتنبّه لذلك.

ولكنّ هذا الاتجاه غير صحيح أيضاً؛ لأنّ الأحزاب في الدولة الإسلاميّة لا تعني معارضة أصل الحكم الإسلامي بالضرورة، بل يمكن تشكيل الكثير من الأحزاب التي تقبل بقواعد الدستور الأساسيّة، ولكنّها تختلف في تفاصيل إدارة العمليّة السياسية والتنمويّة، كما هي الحال في الدول الغربيّة، وليس إذا راقبت الأحزاب مسار العمليّة السياسية أو الاقتصاديّة أو أبدت مخالفتها لوجهة نظر وليّ الأمر في موضوع معيّن، فهذا يعني أنّها تتمرّد عليه، كما هي الصورة البسيطة للمعارضة في وعي بعض الإسلاميّين، إنّما الذي ثبتت حرمته في الشرع هو التمرّد على الدولة الشرعيّة أو محاربتها، وليس إبداء الاختلاف في وجهة النظر معها مع الالتزام بالقوانين من الناحية العمليّة، فالبغاة هم الخارجون بقوّة السلاح على الدولة، وليس مطلق المخالف السياسي يسمّى باغياً، وقد سبق لي أن فصّلت في بحث البغاة وأحكامهم في مناسبة أخرى، فليراجع (انظر: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 393 ـ 451)، كيف ومحاسبة وليّ الأمر ومراقبته ونقده ونصيحته ليست من المحرّمات، بل هي من واجبات المسلمين؛ درءاً للاستبداد والظلم ولو غير المتعمَّدين، بل حتى نقد الدستور نقداً علميّاً لا يحمل خلفيّة الانقلاب على المشروع الإسلامي في خطوطه العريضة، ليس هو أيضاً تمرّداً ولا محرّماً في نفسه، وإلا فأين الدليل على تحريمه؟

3 ـ اتجاه الترخيص في العمل الحزبي

الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي يحكم بشرعيّة تأسيس الأحزاب، ولا يرى في ذلك أيّة مشكلة، وهذا الاتجاه وإن كان ظاهر كلام بعضهم أنّ هذه الشرعيّة الحزبيّة على إطلاقها، لكنّ صريح كلام آخرين، وهو ما نستوحيه ـ تأويلاً ـ من كلام المُطلقين في عباراتهم، هو تقييد هذه الشرعيّة بما سنذكره بعد قليل. بل بعض أنصار هذا الاتجاه يرتقي برأيه نحو وجوب تشكيل الأحزاب، وليس فقط الجواز كما يظهر من مثل الشيخ حسين علي المنتظري.

يرى هذا الاتجاه أنّ فكرة التحزّب والانتماء الحزبي أو العمل السياسي والاجتماعي عبر الطريقة الحزبيّة تخضع لأصل البراءة، فهي حلال ما لم يقم على تحريمها دليل؛ لأنّ العمل الحزبي ليس سوى طريقة ووسيلة للوصول إلى الأهداف، ومن ثم لا تحريم بلا موجب، والأدلّة التي ساقها المانعون هنا لا تنهض بقوّة دليلاً على اتخاذ موقف تحريمي من الحزبيّة بقول مطلق كما تقدّم، وعليه فلا توجد مشكلة شرعيّة فقهيّة في الانتماء لنظام حزبي أو سياسي أو مرجعي أو.. معيّن، ما دام هذا الانتماء يحافظ على التزام الفرد المسلم بدينه وأحكامه وقيمه وأخلاقه؛ لأنّ الانتماء الحزبي يمثّل ـ من حيث المبدأ ـ نوعاً من العمل الجماعي التعاوني للوصول إلى غرض محدّد. فإذا كان هذا التنظيم السياسي أو الحزبي:

أ ـ يحمل أهدافاً صالحة، مثل بناء الوطن وخدمة الناس ومواجهة الظلم وتنظيم العملية السياسية، وتداول السلطة والحدّ من الاستبداد (ولو الاستبداد الناعم) والدكتاتوريّة، وحماية القيم الدينية والأخلاقيّة، ورفع مستوى الوعي السياسي عند الناس، وممارسة النقد البنّاء للدولة وسياساتها و..

ب ـ ويستخدم وسائل عمل صالحة، بعيدة عن الظلم والسرقة وسلب الحقوق ونهب خيرات الأمّة وقمع الحريّات المشروعة، ويقبل بالتنوّع في المجتمع، ولا يسلب أصحاب الحقّ حقهم في العمل السياسي والاجتماعي والتربوي والديني وغير ذلك.

فإنّ الانتماء لهذا التنظيم هو انتماء لعمل جماعي تعاقدي يقوم على الخير والعمل الصالح، فلا يُفترض فيه أن يحمل أيّ مشكلة في أصل تكوينه ووجوده، ولا نملك نصّاً دينيّاً قرآنياً أو غيره يقدّم نهياً حاسماً لمثل هذا العمل التعاوني الجماعي الهادف لقيم الخير والصلاح.

إنّ الأنظمة الحزبيّة ليست شيئاً غير تأسيس مؤسّسة أو جمعيّة.. تقوم على تعاون الأفراد وتعاقدهم على صيغة عمل محدّدة يلتزمون بها وفقاً لهذا التعاقد القائم بينهم، فلا يوجد حظر شرعي أوّلي في الإسلام يمنع مثل هذه الصيغ البشرية في العمل السياسي أو الاجتماعي أو غيره، ولا يجب علينا في صيغنا السياسيّة أن نرجع إلى التجربة النبويّة بالطريقة الحرفيّة، فإذا لم نجد أحزاباً فهذا معناه أنّ الحزبيّة محرّمة! فلو صحّت هذه الطريقة للزم تحريم كلّ صيغ الأنظمة السياسيّة القائمة اليوم مثل المجلس النيابي ومجلس الوزراء وغيرها الكثير جداً من أنماط العمل السياسي أو التنظيم المجتمعي. إنّ تشكيل الأحزاب هو صيغة عمل بشريّة ظهرت منذ مدّة ليست طويلة والهدف منها تنظيم عمل الجماعات والتيارات السياسية والاجتماعيّة، فقد يكون تشكيل حزب أمراً واجباً لو توقّف رفع الظلم أو تحصيل الحقوق المشروعة على ذلك.

ومن هنا يظهر التوجيه الشرعي للترخيص في التحزّب في الاسلام، وهو:

أولاً: أصالة البراءة.

ثانياً: نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّه قد يتوقّف في المجال السياسي والاجتماعي على تشكيل الأحزاب فيجب تشكيلها من باب مقدّمة الواجب (انظر ـ على سبيل المثال ـ: المنتظري، رساله استفتاءات 2: 265 ـ 268؛ وله أيضاً: حكومت ديني وحقوق إنسان: 152 ـ 153).

ثالثاً: استخدام القرآن والسنّة لكلمة الحزب في إطار مفهوم (حزب الله)، وهذا إقرار بشرعيّة الحزبيّة التي تكون في طريق الله، وليست الحزبيّة مفهوماً غربياً حادثاً.

وهذه الأدلّة بعضها جيّد، وبعضها مؤقّت محدود مثل الدليل الثاني، فيما بعضها الآخر ـ كالدليل الأخير ـ غير ناهض كما قلنا قبل قليل.

النظريّة المختارة

وبناء على مجمل ما تقدّم يبدو لي ـ بنظري القاصر ـ أنّ صيغة العمل الحزبي هي صيغة بشريّة لخوض الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصاديّة، وليس هناك موقف ـ سلبي أو إيجابي ـ مبدئي منها، وبدلاً من التفكير التحريمي الفتوائي (والتفكير الوجوبي الفتوائي) في التعامل مع العمل الحزبي، مما يبدو لي غير مجدٍ ولا قائم على دليل، يفترض أن نعمل على تطوير صيغة عملنا باستمرار، فعندما نجد مشاكل في العمل الحزبي فعلينا الذهاب خلف إجراء تعديلات، قد تصل بنا في لحظةٍ ما إلى التخلّي عن العمل الحزبي لصالح صيغة عمل أفضل، فليس هناك جمود على حظر العمل الحزبي، ولا على اختياره، وإنّما هو أمر أداتي بشري يفترض النظر إليه من خلال تأثيراته، وانتخاب الخيار الأفضل المتاح لتحقيق الأهداف الصالحة، وهو أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والظروف والأحوال، فالأحزاب ليست شيطاناً، ولا إلهاً يُعبد من دون الله، كما أنّها لا تمثّل ـ لا في وجودها ولا في عدمها ـ ثوابت شرعيّة في العمل الإسلاميّ، ولهذا وجدنا مثل السيد الصدر يحظر على طلاب العلوم الدينيّة الانتماء لبعض التنظيمات السياسية لمصالح وقتية في زمنه على ما قيل.

ثانياً: إشكاليات في العمل الحزبي

ورغم اختيارنا عدم وجود حظر مبدئي أو إلزام مبدئي بالعمل الحزبي، إلا أنّ هذا لا يمنع عن ملاحقة بعض النتائج السلبيّة الناجمة عن العمل الحزبي، إمّا غالباً أو في بلداننا على الأقلّ؛ للحدّ من وجودها أو لدراسة مدى إمكانية تفاديها، ولعلّ من أبرز هذه المشاكل ما يلي:

الإشكاليّة الأولى: وهي أزمة الصنميّة التي تتجلّى تارةً في صنميّة الحزب نفسه، وأخرى في صنميّة الزعيم، فيصبحان كالإله يُعبدان من دون الله، فلا يرتكبان خطأ ولا هفوةً، وكلّ ما يصدر عنهما فهو صحيح وخير مطلق، وبعبارة أيديولوجيّة: عصمة الأحزاب وزعمائها. وهذه المشكلة تعاني منها تيارات غير حزبيّة أيضاً، كالمذاهب والدول والمرجعيات الدينيّة وغير ذلك. ولا يوجد من حلّ لهذه المشكلة سوى بتعزيز ثقافة الحريّة الفكرية والسياسية، وترويج مبدأ النقد البنّاء والحريص والصادق، وسوى بتداول السلطة الحزبيّة دوماً، وبمؤتمرات مراجعة دوريّة يصار فيها إلى النقد الداخلي والقيام بمشاريع تصحيحيّة مستمرّة.

الإشكاليّة الثانية: الشعور بالتمييز بين المحازبين وغيرهم من سائر المسلمين والمواطنين، فكأنّ المنتمي لهذا التنظيم يصبح إنساناً خاصّاً يتعامل معه بطريقة خاصّة، فقد تُغفر ذنوبه ولا تُغفر ذنوب غيره، وقد يتمّ التعتيم على مشاكله فيما تُسلّط الأضواء على مشاكل غيره، وقد يُمنح من الحقوق والمزايا مما هو لعامّة الناس أيضاً ولا يمنح لغيره، وقد يقدّم في بعض المواقع والوظائف لانتسابه للتنظيم السياسي ولا يقدّم غيره ممّن هو أكفأ منه. وبعبارة عامّة: التعامل مع الناس بمنطق طبقي غير مشروع دينيّاً. حتى أنّ العلاقات الاجتماعية يصار أحياناً إلى بنائها وفقاً للانتماءات الحزبية والسياسيّة! نعم من الطبيعي أن يكون للجماعة الحزبيّة تعهّداتها الداخليّة كأيّ مؤسّسة عمل أخرى، لكن أن لا يتحوّل ذلك إلى عقدة طبقيّة غير سليمة.

الإشكاليّة الثالثة: التعصّب الحزبي الذي يبلغ عند بعض الناس حدّ تخطّي قوّة الانتماء للدين نفسه.. حيث يتعملق الانتماء للتنظيم أكثر من الانتماء للدين أو الوطن، وقد لا يشعر المحازب بذلك؛ لأنّه يخضع لفضاء شديد التأثير، وقد تتفاقم هذه المشكلة بحيث يُصار إلى تقديم المصالح الحزبيّة على المصالح الدينية، لاسيما عبر عمليّة صهر لكلّ مصلحة دينية بالمصلحة الحزبيّة، فالدين ليست له مصلحة إلا مصلحة هذا التنظيم السياسي أو ذاك، وحيث إنّ الأحزاب تعمل في الشأن السياسي غالباً، فإنّها عندما تكون دينيّةً تبتلي أحياناً بتعظيم الجانب السياسي من الدين على سائر الجوانب، فلا تهتم لقضايا الناس إلا عندما تتعرّض مصالحها السياسيّة لخطر، ولا تهتم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصالح أخلاق المجتمع إلا عندما يتحوّل الفساد الأخلاقي إلى مشكلة أمنية أو سياسيّة على التنظيم، وبعبارة اُخرى: قراءة الدين والحياة بعيون سياسيّة فقط، وهذا خطر كبير تقع فيه بعض الحركات الإسلامية وتحتاج للكثير من الجهد لتلافيه إن شاء الله. والمطلوب من علماء الدين هنا الانتباه لهذا الأمر جيداً ومساعدة الأحزاب الدينية على تلافي هذه المشاكل، بتعاون أخوي صادق، وليس مساعدتها على تكريس هذه المشكلات.

الإشكاليّة الرابعة: تحريم النقد وتجريم الانتقاد، فأيّ نقد للتنظيم هو جريمة يعاقب عليها صاحبها بشكلٍ من أشكال العقاب، ولو عبر عدم السماح له بالترقّي في الرتب الحزبيّة، فالنَقَّاد غير مرحّب به كما يرحّب بالمادح المتملّق؛ لأنّ ثقافة النقد تجعل التنظيم يشعر بقلق، وهذا ما يتطلّب جهداً مضاعفاً لخلق فضاء نقدي صحّي، فلا يشعر الناقد بأنّه غير قادر على النقد إلا عندما يعادي هذا التنظيم أو ذاك، بل نعطيه مجال النقد وهو داخل التنظيم أو محبٌّ له أو مُوالٍ.

أكتفي بهذه الإشكاليّات التي لا تختصّ ـ برأيي ـ بالعمل الحزبي (ولا تبتلي بها الأحزاب بدرجة واحدة، بل تختلف شدّة وضعفاً)، بل تعاني منها أمّتنا في غير مجال، وهناك جوانب كثيرة في فقه العمل الحزبي لا نتعرّض لها هنا، مثل التعدّدية الحزبيّة، وعلاقة الأحزاب الدينية فيما بينها، والنظام الداخلي الحزبي بين الشورى وغيرها، وعلاقة التنظيم بالفقهاء من حيث التعدّد والوحدة، وعلاقة الحزبيّة بالعمليّة الديمقراطيّة وغير ذلك ممّا نتركه لفرص أخرى.

4 تعليق

  1. يقول Ali:
    2015-10-05 23:20:55 الساعة 2015-10-05 23:20:55

    احسنتم.

  2. يقول حيدر حسون:
    2015-10-09 16:11:51 الساعة 2015-10-09 16:11:51

    أحسنت شيخنا على هذا الموضوع القيم والحساس

  3. يقول سعد جفال:
    2016-07-18 23:55:46 الساعة 2016-07-18 23:55:46

    وهذا ما ابتليت به الاحزاب الدينية في العراق

  4. يقول مصطفى العرب:
    2019-01-21 08:29:46 الساعة 2019-01-21 08:29:46

    شكرا لكم شيخنا وادامكم الله ذخرا وقلما وفكرا للامة الاسلامية ولخدمة الاسلام والمسلمين.

إرسال

you should login to send comment link

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 36798384       عدد زيارات اليوم : 4144