السؤال: في مقال البنيات المعرفيّة للحوار العقلاني، الذي صار فيما بعد جزءاً من كتابكم (مسألة المنهج).. أجد بعض الإشكاليّات التي أودّ أن أطرحها عليك أخي العزيز: 1 ـ هل المطلوب منّي لإنجاح الحوار أن أقوم بتقليص دائرة اليقين المنطقي لحساب اليقين الاستقرائي؟ 2 ـ هل تعتقد أنّه في ظلّ توفر تلك البنيات يمكن لأيّ حوار أن ينجح أم تبقى موضوعات بعض الحوارات وحساسيّتها هي ما يؤدّي أحياناً إلى إخفاق تلك الحوارات؟ 3 ـ أجدك استخدمت مصطلح (التعدّدية) بمفهومك الخاص، لكنّي كنت أتمنّى استخدام مصطلح آخر أخفّ حدّة؛ لأنّ التعدّدية تبقى مصطلحاً يثير حساسيّة الكثيرين. مع الاعتذار عن جرأتي في محضرك. دمت لي ملهماً. (Ahmed Burair).
أ ـ ما طرحتُه في تلك المقالة هو أنّ الحوار عمليّة قد تنجح وقد تقع في إخفاقات، وأنّ عناصر نجاحها متعدّدة وعناصر فشلها متعدّدة أيضاً، وأنّنا ركّزنا في ثقافتنا العامّة والدينية على البُعد الأخلاقي في الحوار لكي نُنجح هذه العمليّة الاجتماعيّة والثقافية، وغاب عنّا البُعد المعرفي الذي يشكّل بيئة ذهنية حاضنة لولادة حوار منتج وفاعل وصحّي. وكان هدفي في تلك المقالة أن اُشير إلى بعض ما أراه نافعاً في خلق مناخ معرفي تولد في ظلّه الحوارات الصحيّة والسليمة، من نوع إعادة النظر في مفهوم اليقين، حيث اعتقدتُ بأنّ اليقين البرهاني الأرسطي هو يقين إقصائي؛ لأنّه لا يرى إمكانيّة الخطأ في النتيجة عند من يقتنع به، ومن ثمّ فالحوار سيقوم على مقولة افتراضيّة غير واقعيّة، تقول: (قولي صواب يحتمل خطأه، وقولي خصمي خطأ يحتمل صحّته)، وهي مقولة غير نابعة من البنية العميقة لتفكيري، بل هي مقولة افتراضية أضعها جعلاً وافتراضاً أمامي عندما أريد أن أخوض الحوار، ولهذا اعتبرتُ هناك أنّ اليقين الموضوعي الاستقرائي يمكنه أن يوفّر لنا أرضيّة مناسبة لهذه المقولة (قولي صواب يحتمل خطأه، وقولي خصمي خطأ يحتمل صحّته) تُخرجها من دائرة الجعل والافتراض إلى دائرة أن تكون قضية واقعيّة في أغلب أشكال اليقين الذي يصل إليه البشر، فلا أقول بأنّ كلّ حوار يقوم على اليقين البرهاني الأرسطي هو فاشل، ولا كلّ حوار يقوم على اليقين الاستقرائي هو ناجح، وإنّما أقول بأنّ مفهوم اليقين ونمط وجوده في ذواتنا له دور واقتضاء وتأثير في الوصول لخلق مناخ وبيئة حاضنة لحوار منتج، وليس كلّ ما له اقتضاء فقد صار له فعليّة التأثير، حيث قد تمنع الموانع أو لا تتحقّق سائر الشروط.
ب ـ وبناءً عليه، فلا أقول بأنّ فكرة اليقين لوحدها كافية، بل هناك عناصر كثيرة تُنجِح الحوارَ أو توقعه في الفشل، كالعناصر الأخلاقيّة للأطراف المتحاورة، وكذلك الضغط النفسي للفكرة المتحاوَر فيها على أصحابها (وهو ما سمّيتموه بالحساسية). كلّ ما أردت إيصاله هو تأثير نظريّتنا لليقين بالأشياء على إيجاد بُنية تفكيرية تستطيع أكثر من غيرها توفير حوار فاعل، وتوفّر فرص نجاح حواراتنا بشكل أكبر.
ج ـ أوحيتم في كلامكم أنّ مصطلح التعددية مصطلحٌ قلق، ولو تسمحون لي بالاختلاف معكم في ذلك، فهذا المصطلح تستخدمه كلّ الأحزاب الإسلامية اليوم في العالم تقريباً من مختلف المذاهب، وقد صار جزءاً من الأدبيّات الدينية والثقافية العامّة، وإذا كان هناك من يتحسّس منه فهم قلّة قليلة من علماء الدين وبعض الأوساط الدينية المحدودة، وقد وجدت أنّه مصطلح يعبّر في حدّ ذاته عن معنى سليم، ولا يصادم مصطلحاً قرآنياً أو دينيّاً، ولهذا انتقدتُ في كتابي (التعددية الدينية: 158) الدكتور عبد الكريم سروش في اختياره مصطلح الصرط المستقيمة أو الطرق المستقيمة؛ لأنّ هذا المصطلح يصادم المصطلح القرآني الموروث والمؤثر بقوّة في القاعدة المتديّنة وعموم المسلمين، فلا أجد في حدود معلوماتي حساسيةً تجاه مصطلح (التعددية) إلا في أوساط محدودة جدّاً، وإلا فهذا التعبير (التعددية) صار متداولاً عند أغلب المسلمين بمختلف انتماءاتهم، نعم بعض مفاهيمه وتطبيقاته مرفوضة أو حولها جدل، لا أنّ المصطلح مقلقٌ وصدامي، وفرق بينهما. ودمتم لي أخاً وعزيزاً وناقداً ومرآةً.