السؤال: لماذا حُرّفت الكتب المقدّسة (التوراة والإنجيل)؟ وبعبارة أخرى: ألم يكن باستطاعة الله أن يحفظها كما تعهّد بحفظ القرآن؟ فكما حفظ القرآن وهو الكتاب السماويّ، وجب أن يحفظ الكتابين السماويّين الآخرين، وإلا عُدّ ذلك عجزاً أو نقصاً أو غير ذلك. هذا ملخّص شبهة وردت في أحد الكتب المسيحيّة، فما هو تعليقكم؟ (عباس).
الجواب: سبق أن تحدّثنا مراراً عن أنّ الدخول في معرفة أسرار الفعل الإلهي الجزئي أمرٌ بالغ الصعوبة، وأنّ قياس الله علينا في كلّ التفاصيل أمرٌ غير صحيح؛ فنحن نعرف فعله ممّا نراه منه، ولا نحكم على فعله ممّا لا نراه، وكذلك نحكم على غاياته مما يقوله هو، ولا نحكم على غاياته ممّا لا نعرفه بطريق علمي دقيق، إلا بنحو العناوين الكلّية العامّة، أمّا تفاصيلها فما زال من العسير جداً الدخول فيها واكتشاف أسرارها، وإن لم يكن مستحيلاً في بعض الحالات. وليس من الضروري أن نفسّر ما وقع مع الكتب السابقة بأنّه عجزٌ إلهيّ، أو نقصٌ في ساحته المقدّسة، بل قد تكون سياسته ترك الخلق في الأعم الأغلب على قانون الطبيعة، وعدم التدخّل إلا في بعض الحالات. أمّا لماذا تعهّد في القرآن دون غيره، فلا أعرف السبب فيه.
لكن من حقّنا أن نسأل المستشكل ـ صاحب الكتاب المسيحي الذي أشرتم إليه ـ بعضَ الأسئلة وليتّسع صدره لنا: لماذا سمح الله بظهور محمّد وكتابه وقد (ضلّل) المليارات من الخلق؟ ألا يعدّ هذا نقصاً أو عجزاً؟ لماذا سمح بظهور كلّ الفرق الضالّة التي صدّت عن طريق المسيحيّة؟ لماذا لم يتعهّد الله بحفظ وحدة المسيحيّين، بل تركهم ينقسمون إلى مئات الفرق عبر التاريخ، ويتيهون في تفسير النصوص الدينية المقدّسة عندهم ويسفكون دماءهم بينهم؟ لماذا لم يتعهّد بحماية تفسير النصوص الدينية بل تركها ألعوبةً بيد البشر يتأوّلونها كما يشاؤون؟ لماذا ترك الله المسيحيين في القرون الوسطى ليبلغ الحال بأحد باباواتهم ـ كما قيل ـ أن ينبش قبر بابا سابق، ويُخرج جثّته ويضعه على كرسيٍّ، ويحاكمه بمنطق محاكم التفتيش؟ ألم يكن الله ليقدر على حماية دينه من كلّ هذا؟ هل في ذلك عجز أو نقصٌ منه؟ لماذا يسمح الله اليوم بانتشار ظاهرة الإلحاد في العالم، ليس في الأوساط المسيحيّة فحسب، بل في مختلف الأوساط الدينية على وجه الكرة الأرضيّة، بما سلب العديد من المؤمنين بالديانات إيمانَهم، وعرّض تديّنهم ومقدّساتهم لسخرية بعض الملحدين واستهزائه، حيث يُعرف بعض الملحدين ـ مثل كريستوفر هيتشنز (2011م)، الذي كان يفلسف سخريته بالدين بالقول بأنّ السخرية من المعتقدات هي من الأشياء الضروريّة ـ يعرف بعض الملحدين باستخدام منطق السخرية والاستهزاء أكثر من منطق البحث العلمي، كبعض المؤمنين أيضاً مع الأسف؟! هل يعجز الله عن أن يوقف المدّ الإلحادي أم هو نقصٌ فيه؟ إنّ هناك المئات من مثل هذه التساؤلات، وما نجيب به فيها يصلح في أغلب الأحيان للجواب به عن التساؤل المشار إليه أعلاه في سؤالكم.
إنّني أعتقد بأنّ هذه الطريقة التي يعالج بها بعض الباحثين من المسلمين والمسيحيين والمُلحدين وغيرهم قضايا الفعل الإلهي غير موفّقة؛ بل غالباً ما تكون انتقائيّةً ومتحيّزة؛ فليس كلّ ما لا أفهمه فهو باطل، فهناك من يقول بأنّ نظرية الثقوب السوداء كانت حتى زمنٍ قصير واحدةً من أشهر القضايا المضحكة، وأكثرها سخريةً في الأوساط العلميّة، إلى أنّ تمّ تبنّيها اليوم من قبل الكثير من العلماء.. إنّ تواضع العقل وإقراره بأنّه لا يفهم بعض الأشياء، وخوضه غمار البحث العلمي مميّزاً بين (عدم فهمي لشيء) و (فهمي لعدم الشيء)، وأيضاً بين (ثبوت الشيء عندي) و (ثبوت عدمه عندي) (وعدم ثبوته ولا ثبوت عدمه عندي) هو ضرورة منهجيّة، يمكن أن تخلّصنا من الكثير من فوضى الإشكاليّات المتناثرة هنا وهناك في البحث الفلسفي والكلامي، فلا أقفز من (عدم ثبوت الشيء) إلى (ثبوت عدمه)، ولا من (عدم فهم الشيء) إلى (فهم بطلانه وعدمه). نعم عدم ثبوت شيء عندك يحرّرك من هذا الشيء، لكنّه لا يسمح لك بإلزام الآخرين أو إلزام عقلك بأنّ هذا الشيء ليس بموجود، فكثيراً ما يكون هناك فرقٌ بين (لم أجد) و (لم يوجد).