السؤال: سألني أحد أصدقائي ـ وهو ملحد ـ قال لي: إنّه يوجد في القرآن تناقض؛ لأنّه من جانب يقول بقتال من لا يؤمن بالله تعالى، ومن جهة أخرى يقول: لكم دينكم ولي ديني، وإذا كانت آية قتال الذين لا يؤمنون بالله تعالى نزلت في وقت محدّد، فهل يا ترى أنّ هذه الآية لا تصلح لكلّ زمن، مما يستلزم تاريخيّة القرآن؟ (Almahdi Capital).
الجواب: توجد هنا عدّة وقفات:
أولاً: بالنسبة لي شخصيّاً فقد بحثتُ بالتفصيل في مسألة الجهاد الابتدائي الذي هو قتال الكافرين لأنهم كفّار لا لكونهم معتدين، وتوصّلت إلى عدم شرعيّة هذا الجهاد في الإسلام بالعنوان الأوّلي (انظر: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 59 ـ 200، و 4: 287 ـ 335)، ولهذا لا يرد هذا الإشكال على مثل نظريّة حظر الجهاد الابتدائي الدعوي؛ لأنّ المفروض أنّ أنصار هذه النظرية يقولون بأنّ كل أوامر القرآن والسنّة في الجهاد إنّما تتحدّث عن الجهاد الدفاعي الذي يدافع فيه المؤمنون عن أنفسهم ووجودهم وكيانهم وحريّتهم، فأنا أقول للكافر: لك دينك ولي ديني، وفي الوقت عينه لا أسمح له بالاعتداء عليّ، ولا تناقض بين هذين المفهومين.
ثانياً: أمّا بالنسبة لمشهور علماء المسلمين الذين يرون شرعيّة بل وجوب الجهاد الابتدائي الدعوي، فهم لا يفهمون هذه الآية بمعنى الترخيص للكافرين بأن يكون لهم دينهم، كما فهمها بعض أنصار التعدّدية الدينية من المعاصرين، وإنّما يفهمون منها البراءة، فعندما تقول لشخص: لك انتماؤك السياسي ولي انتمائي السياسي، فهذا معناه أنّ انتمائي غير مرتبط بك وإنني لا أنتمي ذلك الانتماء الذي تقوم به أنت، فبيني وبينك قطيعة وبراءة، ولهذا اعتُبرت هذه الآية الكريمة من آيات البراءة بين المسلمين والمشركين، لا من آيات ترخيص الكفر للكافرين بنصّ القرآن الكريم، ولكم أن تلاحظوا سياق الآيات السابقة عليها، فكلّها تريد التأكيد على أنّكم في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، وأنّني لا آتي إلى واديكم وأنكم لا تأتون إلى واديّ، فبيننا تمام الانفصال، لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم تعبدون ما أنا عابد له، فليست الآية ـ من وجهة نظر جمهور المفسّرين والفقهاء ـ ذات علاقة بسياسة الحرب معهم، بل هي على علاقة بسياسة القطيعة والمفاصلة معهم لتكوين مجتمع إسلامي مستقلّ منفصل تماماً في بُنيته الاعتقادية عن الكافرين، وإذا كنت على قطيعة معك فهذا شيء، وأن أحاربك لاُخضِعك لحكمي وسلطاني شيء آخر، بل الحرب قد تؤكّد القطيعة بهذا المعنى. هذا هو فهم العلماء المسلمين للموضوع، فلا تنافي من وجهة نظرهم أيضاً.
ثالثاً: لنفرض أنّ الآية تاريخيّة، وأنّها لا تصلح لكلّ زمان، فهل هذا يعني وجود مشكلة في القرآن الكريم؟ أليست الآيات المنسوخة قد انقضى زمانها من وجهة نظر جمهور علماء الإسلام؟ ألا يعني ذلك أنّها لم تعد تصلح لسائر العصور؟ ومع ذلك لم يشعر العلماء بمشكلة في هذا الأمر، والسبب أنّ مصطلح التاريخية تارةً نعلّقه ببعض النصوص القرآنيّة والحديثية، فنقول: هذا الحكم تاريخي أو هذا النصّ تاريخيٌّ فيما يعطيه من أحكام، وأخرى نعلّقه بالقرآن والسنّة بتمامهما، فنقول: القرآن كتابٌ تاريخي، ونقصد أنّ منظومته هي منظومة تاريخيّة تتناسب مع العصور السابقة، وأنّنا نستفيد منه بوصفه كتاباً تراثيّاً قدّم منظومة حياة رائعة للأمم السابقة وانتهى زمانه وولّى عصره، فالمفهوم الأوّل لا مانع منه حتى في القرآن الكريم، والشاهد عليه هو الآيات المنسوخة التي يقبلون بها على اختلاف بينهم في عددها، أمّا المفهوم الثاني فهو الذي يعتبر مشكلةً في الثقافة الإسلاميّة؛ لأنّه ينافي فكرة خلود الدين الإسلامي وخاتميّته وعالميته الزمكانيّة، فمجرّد أن يكون في القرآن ما هو تاريخي، لا يعني أنّ القرآن تاريخيّ بالمعنى الثاني.