السؤال: سماحة الشيخ، استفساراً على إجابتكم: (هل يحقّ لمن يقلّد القائل بحرمة التطبير أن ينهى من يقلّد القائل باستحبابه عنه أم لا؟)، والتي نشرت على موقعكم، كان لنا سؤالٌ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما تدور الفتاوى بين الحرمة والاستحباب، فزدتم على استفهامنا استفهامات أخرى بقولكم: «… دوران الأمر بين الفتوى بالحرمة والاستحباب، وهذا يحتاج إلى بعض القيود. كما أنّ نهي القائل بالحرمة من يقلّد القائل بالاستحباب ليس سوى نهياً عن مستحبّ، ويحتاج أن ننظر: هل يحرم نهي الناس عن مستحبّ أم لا؟ وما هي الشروط والقيود؟ فلو نهيتك عن التصدّق على زيد، لا لسبب إلا لأنني لا أريدك أن تتصدّق اليوم على الفقراء، فهل هذا النهي حرامٌ شرعاً، والمفروض أنّ التصدّق غير واجب؟ هذا يحتاج لبحث في إثباته، وله صور بعضها قد يمكن القول بحرمته، كما لو كان النهي موجباً لإماتة السنّة، دون بعضها الآخر». ونستميح سماحة الشيخ بالتطفّل على كرمه والاستزادة مما أعطاه الله، تزكيةً لعلمه ببعض التوضيح في بعض النقاط الواردة في الجواب السابق:
1 ـ هل على المكلّف الذي يريد أن يعرف تكليفه في مسألة ما، أن يسأل مرجعه، ويعمل فقط على أساس الجواب الذي عادة ما يكون بأحد الأحكام الخمسة (واجب، محرّم، مستحب، مكروه، مباح)، أم عليه كمكلّف أن يبحث في كلّ مسألة عن أنّه هل فتوى المرجع نابعة من اجتهاده في النصوص الشرعيّة أم إنها نابعة من تشخيصه للوضع القائم.. فإذا كانت نابعة من تشخيص فلا إلزام للمقلّد بالفتوى؟ وهذا سؤال عام وليس خاصّاً بمسألة معينة.
2 ـ أما بخصوص التطبير كمسألة خلافيّة وهي من مصاديق ما سألنا عنه، فنقول: هناك من يفتي بالحرمة ولا يترك للمقلّد مجالاً للتشخيص، بل هو من يشخّص الوضع ويرى الحرمة في ذلك، وهناك من لا يرى مانعاً شرعيّاً في التطبير والإباحة أصله، ويشخّص الوضع بأنّه إذا جيء به بنيّة المواساة لأهل البيت عليهم السلام والجزع و.. فيؤجر المكلف إن شاء الله، وهناك من يرى الاستحباب لوجود نصوص على ذلك، وفي نفس الوقت يشخّص الوضع بأنّ التطبير لا يوهن المذهب و.. ولا شيء من الأمور التي قد تدرجه بعنوان ثانوي تحت التحريم، وهناك من المراجع من يقول بشكل واضح بأنّ التطبير مسألة تشخيصيّة، فقد تكون مستحبّةً في أماكن وأوقات معيّنة، وقد تكون محرّمةً في أماكن وأوقات أخرى، فالأمر موكولٌ للمكلّف، فهل يصحّ في الحالة الأولى والثانية التي قوامها التشخيص من قبل المرجع عدم الالتزام بفتواه لعدم الاقتناع بتشخيصه كما قلتم في المثال الذي ضربتموه «… وهذه من الأخطاء الشائعة التي كرّرنا مراراً ضرورة التخلّص منها في ثقافتنا الدينية، فإنّ تشخيص المراجع للموضوعات التي من هذا النوع أمرٌ غير ملزم إطلاقاً، فلو قال المرجع مثلاً: فلان لا يجوز قراءة كتبه؛ لأنّ كتبه هي كتب ضلال، فهذا تشخيص موضوع، ولا يُلزم أحداً حتى مقلّديه ما لم يقتنعوا معه بأنّ مضمون هذه الكتب هو الضلال فعلاً»، وهذا بغضّ الطرف عن وجود حكم للحاكم في هذه المسألة؟ وما قيمة الفتوى إذا كانت لا تلزم أحداً إلا بعد الاقتناع بحقيقة المسألة؟ وعلى أساس قولكم هذا فالمكلّف أساساً لا يحتاج لفتوى إذا أقتنع أنّ هذا الكتاب كتاب ضلال فعلاً وفق مثالكم المذكور. ولو ترشدوا أخاكم المتطفّل عليكم ببعض أقوال العلماء والمراجع في هذا الشأن.
3 ـ أيضاً ذكرتم: «أن لا يكون خطابنا الناهي عن الفعل أو الحاثّ عليه مرتبطاً بشخص»، في جميع الأحوال سواء الخطاب موجّه لشخص بعينه أم لعامة الناس أم للمتخصّصين من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أليس هناك فرق بين أن يوجّه الباحث المتخصّص خطابه للمتخصّصين أمثاله وبين أن يعرضه على عامة الناس الذين هم أساساً مكلّفون بالالتزام بفتاوى المراجع دون التحسّس من الآخرين ونشر ثقافة الاختلاف وتعدّد الآراء؟ هذا بالنسبة للمتخصّصين، أما للعامة من الناس فهل يحق لأمثالي من غير المختصّين بأن أكتب ما أشاء وأقول أنّها رؤيتي للموضوع وأضعها مقابل الفتاوى الواضحة للمختصّين والمراجع؟ وأقول ذلك من واقع نعيشه، فكلّ شخص أمسك قلمه وقال أرى أنّ ذلك يجوز وهذا لا يجوز، وغلب عليها الذوق والمزاج سواء في التطبير أو غيره. (طه عبد الرحمن).
الجواب: ذكرتم نقاطاً وهي:
أولاً: عندما يصدر المرجع فتواه يعمل المكلّف بما هو ظاهر الفتوى أو المستفاد ممّا وصله من القرائن والشواهد، فإن اشتملت الفتوى أو قرائنها المتصلة أو المنفصلة على ما يفيد كونها مجرّد تشخيص غير ملزم، لم يلزمه العمل بها ما لم يقتنع بمضمونها، وإلا فالمفترض العمل بها قاعدةً. ولو التبست عليه الأمور أمكنه توجيه سؤال إلى مرجعه لرفع هذا الالتباس.
2 ـ الفتوى إن كانت نابعةً من الاجتهاد في النصوص فقيمتها في كونها تعبّر عن اجتهاد الفقيه، فيرجع إليه المكلّف ليقلّده في اجتهاده هذا، وهذا واضح. وامّا إن رجعت إلى تشخيص موضوع، فلا قيمة لهذا التشخيص (الذي لا يعبّر عن حكم الحاكم) ما لم يكن الموضوع من الموضوعات المستنبطة، مثل تعريف حقيقة الغناء لا مصداق الغناء، أو تعريف حقيقة الخمر، وهل هي مطلق المسكر أم خاصّة ببعضه أم لا؟ ففي سائر الموضوعات غير المستنبطة لا حجيّة لكلام الفقيه بما هو فقيه، ويمكنكم مراجعة الجذور الاجتهادية لهذه المسألة في بحوث الفقهاء في باب التقليد والاجتهاد عند حديثهم عن دائرة التقليد وعن التقليد في أصول الدين والموضوعات وأصول الفقه وغير ذلك مما ذكره السيد اليزدي في العروة الوثقى، وعلّق عليه الشرّاح والفقهاء والمحشون والباحثون. وأمّا قيمة كلامه في هذه الحال فتكمن في بيان قناعته التي قد توجب قناعة الآخرين واطمئنانهم لتشخيصه، فإنّ تشخيصه قد يؤثر في قناعات الناس فيعملون بتشخيصهم الذي بُني على اطمئنانهم بتشخيصه، لا أنّهم يعملون تعبّدًا بتشخيصه كما هي قضية الفتوى وفق المعروف.
3 ـ إذا كانت فتوى الفقيه تُلزم مقلّديه فما هو الدليل على حرمة أن يكتب شخص كتاباً في الآثار الإيجابية للتطبير مثلاً من الزاوية الاجتماعيّة؟ هو لا يدعو أحداً لترك الالتزام بفتوى مرجعه، بل يبيّن رأيه المنسجم مع فتوى مرجعه أو تشخيص مرجعه المقتنع هو به، ولا يستخدم أسلوب العنف أو القهر أو الفرض على أحد، فما هو الدليل على الحرمة حتى لو نشره بين الناس؟ نعم إذا كان بحثاً اجتهادياً فيلزمه أن يكون متخصّصاً في الشريعة حتى يقول ويعطي رأيه؛ لأنّ ذلك يكون من القول بغير علم على الله تعالى وهو محرّم، أما وأنّه يختلف العلماء في تشخيص الموضوعات فما الذي يمنع زيداً من الناس أن يساهم في التشخيص إذا كانت له خبرة دراسة حيثيات الموضوع من الزاوية الاجتماعية أو السياسية أو غيرها، فالسياسي قد يرى الموضوع بدرجة أكثر خبرويّةً من الفقيه نفسه الذي لا خبرة له أحياناً بالسياسة، وأيّ ضير في ذلك؟ لا سيما مع اختلاف الأنظار في التشخيصات. وأمّا قولكم بأنّ كل شخص يقول مزاجه فهذا أمر آخر، فنحن لا نتكلّم عن فوضى إعطاء الرأي، لكن نتكلّم عن شخص لديه خبرة حياتية ومقدرة على تشخيص الموضوع المتنازع عليه من موقع خبرته الاجتماعية وعلاقاته وثقافته الواسعة ولو لم يكن فقيهاً، فما هو الدليل على حرمة أن يكتب كتاباً يبيّن فيه مضارّ التطبير الطبيّة مثلاً أو تأثيراته السلبية على تديّن الناس الآخرين بالإسلام ما دامت القضية تشخيص موضوع أو كانت قضيّة مختلفاً فيه وكان هو منتمياً بتقليده إلى من يوافقه في هذا الرأي بحسب النتيجة؟ نعم لو لم يملك الخبرة فقد لا يحقّ له القول بغير علم وهذا أمر آخر.