السؤال: هناك سؤال يُطرح من قبل أتباع العولمة أو ما يسمّى بالعلمانيين وهو: تناقض!! فقد وعد الله (المؤمنين الصالحين) بالجنّة، وفيها لهم ما لذّ وطاب من ملذّات هي محرّمة في الدنيا، مثل وجود أنهار من الخمور وممارسة الجنس مع الغلمان (أطفال حسان الوجه) وممارسة الجنس بدون حساب مع الحور العين (وهنّ نساء حسناوات)، وقد تفنّن القرآن في وصفهم، وكذلك الشيوخ. والسؤال هو: لماذا يتمّ تحريم الشيء في الدنيا والمعاقبة عليه، في حين أنّه سيكون مباحاً ومتوفّراً بلا حساب في الآخرة؟! ولماذا يتمّ إغراء المؤمنين الصالحين في الدنيا بمثل هذه الأمور الشهوانيّة حتى يكون في الآخرة من أهل الجنّة؟! ولماذا يتمّ استغلال الشهوات الجنسيّة في جعل المؤمن يطيع الله؟! (محمّد الدوخي).
أ ـ ليس من المعيب أو من الخلل أن تمنع شخصاً من شيء لكي يصل إلى نفس ذلك الشيء لاحقاً، فأنت تمنع نفسك من الراحة بداية عمرك لتجدّ في بناء حياة اقتصادية رغيدة لك فتصل لها بعد عناء وحرمان، فتنال الراحة في الكبر، ولا يقول لك أحدٌ: لماذا تحرم نفسك من الراحة لتصل إلى الراحة أو إنّ فعلك هذا متناقض؟ إنّه لا يوجد مانع في أن يكون فعلٌ واحدٌ في لحظة معينة فساداً نسبيّاً، ولكنّه في لحظة أخرى في قمّة الصلاح والنفع، فوالدك يمنعك من التجارة وأنت في سنيّ المراهقة ويحرمك منها في السوق، ليذهب بك إلى المدرسة، بهدف أن تدرس، لكي تعمل في التجارة نفسها إذا كبرت، والسبب هو أنّ العمل الأوّل يراه والدك مؤقّتاً زائلاً لا ينتج شيئاً نافعاً على المدى البعيد، فيما العمل الثاني ثابت راسخ واعٍ منتج ومفيد على المدى البعيد. فجوهر الموضوع هو أنّ الله أراد لنا أن نعيش حياةً سعيدة في عمرنا، وهذا العمر ينقسم إلى مرحلة بناء الذات (مثل سنيّ التعلّم في المدرسة) ومرحلة قطف الثمار (مثل سنيّ الكبر وما بعد التخرّج)، فأراد لنا أن نحرم أنفسنا من بعض الأمور في مرحلة بناء الذات، والتي نسمّيها دينيّاً بـ (الحياة الدنيا)، لنصل إلى نسخةٍ أفضل وأدوم لهذه الأمور نفسها في مرحلة قطف الثمار، والتي نسمّيها في اللغة الدينية بـ (الحياة الآخرة)، فبهذه الطريقة رُكّب هذا العالم في النظرية الدينيّة، تماماً كما ركّبت أجزاء حياتنا في المراهقة وما بعدها بتلك الطريقة التي أشرنا إليها، فليس في الأمر تناقضاً، إنّه تعالى يقول لك: اُترك هذه الملذّات للحظات (يوماً أو بعض يوم) ومن أجلي، لأعطيك إيّاها لعمرٍ دائم تكون هي فيه لأجلك، والسبب هو أنّ تركك لها لفترة محدّدة يوجب تسامي نفسك واقترابك من الله، فيجزيك على ذلك الخير المعنوي والمادّي يوم القيامة. ولهذا جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 14 ـ 15)، فالآية لا تريد أن تقول بأنّ هذه المسرّات والملذّات في الدنيا لا قيمة لها، بل تريد أن ترجع الإنسان إلى عقله ليوازن بين هذه الملذّات الناقصة المؤقّتة وبين الجنان والأزواج المطهّرة ورضوان الله تعالى، ليرى حينها أنّ ما تعلّق به في الدنيا دفع ضريبته ما هو أفضل منه في الآخرة، فيما المطلوب أن يدفع راحة الدنيا ضريبةً لراحة الآخرة، كما دفع راحة شبابه ضريبةً لراحته في كبره.
ب ـ يتصوّر كثيرون منّا أنّ الجنّة ليست سوى الملذّات الماديّة، مع أنّ الجنّة ـ بحسب النصوص الدينية ـ فيها الملذّات الماديّة، وفيها الملذّات الروحيّة كالقرب الروحي من الله سبحانه ولقائه تبارك وتعالى، فنحن في الجنّة لا نعيش فقط الجانب المادّي للحياة، بل نعيش الجانب الروحي أيضاً، تماماً كهذه الدنيا، فنحن هنا لا نعيش الجانب المادّي فقط، كالطعام والشراب والجنس وغير ذلك، بل نعيش جانباً معنويّاً مثل التفكير والطمأنينة والراحة النفسيّة والنجاح وراحة الضمير وسموّ الأخلاق ونحو ذلك، وقد تعرّض الفلاسفة للبعد الروحي في الثواب والعقاب وأثبتوا من خلال براهينهم التي اقتنعوا بها أنّ عالم الآخرة لا يقتصر على البعد المادي للأمور، بل فيه بُعد روحي وغيبي أيضاً.
وسبب تركيز النصوص الدينية على البعد المادّي في الملذّات ليس انحصار الملذّات الأخرويّة بها، بل لأنّ طباع الناس على أنس وعلاقة بهذه الملذات، فيرغّبهم سبحانه في العمل الصالح للوصول إليها لا لتكون هذه الملذّات هي الوحيدة، بل ليروا معها اللذّة الحقيقيّة في اللقاء المعنوي بالله تعالى، فأنت ترغّب ولدك بإعطائه المال إذا جدّ واجتهد في الدراسة ونجح، لا لكي يكون معه هذا المال فقط، بل ليكون معه النجاح وفوقه هذا المال، فترغيب الله لنا بالملذّات الأخرويّة المادية لا يعني أنّ غاية ما هنالك هو هذه الملذّات بالضرورة، بل هو يرغّبنا بها كي نفعل ما يوجب قربنا من الله سبحانه فنحصل على هذه الملذّات وذاك النجاح القربي من الله معاً (والغريب لو أنّ الله ما وعد الناس بهذه اللذات المادية بل وعدهم بمفاهيم روحانيّة فقط، لناقشه بعض الناقدين بأنّه يَعِدُ بأشياء لا ترغبها النفس، وليس بواقعيّ في التعامل مع رغبات النفس الإنسانيّة وعناصر جذبها لفعل الخير!!)، وإلا فما معنى لقاء الله؟! فنحن هنا نعيش لقاء الله، فالله ليس بعيداً عنّا حتى نلتقيه بل هو معنا دوماً، إنّما مفهوم لقاء الله هو مفهوم روحي حقيقي وجودي، تحصل فيه حالة قربيّة من طرفنا فنشعر بالقرب من الله، فقد ورد في القرآن حوالي الخمس عشرة مرّة أو أكثر الحديث عن لقاء الله، وأنّ يوم القيامة هو يوم لقاء الله، فلماذا تمّ استخدام هذا التعبير؟ إنّنا لسنا بعيدين عن الله حتى يلقانا، بل نحن من نريد أن نلقاه، فهو قريب منّا وفي الوقت نفسه نحن لا نلقاه، إذن فالله بجانبنا، لكنّنا لا نلقاه وهو محيطٌ بنا، وفي القيامة يحصل اللقاء الإلهي، كأنّ حجاباً يزاح عن أعيننا فيحصل القرب من الله ويحصل لقاؤه؛ لأنّ الحجب التي تمنع لقاءنا بالله تنكشف هناك ببركة الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق: 20 ـ 22)، فيتلاقى المؤمنون مع الله، وقد وجدنا في القرآن كيف أنّه عبّر عن آخرة المؤمنين بلقاء الله، فيما عبّر عن آخرة الكافرين بأنّهم نسوا لقاء يومهم هذا، فهناك حدث كبير غير أن نكون موجودين في جنّة وبساتين وفواكه وحور عين وغير ذلك، إنّه مفهوم لقاء الله، فثمّة حالة معنويّة وتسامٍ روحي نحظى به في الجنّة يعبّر عنه مفهوم لقاء الله تعالى.
ولهذا لو تلاحظون أيضاً قسّمت سورة الواقعة الناس إلى أصحاب يمين وأصحاب شمال ومقرّبين، فما معنى المقرّب لو أخلصنا للغة العربيّة، بعد رفع القرب المكاني؟! وما الفرق بين المقرّبين وأصحاب اليمين؟! وما الفرق بين أهل الدرجات في الجنّة؟! هل بعدد الحور العين أم بعدد الفواكه أو الأشجار أو..؟! والقرآن يصف الجميع بأنّ لهم ما يشاؤون ولدينا مزيد.. إنّها درجات روحيّة وعقليّة ونفسيّة تكامليّة متسامية في العلاقة مع الله سبحانه.
ج ـ يتصوّر كثيرون أنّ الدين ينظر للذّة البطن والفرج ونحوهما بمنظار سلبي، فمن هنا يستغربون كيف يذمّ هذه اللذات هنا ويجعلها في الوقت عينه غاية الغايات في الجنّة؟! كيف تكون مذمومةً وفي الوقت عينه نقوم بالفرائض لأجلها؟! والجواب إنّها ليست مذمومة بحدّ ذاتها، فلو راجعنا النصوص القرآنية سنجد أنّ القرآن لم يذمّ الطعام والشراب والجنس، بل وقع ذمّه لهذه الأمور مقيدّاً بقيدين ومشروطاً بشرطين:
1 ـ أن تقع في الدنيا، فليس لدينا نصّ يقبّح الجنس في حدّ ذاته، بل النصّ يقبّحه في الدنيا فقط.
2 ـ أن تقع خارج إطار الحدود المقرّرة، فليس لدينا نصّ في القرآن الكريم يقبّح الطعام أو الشراب أو الجنس ـ ولو في الدنيا ـ من حيث المبدأ، بل هو يقبّحها عندما تقع خارج هذا الإطار المحدّد للإنسان شرعاً.
إذن، فالجنس غير المنضبط في الدنيا هو المقبّح دينيّاً، وليس أصل الجنس، ولذّة الطعام غير المنضبطة في الدنيا هي المقبّحة دينيّاً وليس أصل لذة الأكل أو الشرب، وإنّما تكون هذه مقبّحة في رؤية صوفيّة لعلّها أرادت بيان خفّة هذه اللذات قياساً باللذات المعنويّة فصوّرت هذه اللذات المادية وكأنّها شيء معيب أو مستقبح. ليس الأمر كذلك أبداً، إنّها جزء من بُنيتنا ولم يرد فيها تقبيح، فما معنى أنّ الرسول كان أنسه بالنساء؟! وما معنى النهي عن الرهبانيّة؟! إنّما المحرّم هو استهلاك العمر في هذه الأمور، ووقف الطموح عندها، وليس القبيح هو طلبها والتنعّم أو السعادة بها. لاحظوا المقارنة الواقعة بين هاتين الآيتين في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 32 ـ 33)، إنّ الآية الأولى تنفي تحريم الله للطيبات، ولهذا هي تؤكّد أنّها ستكون من نصيب المؤمنين يوم القيامة، فيما الآية الثانية توجّه تحريم الله ـ بنحو الحصر الإضافي ـ إلى مجموعة أمور ليست الطيبات منها، بل كلّها مذمومة وجداناً كالفواحش والبغي والشرك والتقوّل على الله، ولنضمّ إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ (الأحقاف: 20)، فسوف نجد أنّ الدين لم يحرّم الطيبات لكنّه حرّم استنفادها دنيويّاً.
إنّ اختلاط المفاهيم يفضي إلى تصوّر التناقض هنا، فالمشكلة هي عندما نقصر غاياتنا في الدنيا على هذه الأمور وتكون هي الإله الذي نعبده من دون الله، لا أنّ هذه الأمور هي في هويّتها مستقبحة أو مذمومة، كيف وقد ورد في بعض الروايات أنّ كثرة الطروقة (الجماع) من سنن الأنبياء، وندّد القرآن ـ كما قلنا ـ بمن يقول بأنّ الله حرّم الطيبات، فعلينا تصحيح مفاهيمنا حول رؤية الدين لهذه الأشياء، ثم وضعها في مكانها المحدّد، لا مكبّرةً ولا مصغّرة عن مقدارها الواقعي، لننظر للأمور بعد ذلك بشكل أفضل.
د ـ يتصوّر كثير من الناس أنّه حيث لا يوجد تكليف يوم القيامة إذن فالجنّة هي دار فسقٍ وفجور، وكأنّها حانة ليلية أو ملهى ليلي كبير يمكن أن نرتكب فيه أفظع الأفعال! هذا المفهوم غير صحيح أبداً من الناحية الدينية، ففي القرآن الكريم نصوصٌ تشير إلى تكامل النفس الإنسانيّة للمؤمنين في الآخرة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 42 ـ 43)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ (الحجر: 45 ـ 48). فهنا نجد أنّ مفاهيم العداوة قد تمّ الانتهاء منها في ذلك العالم، وأنّه قد تمّ نزع الغلّ من النفوس، والتعبير بالنزع معبّر جدّاً، إنّه أشبه شيء بالاجتثاث، فلنتصوّر مجتمعاً لا يوجد بين أبنائه، أيّ غلّ أو ضغينة أو حقد أو عداوة، لا لأنّ القانون يفرض ذلك عليهم بل لأنّ نفوسهم ليس فيها هذا أبداً! إنّ نفوس هؤلاء بلغت حدّاً في الارتقاء عبر هذا النزع تختلف كثيراً عن نفوسهم هم أنفسهم عندما كانوا في الدنيا.
لاحظوا معي هذا الجوّ القرآني العام، فنحن نجد أنّ القرآن يخبرنا دائماً عن الذين يدخلون الجنّة أنّهم يحمدون الله ويسبّحونه ويشكرونه، مع أنّه لا يجب عليهم الحمد ولا الشكر ولا التسبيح، إذ ليس هناك تكليف في الآخرة، إنّ هؤلاء يعيشون مع الله في الجنّة، يسبّحون ويشكرون كما تفيد الكثير من الآيات القرآنية، ويتكلّمون دوماً معه سبحانه، ويدعونه ويخاطبونه، فليس المؤمن في الجنّة متفلّتاً، لكنّ عدم تفلّته إنّما هو لكمال روحه لا لوجود تكليف شرعيّ عليه يقوم به اضطراراً أو مجاهدةً لنفسه أو بقوّة القانون، وهذا هو الفرق بين الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تكون النفس في دور التدريب والتكامل، فتتنازعها الشرور والخيرات، أمّا المؤمن في الآخرة فإنّ نفسه بلغت مرحلةً راقية من التكامل.
لهذا لا يوجد في النص الديني أيّ كلام عن ارتكاب أهل الجنّة فواحش في الآخرة أو كفر بالله أو قطع علائقهم به سبحانه، حتى لو لم توجد تكاليف بالمعنى القانوني الدنيوي. أرجو أن تفكّروا في هذا الأمر مليّاً، فهو مهمّ للغاية، فلم يشر القرآن أبداً إلى ارتكاب أهل الجنّة ـ رغم انعدام التكاليف عليهم ـ أيّاً من المحرّمات المستقبحة، فهم لا يقتلون ولا يكذّبون ولا يسرقون ولا يشركون ولا يبخلون ولا يتعادون، وليس في القرآن أنّهم يرتكبون اللواط مع الغلمان، كلّ ما في القرآن حول الولدان المخلّدين في سورتي الواقعة والإنسان هو أنّ هؤلاء الولدان يطوفون عليهم خدماً، لا أنّ بينهم وبينهم علاقة جنسيّة، وهكذا الحور العين، فليس في القرآن حديث عن شيوعيّة جنسية في الجنّة، لاحظوا أنّ القرآن استخدم مفهوم الزواج والأزواج مع الحور العين أيضاً وفي الجنّة، ولم يستخدم مفهوم الإباحيّة المطلقة (نعم التعدّد في الأزواج متصوّر هناك)، قال تعالى: ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الدخان: 53 ـ 54) ، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الطور: 17 ـ 20)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ (النساء: 57)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ (يس: 55 ـ 58)، فتعبير الأزواج وإن لم يكن يعني عقدَ زواج بالمعنى القانوني اليوم، لكنّه يعطي إيحاء واضحاً بالاقتران والزوجيّة، ليكون زوجاً أو زوجة.
ومن هنا أيضاً قال تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ (الواقعة: 25 ـ 26)، فلا لغو هناك (وهو ما لا فائدة فيه من القول) فكلّ كلامهم مفيد، ولا يؤثم بعضهم بعضاً، فهي مجتمعات آمنة مستقرّة سالمة هانئة، لا ينطق أهلها بالفساد أو باللغو أو بالباطل، بل يقولون لبعضهم دائماً أو يقال لهم: سلاماً سلاماً، في إشارة إلى عنصر الوئام والسلام والتواصل والمودّة. إنّ الأمر يحتاج ـ لو تسمحون لي بهذا التعبير ـ لدراسة (علم اجتماع الجنّة)، لنرى طبيعة هذا المجتمع الذي يختلف تماماً عن مجتمعاتنا اليوم في الدنيا.
وربما لهذا كلّه ولتكامل نفوسهم لا تتناقض رغباتهم، فكثيرون يسألون: ماذا لو أراد مؤمنٌ شيئاً في الجنّة وأراد الآخر عدم هذا الشيء، فزيد أراد أن توجد شجرة هنا وعمرو أراد أن لا توجد شجرة هنا؟ إنّ نفوس المؤمنين لا تتناقض، لأنّها تتكامل هناك ويرتفع التناقض ويحلّ الانسجام بين أفراد مجتمع الجنّة، هذا هو ما تقدّمه الصورة الدينية عن الجنّة (نعم للعرفاء تفسيرٌ آخر لجمع المتناقضات في الآخرة لا نخوض فيه الساعة).
ولنلاحظ آيةً أخرى، تشير إلى الكأس التي يحصل عليها المؤمنون في الجنّة، إنّها توصف بقوله تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ (الصافات: 45 ـ 47)، فالآية تريد أن تؤكّد أنّ ما يشربه المؤمنون من الكؤوس هناك لا علاقة له بالسكر ولا بذهاب العقل ولا بفساد الجسد. لو سألنا أنفسنا: لماذا هذه الإشارة؟ وما المشكلة لو كانوا يسكرون ويشربون الخمر ويفقدون عقولهم ما دام لا تكليف في الجنّة؟ إنّ الاحتمال الأقرب هنا أنّ الآية تريد أن تشير إلى أنّه ليس كلّ الملذات يقوم بها المؤمن في الجنّة، إنّ المؤمنين يحظون بتلك الملذات التي لا تفسدهم، لا أنّهم ينالون كلّ لذّة، وليس ذلك لتحريم هذه الملذات عليهم، بل لأنّهم لا يريدونها، فالله قال: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق: 34 ـ 35)، فلهم ما يشاؤون وفي نفس الوقت يشير إلى عدم وجود ذهاب للعقل فيما يشربونه، وإذا التقى هذان المفهومان صارت النتيجة أنّ المؤمنين في الجنّة لا يطلبون ـ لكمال نفوسهم وعقولهم ـ إلا ما هو الخير والحسن، فعدم وجود تكليف في ذلك العالم لا يعني فعل أيّ شيء، بل يعني بلوغ النظام النفسي والمحيط العام عند الإنسان مقاماً لا يصدر منه بعدها إلا ما هو الخير ولا يبلغه إلا ما هو الخير، فهو مطلق العنان لا محرّمات عليه ولا واجبات؛ لانّ نفسه صارت كاملة تقوم بكلّ ما ينبغي القيام به وتترك كلّ ما هو قبيح في ذاته، ولعلّه لهذا وصفت آيةٌ أخرى الشراب الذي في الجنّة بأنّه طهور، وذلك بقولها: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (الإنسان: 21)، وهكذا قوله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ (الطور: 22 ـ 23)، فلا تفضي هذه الكأس إلى ذهاب العقل أو النطق بما لا يصحّ النطق به ولا ينفع، فتأمّل جيداً، فهي خمرة غير خمرتنا.
هذا، ويستند بعض العلماء لآية إضافيّة للإشارة إلى وجود مقام أرفع من مجرّد الجنّة الماديّة يحظى به المؤمنون يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 72). هذه الآية تفيد أنّ المؤمنين موعودون بالجنّة، لكن هناك شيء آخر غير الجنّة هو أعظم منها سيحظى به المؤمنون أيضاً يوم القيامة، وهو الرضوان والرضا الإلهي، فهذه الآية جعلت كلمة (رضوان) مبتدأ مرفوع، وقد استخدمته بصيغة النكرة للإشارة إلى تعظيمه، ثم جاءت بالخبر لتقول بأنّ هذا الرضوان أكبر من الجنّة، وعقّبت ذلك بأنّ الحصول على الرضوان والجنّة هو الفوز العظيم، وهذا يعني أنّ هناك بعداً مادياً سيحظى به المؤمنون وهو الجنة بأنهارها ومساكنها الطيّبة، وأنّ هناك شيئاً أعظم من الجنّة هو الرضا الإلهي، والسؤال: كيف يكون الرضا الإلهي أعظم من الجنّة؟ أليست الجنّة هي الرضا الإلهي؟ إنّ هذه الآية تريد أن تقول بأنّ ما أعطِيَه المؤمنون من الجنّة ليس هو الرضوان الذي يُمنحونه، بل هناك رضوان أكبر من ذلك، وليس مجرّد الرضا الإلهي الموجود في نفس إدخالهم الجنّة هو المقصود بالرضوان، وإلا لما كان هناك معنى لقوله (أكبر)، ففي الآية إشارة إلى شيء معنوي يعيشه المؤمن يوم القيامة وفي الجنّة، وهو الإحساس بالرضا الإلهي، وبهذا ندخل في مجال المعنويات ولا نقف عند مجال الماديات، هكذا فسّر بعض العلماء هذه الآية الكريمة أيضاً.
وأشير أخيراً إلى أنّ البحث الفلسفي والكلامي بحاجة لـ (فقه نظرية العقاب والثواب)، بحيث توضع من خلال الكتاب وصحيح السنّة ضمن نظام يشرح لنا قوانين ذلك العالم، وقد حاول بعض الفلاسفة المتأخّرين أن يمارسوا هذا الدور على بعض المستويات، كما اشتغل على ذلك بعض المفسّرين ـ مثل العلامة الطباطبائي في بعض بحوثه وإشاراته في تفسير الميزان، ورغم جودة ما قدّموه مع وجود مجال للنقاش في بعض التفاصيل، إلا أنّ هناك حاجة مضاعفة لشرح كلّ هذا النظام الأخروي بطريقة قانونية وتقعيديّة واضحة، بدل الصورة المبعثرة عن الآخرة في الوعي الشعبي، ولعلّ الله يوفّق لبيان شيء من ذلك.