السؤال: النبي محمّد والأئمّة من آل البيت معصومين، ولكنّ الله تعالى لم يتعهّد بحفظ نتاجهم المعصوم!! فيما أنّ الله تعالى تعهّد بآية في كتابه الكريم بحفظ القرآن من الإضافة والنقص والافتراء والكذب وغيرها من آفات الحديث وعلله!! فنسأل: لماذا لم يتعهّد سبحانه بحفظ سُنة النبي وآله بآية في كتابه الكريم كما تعهّد بحفظ القرآن: (نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).. فنسأل: وما الحكمة الإلهيّة من عدم التعهّد بحفظ سُنة النبي والأئمّة من آله؟ وهل تصلح سُنة النبي وآله بعد عدم التعهّد الإلهي بحفظها كمصدر للتشريع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا هي متعهّد بحفظها من الله تعالى؟ ما لكم كيف تحكمون؟ رسالة من الله تعالى بقرآنه المتعهّد سبحانه بحفظه، وليس كما هي السُنّة النبوية الشيعية والسُنية والتراث والتاريخ والسير والقصص والتي لم يتعهّد الله تعالى بحفظها من الكذب والافتراء والتزوير والتلاعب والنقص والإضافة وباقي علل وآفات السُنّة النبوية.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون: 117 ـ 118). حسابه عند ربه وإن لم يكن له برهان! فكيف بمن يدّعي أنّ له برهاناً وإن كان زائفاً؟ (مهتدي).
الجواب: 1 ـ لنفرض أنّ الله تعالى لم يتعهّد بحفظ السنّة الشريفة مع أنّها حجّة على العباد، ولنفرض أنّنا لم نستطع بعقولنا اكتشاف سبب عدم التعهّد، فهل هذا يعني دليلاً على عدم كون السنّة حجّة؟ فكم من فعلٍ إلهيٍّ لم نعرف حتى الساعة سببه وحكمته بعلومنا المحدودة التي نصّ القرآن الكريم على قلّتها: (.. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) (الإسراء: 85)، فهناك فرق بين إثبات العقل لعدم الحكمة من فعلٍ ما، وبين عدم إثباته للحكمة من هذا الفعل عندما يصدر من الله تعالى، أرجو التدقيق في المفاهيم هنا.
2 ـ لو صحّت الطريقة التي عالجتم بها الموضوع، لكان من حقّ الآخرين إثبات عدم حجيّة التوراة والإنجيل على البشر حتى الذين جاؤوا في ذلك العصر قبل الإسلام؛ لأنّها تعرّضت للتحريف، إمّا بمعنى التغيير في بعض النصوص أو بمعنى الإخفاء وإظهار غيرها مكانها أو بإضافة شيء إليها ليس منها أو بأيّ معنى آخر ليس مختلفاً عمّا حصل مع السنّة الشريفة. فهل يمكن بعروض التحريف على الكتب السماوية السابقة إثبات أنّها لم تكن حجّة على الخلق حتى في عصرها؟ ولماذا لم يتعهّد الله بحفظها من التحريف؟
3 ـ لو صحّت الطريقة عينها التي عالجتم بها الموضوع، لكان من حقّ الآخرين أن يسألوكم: لماذا لم يتعهّد الله بحفظ القرآن من التحريف المعنوي؟ ولماذا لم يتعهّد بحفظ القرآن من تأويلات المتأوّلين وتلاعب المفسّرين عن عمدٍ أو عن غير عمدٍ، وحصول التشويش الواسع على عددٍ كبير من الأمّة في فهم ولو بعض نصوصه؟ أليس في عدم تعهّده بحفظ معانيه ودلالاته لتبقى ظاهرة جليّةً للجميع، وتعجيز المتأوّلين عن التلاعب في تفسيره كما أعجزهم عن التلاعب في متنه وحروفه وكلماته.. أليس في ذلك دليل أيضاً على عدم حجيّة القرآن نفسه؟ ومن ثم فطريقتكم في تكريس مرجعيّة القرآن سوف تفضي إلى التشكيك في مرجعيّته. وبالفعل فقد شكّك بعضهم في مرجعيّة القرآن نفسه بعروض الغموض على دلالاته نتيجة تراكم مقولات المفسّرين عليها، فإذا أجبتم بأنّ هذا من سوء صنيع البشر أجابكم أنصار حجيّة السنّة بأنّ التلاعب الذي وقع في السنّة كان أيضاً من سوء صنيع البشر معها.
4 ـ في كلامكم قلتم بأنّ النبي وأهل البيت معصومون، ثم قلتم بعدم حجيّة سنتّهم، فإذا قصدتم سنّتهم ولو تلك التي وصلتنا باليقين والتواتر كبعض السنن القوليّة والعمليّة، فهذا يعني أنّكم تريدون إنكار حجيّة السنّة الواقعية وترون القرآن هو المصدر الوحيد للدين، وهذا يعني أنّكم لو كنتم في عصر النبيّ، فقول النبيّ بالنسبة إليكم ليس بمصدر معرفي في فهم الدين وأخذ معالمه ما لم يكن ما ينقله النبي قرآناً، وهنا أسألكم: إذا كان هذا النبيُّ معصوماً عن الخطأ وكان نتاجه معصوماً كما عبّرتم بأنفسكم، ثم فسّر لك النبيُّ آيةً من القرآن الكريم، ألا يعني هذا أنّ تفسيره معصوم؟ وإذا كان معصوماً ألا يعني أنّه مطابق لواقع المعنى القرآني؟ وإذا كان مطابقاً لواقع المعنى القرآني من خلال العصمة ألا يعني ذلك حجيّة ولو بعض سنّته صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بمعنى مرجعيّتها المعرفيّة دينيّاً؟ لا أريد أن أقول هنا بحجيّة كلّ ما صدر عن النبيّ، لكن يكفيني حجيّة بعض سنّته لإثبات المبدأ، ونترك التفاصيل والمساحات إلى مرحلة أخرى، فكيف تمكّنتم من الجمع بين عصمته وأهل بيته وفي الوقت عينه أنكرتم حجيّة سنّته بالمطلق حسب ما استوحيتُ شخصياً من كلامكم؟ إنّ هذا الجمع يحتاج لبعض التفسير، ما لم يكن عندي قصور في فهم كلامكم ومرادكم.
هذا لو كنتم تريدون بكلامكم إنكار حجيّة السنّة الواقعيّة كلّها، أمّا لو قصدتم إنكار حجيّة الروايات الواصلة إلينا، بدعوى عدم معقوليّة تصديقها، فهذا بحثٌ آخر لا علاقة للتعهّد به، وإنّما عليكم أن تثيروا هنا عناصر القوّة والضعف في النقل التاريخي والحديثي في القرون الإسلاميّة الأولى لتُثبتوا أنّ هذا النقل لا يمكن علميّاً الاعتماد عليه في إثبات ما صدر عن النبي، وهذا غير إنكار حجيّة واقع السنّة النبويّة، فليلاحظ جيّداً.
5 ـ إذا كنتم تريدون إنكار أصل السنّة فكلامكم ـ كما قلنا ـ لا يثبت ما تريدون فيما يبدو لي، أمّا إذا كنتم تريدون إثبات مرجعيّة القرآن وحكومته على السنّة، فهذا المبدأ أوافقكم عليه تماماً. نعم، مرجعية القرآن مصطلحٌ هلامي له معانٍ متعدّدة حسب اتجاهات العلماء والباحثين، وهذا أمرٌ آخر. وكذلك إذا قلتم بأنّ الكثير وربما أكثر الأحاديث لا يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها، فهذا أمرٌ قد أوافقكم عليه من خلال رؤيتي المتشدّدة في التعامل مع الحديث، لكنّ هذا غير إنكار حجيّة السنّة.
6 ـ عندي تساؤل بسيط، وهو تساؤل يطال كلّ شيعي إمامي يريد الحفاظ على تشيّعه وعقيدته، وفي الوقت عينه إنكار حجيّة السنّة الواقعيّة، وهنا أسأل: إذا كنتم تعتقدون بالإمامة للأئمة الاثني عشر من أهل البيت كما استوحيتُ من كلامكم، فكيف أثبتّم أنّهم معيّنون بالاسم من الله تعالى وأنّهم معصومون؟ هل أسماؤهم جميعاً موجودة في القرآن الكريم؟ وإذا أخبَرَنَا النبيُّ بأسمائهم فهل إخباره حجّة؟ هل يمكن أساساً التوفيق بين إنكار حجيّة السنّة مطلقاً وبين المذهب الإمامي؟ أليست الإطاحة بحجية السنّة مطلقاً تساوي تهاوي أحاديث الإثنا عشر والغدير والمنزلة والثقلين والدار وغيرها من النصوص الكثيرة؟ أعتقد أنّه من العسير جدّاً لشيعي إمامي أن يُنكر حجية السنّة النبويّة مطلقاً (وطبعاً يُفترض أنّ سنّة أهل البيت ليست بحجة عنده أيضاً؛ لنفس أسباب عدم حجيّة السنّة النبويّة، وهي عدم التعهّد الإلهي بالحفظ)، إذ مهما أثبت من القرآن الكريم كيف له أن يثبت إمامة من بعد الإمام الحسين عليه السلام (مع أسمائهم) بالقرآن فقط؟ وليرشدنا المنكرون لحجية السنّة إلى الطريقة العلمية الدقيقة في هذا المجال، والتي لا يستندون فيها إلى أيّ نصّ نبوي أو عن أحد الأئمّة إطلاقاً، بل نحن والقرآن، وإذا لم تصلح سنّة النبي مصدراً للتشريع حتى في الأمور الفرعيّة البسيطة بسبب فوضى تناقل الحديث كما يظهر من كلامكم، فكيف صلحت لإثبات الإمامة وتفاصيلها؟!
نعم، لابدّ من قدر من القول بحجية السنّة لكي يُفتح الباب، ولو حجية تلك السنّة الإخبارية التي يخبر فيها النبي عن الله بشيء ولم نجد له ذكراً في القرآن الكريم، وقد نختلف في هذا المقدار الذي يكون حجّةً وما هي دائرته وما هي مساحاته، لكنّ المبدأ محفوظ وسط كلّ هذا الاختلاف.