كيف يمكن لباحث يتوصل ولو على نحو الترجيح أو ينتهي به البحث إلى التشكيك في صحّة هجرة النبي إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة المشرّفة، ثم نفس الشخص وعلى المستوى العقدي يعتقد بالواقعة يقيناً ويتعبّد بآثارها شرعاً، فيتوجّه للكعبة في صلاته ويذهب للحج والعمرة بين الفينة والأخرى ويتعبّد بتلاوة القرآن الكريم؟ كيف لباحث يتوصل إلى عدم وجود شخصية تاريخية مثل آدم وحواء وهابيل وقابيل وبعض الأنبياء عليهم السلام ثم يؤمن بها عقدياً وقرآنيّاً؟
كيف يمكن التوفيق بين أفكاره وآرائه (العلميّة) المخالفة لإيمانه وعقائده الدينية التي عليه أن يؤمن بها جزماً؟؟! بل حتى بناء على أنّ العقيدة هي عقد في القلب، كيف تسكن في قلبه وهو يعتقد على المستوى العلمي بطلانها؟! بالنسبة لي لا يمكن تصوّر ذلك، إلا على أنه ضرب من الاعتقاد بالأوهام والأساطير!! لقد تساءلتم في المقالة في سياق تبرير أو تنظير هذه الازدواجيّة، إن كانت نتيجة البحث التاريخي حاسمة؟ وأقول: حيث إنها ليست حاسمة خصوصاً فيما نحن بصدده، بين حقائق الدين والبحث التاريخي، فلماذا لا يتقرّر بدايةً بأنه نظراً لقصور أدوات البحث التاريخي عن أن تطال اليقينيات العقدية القرآنية، فلا يصحّ أن تقحم نفسها في هذا الشأن. هذه خلاصة مداخلتي في هذه المسألة، وأتمنّى لكم دوام التوفيق والتسديد.
الجواب: أشكركم جزيل الشكر على ملاحظاتكم التي أتمنّى أن أستفيد منها. لكن في الملاحظة المشكورة التي تفضلتم بها لا أعتقد أنّ تقويمكم للموضوع كان دقيقاً؛ وذلك لعدّة أمور:
أولاً: إنّ الفصل في العلوم ظاهرةٌ صحيّة ما دام كلّ علم يقف عند حدوده الطبيعيّة. لقد قلت في بحثي المشار إليه بأنّ المؤرّخ من حقّه أن يقول بأن الأدوات التاريخية لا تثبت له الأمر الفلاني، لكن ليس من حقّه ـ مادام معتقداً بالقرآن المجيد ـ أن يقول بأنّ الأمر الفلاني لا وجود له، وهذا ما سمّيتُه هناك بالنتيجة النهائيّة. وهذا الأمر يحصل في العلوم الإسلامية اليوم، فعالم أصول الفقه مثلاً يقول لنا بأنّ الجملة الشرطية لا مفهوم لها أو لها مفهوم، ولكنّه لا يقول بأنّ الجمل الشرطية التي في الكتاب والسنّة لا مفهوم لها، بل يترك ذلك للفقيه ليقول الكلمة النهائية من حيث احتمال وجود قرينة خاصّة على المفهوم أو على عدمه هنا أو هناك، فعندما يقول المؤرّخ بأنّه لم يثبت عندي أنّ إبراهيم قد هاجر إلى مكّة ويكون معتقداً بالقرآن، فعليه أن يقول بأنّ أدوات البحث التاريخي السائدة لم توصلني إلى شيء، لكن هناك مصادر معرفية أخَر يمكنها أن توصلني، مادمت معتقداً بالكتاب المقدّس؛ ولهذا قلتُ في البحث بأنه لا يصحّ جعل التاريخي هو المقدّم مطلقاً على العقدي، ولا أنّ التاريخي ليس له أيّ تأثير في إفادتنا بمعلومات.
ثانياً: تارة ينفي التاريخ شيئاً تثبته العقيدة، وأخرى لا يثبت التاريخ ما تثبته العقيدة. وفي الحالة الثانية لا يوجد أيّ تعارض أو تناقض لا نفسي ولا علمي؛ لأنّ عجز أدوات البحث التاريخي عن إثبات أمر ذكره القرآن الكريم لا يعني أنّ هذا الأمر غير صحيح، بل كلّ ما يعنيه هو أنّنا لم نتمكّن بوسائل الإثبات التاريخي المتاحة من التوصّل إلى ما أخبر به الكتاب الكريم، ومن الجليّ أنّ علم التاريخ لم يتمكّن حتى الآن من استيعاب كلّ الوقائع الماضيّة والتوصّل إلى نتائج بشأنها.
ثالثاً: أما في الحالة الأولى بحيث ينفي التاريخ ما تثبته العقيدة أو النص الديني، فهنا يقع التعارض في الأدلّة، ويجب حلّ هذا التعارض؛ فإذا أثبت التاريخ (وطبعاً من التاريخ بعض الروايات التي تحكي عن سيرة الماضين من الأنبياء والأولياء) أنّ المعصوم قد نسي شيئاً مثلاً، فيجب حلّ التعارض طبقاً لقواعده، وأيّ ضيرٍ في ذلك؟! فهذا هو علم الكلام قد أخضع النصوص لمئات السنين بالأدلّة العقليّة القطعية من وجهة نظره ولم نصنّفه في إطار المشروع الاستشراقي أو الغربي، وهكذا تماماً فعل الفلاسفة وكثيرٌ من مفسّري القرآن الكريم، بل قد نظّروا لهذا الأمر، فلو أثبتت الوثائق العلميّة أو التاريخية عدم ولادة آدم بهذه الطريقة التي تحدّث عنها القرآن الكريم أو عدم هجرة إبراهيم إلى مكّة المكرّمة أو غير ذلك بحيث كانت وسائل الإثبات حاسمةً في حدّ نفسها بصرف النظر عن معارضتها للنصّ القرآني فيجب التفكير حينئذٍ بالموضوع، وكما أوّلوا آيات التجسيم والعصمة وغيرها، لماذا بتنا نجد حرجاً في التأويل لما يثبته علم التاريخ؟! لست أريد أن أنتصر للتأويل بهذه الطريقة، فلديّ موقف سبق أن أشرت إليه أرفض فيه الكثير من أشكال التأويل الرائجة، لكنّني أريد بهذا رفع الاستيحاش والاستغراب عن ممارسة التأويل عندما يكون المثبت لما يخالف القرآن الكريم ممّا يقدّمه العلم الحديث أو الدراسات التاريخية والإنسانيّة بشكل حاسم لا على شكل نظريات وفروض وتخمينات، كما هي الحال ـ مع الأسف ـ في الكثير ممّا يروّج له عبر وسائل الإعلام الفكرية بما يوحي وكأنّ الأمور باتت محسومةً من الناحية العلميّة مثلاً.
رابعاً: عندما أقول: (ليست النتيجة نهائيةً)، فهذا يعني أنني لم أعقد بعدُ قلبي عليها، ولم يعتقد ذهني بها بشكل نهائي، فلماذا أصاب بانفصام في الشخصية؟! كلّ ما في الأمر أنني تارةً أكون ناطقاً رسميّاً باسم علم الكلام لأحافظ على هويّة هذا العلم وانسجامه الداخلي، وأخرى باسم علم التاريخ للسبب نفسه، أما نطقي باسم قناعتي النهائية فيجب أن يكون وفقاً لجمع المعطيات وتقديم ما حقّه التقديم منها؛ انطلاقاً من نظريّة معرفية تجمع بين المعطيات، فأنا عندما أعتقد بالكعبة المشرّفة وبهجرة إبراهيم الخليل إليها، أقول صريحاً: إنّ التاريخ بكلّ عُدده وأجهزته لم يثبت لي ذلك، لكنّني أعتقد بهما؛ لأنّني إنسان مؤمن بصدق القرآن، وآخذه بوصفه مصدراً دينياً مبرهناً عليه، ويصلح لأخذه مصدراً معرفيّاً، فما الضير في ذلك؟ فقد كان العلامة الطباطبائي ـ كما ينقل أستاذنا الشيخ جوادي آملي ـ عندما يدرّس الأسفار يصل إلى البحوث العرفانية فيه، فيقول: هنا صار الملا صدرا عرفانيّاً، ونحن ندرّس الفلسفة الآن، فاقرؤا هذا في البيت ونكمل ما بعد هذا التعليق العرفاني، وكان يفعل ذلك كي لا تختلط علوم المعقول بعلوم المكاشفة والمشهود. إنّ العالم من بلّور يقرأ من جهات، لكن لا ترتيب للآثار إلا على جمع الجهات معاً.
خامساً: إنّ حديثكم عن ظنّية التاريخ صحيحٌ في الجملة، كما ألمحتُ إلى ذلك في بحثي المشار إليه، لكنّ الكثير من الأمور الدينية ظنيٌّ أيضاً، ويجب أن لا يغيب عنّا أنّ التعارض حينئذٍ سيكون بين ظنون، وليس دائماً بين ظنّ ويقين. وقد قبل العديد من العلماء الظنَّ في تفاصيل الاعتقاد. كما أنّ بعض نتائج التاريخ يقينيّة، ومن ثمّ فلا يصحّ منّا تجاهل هذا القدر من اليقينيات التاريخيّة ونحن في إطار رسم صورة عن العلاقة بين التاريخي والديني.