السؤال: يخطر بالبال سؤال ولابد للتقديم له بمقدّمتين حتى يتضح المقصود منه: المقدّمة الأولى: من المعروف أنّ العرفاء يعتمدون في معرفتهم للحقائق الإلهيّة والكونية على (الكشف والشهود)، أمّا العقل فيستخدمونه لإثبات تلك الدعاوي أو الحقائق التي انكشفت لهم حيث لا يعطون أيّ قيمة معرفيّة للعقل إلا من أجل إثبات ما اطّلعوا عليه أثناء مكاشفاتهم؛ لأنّ من ذاق حلاوة الشيء غنيّ عن التعريف بتلك الحلاوة أو أنّه يعجز عن وصفها للآخرين، وإذا تمكّن من ذلك فهو سيأتي بمثال قريب على ذلك الشيء وليس نفس الشيء. المقدّمة الثانية: إنّ شيخ الإشراق السهروردي يعتمد على المكاشفات ورياضة النفس في معارفه ومن خلال تدرّجه في تلك الحقائق الإلهيّة تحصّلت لديه معرفة تامّة بأحكام الوجود وغيرها لذلك قال بأنّ الأصالة للماهيّة، أمّا الوجود فهو أمر اعتباري. وممّن قال بذلك أيضاً صدر المتألهين في بداية حياته تبعاً لأستاذه الميرداماد القائل بأصالة الماهيّة. لكن يقول صدر المتألهين: إنّه لما قام برياضة النفس وانعزل عن العالم واستخدم المكاشفات كوسيلة لتطلّعه على حقائق الوجود والكون والمعارف الإلهيّة عدل عن رأيه الأوّل وهو أصالة الماهيّة وقال: لما أشغلت نفسي بالعبادات والرياضات الروحية وأفاض الله علينا من علمه واطّلعت على عالم الحقيقة توضّح لدينا أنّ الأصالة للوجود لا للماهيّة. والسؤال هو: إذا كان مصدر المعرفة واحداً لدى العرفاء وهو الكشف والشهود، فلماذا تناقضت أقوالهم بالقول بأصالة الوجود واعتباريّة الماهية بالنسبة للأخير او اعتبارية الوجود وأصالة الماهية بالنسبة لشيخ الإشراق؟ هل الخروج من حالة الكشف والرجوع للواقع المادي هي السبب؟ حيث إنّ المعنى لا يمكن إيصاله للمقابل… بمعنى آخر هل التعاريف قاصرة عن إيصال المقصود؟ فكلّ من شيخ الإشراق والملا صدرا صاغ ما اطّلع عليه بطريقته التي يحسبها مطابقه لما انكشف له من الفيض الإلهي حسب تعبيره، ولذلك تباينت أقوالهم بخصوص هذا الموضوع؟ وكمثال على ذلك ألفاظ القرآن الكريم مثل الكرسي، والعرش، واللوح، كلّها ألفاظ مادية لكن هذه الألفاظ لا يمكنها إيصال الواقع الحقيقي لمعاني تلك الألفاظ فكلّ ما يطرح هو معنى مجازي لإيصال المعلومة لأذهان الناس، وإلا فالألفاظ قاصرة عن إيصال الحقيقة بذاتها للذهن البشري؛ لأنّه لايمكن تصوّرها. لذلك حدث اختلاف في فهم هذه الألفاظ، فمنهم من فهمها على ظاهرها مثل ابن تيمية ومدرسته، ومنهم من أوّلها مثل الإماميّة والمعتزلة.
ثمّ بما أنّ العرفاء اطّلعوا على عالم الملكوت لماذا لا يمكنهم أن يتوصّلوا بطريقة من خلال مكاشفتهم لتوصيل لفكرة للناس, بمعنى آخر لماذا لا يتوسّلوا بالمكاشفات التي لديهم للحصول على طريقة توصل الفكرة بصورة واضحة وسليمة للناس، كما هو حالهم حين توسّلوا بالرياضات النفسية والمكاشفات لمعرفة الأصيل والاعتباري لكلّ من الوجود والماهية؟ هل السبب في ذلك هو عزوفهم عن الدنيا لأنّه لا يهمّهم أن تصل، فمن اطّلع على الحقيقة الإلهيّة سوف يعزف عن الدنيا وما فيها؟
الجواب أولاً: وحدة المصدر المعرفي لا يساوي وحدة النتائج، فالذين يعتمدون العقل أساساً للمعرفة هم أيضاً قد يصيبون وقد يخطؤون، وقد يتفقون وقد يختلفون، فليس صحيحاً صياغة الإشكال بأنّه ما دام المصدر المعرفي واحداً عند العرفاء فبالضرورة لابدّ أن تتحد النتائج بينهم. ومعنى هذا هو أنّه قد يتصوّر العارف أنّه يحصل له كشف فيما يكون ذلك وهمُ كشفٍ وخيالٌ والتباساتٌ شيطانيّة على حدّ تعبير بعض العرفاء أنفسهم، تماماً كما يتصوّر الفيلسوف أنّه يقيم دليلاً عقليّاً، ولكنّه وهم دليل، وليس سوى مغالطة، كما أنّه ليس كل من ادّعى أنّه عارفٌ أو قيل عنه بأنّه عارفٌ، فهو عارفٌ في واقع الحال.
ثانياً: يحاول بعض أنصار العرفاء أن يجعلوا هذه المشكلة كامنةً في مرحلة الصحو بعد المحو، بمعنى أنّ العارف عندما يعود من حالته التي كان عليها ويريد أن يصوغ ما شعر به على شكل مفاهيم، فهو بالضرورة سوف يستخدم نظامه المفاهيمي والعقلي للصياغة، وحيث إنّ العقل لا يمكنه تحمّل تلك الأمور، فقد يقع الخطأ في البيان، وهذه الفكرة جيّدة ومقنعة في بعض الحالات، لكنّها غير مقنعة في حالات أخَر، فإذا صاغ العارفُ الآخر كشوفاته بنمط أصالة الماهية فلماذا لا يلتفت العارف الأوّل لهذه الصياغة ويستبدل صياغته بها؟ بل لماذا يقيم الأدلّة على اعتباريّة الوجود وهو حال إقامته للأدلة يكون قد تصوّر أصالة الوجود لردّها؟ فنظامه الذهني غير عاجز إذاً عن تصوّر أصالة الوجود، إنّ هذه الأجوبة غير مقنعة في كلّ الحالات، إلا إذا بنى الإنسان تعامله مع العرفاء على حسن الظنّ الدائم بهم. نعم هذا مقبول أحياناً في العرفاء غير الفلاسفة، لا في العرفاء الفلاسفة كالسهروردي والملاصدرا، فتأمّل جيداً.
ثالثاً: لقد كتبتُ في دراسة متواضعة لي قبل حوالي العقد من الزمن، أنّ العرفان له جانبان: جانب روحي، وهو جانب مهم للغاية ومفيد جدّاً، وإنّني أدعو له دائماً وأؤمن به إيماناً عميقاً. وجانب معرفي وهو الجانب الذي يدّعي إمكان معرفة الأشياء عبر الكشف، وقلت هناك بأنّني لم أجد شيئاً مقنعاً يثبت هذه الدعوى الثانية، كما أنّني لست عارفاً لكي أعيشها، لهذا لا يمكنني شخصيّاً التأكّد أساساً من أنّ العرفاء كانت لديهم كشوفات، وليس توهّمات ناتجة عن تفاعلات العقل الباطن، فما ظنّوه كشفاً حقيقيّاً (وليس الكشف الصوري القائم على رؤية الأشياء، فهذا لا علاقة له بالكشف الحقيقي القائم على العلم الحضوري فليلاحظ ذلك جيّداً دفعاً للالتباس)، فسؤالكم موجّه لمن ينتصر للعرفاء في هذا الجانب. ولعلّ ما أثرتموه يصبّ في نهاية المطاف في تصحيح وجهة النظر التي كنتُ بحثتها سابقاً، ويمكنكم في هذا الصدد مراجعة كتابي المتواضع (مسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وتأمّلات، والصادر عن مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، عام 2007م).