السؤال: ما هو رأيكم في ما يذكره الفقهاء من موارد لجواز الغيبة، وموارد لجواز الكذب؟ أليست مجانبةً للتقوى ومدعاةً للرذيلة والتهاون؟ (أبو عامر).
الجواب: هناك أمر يجب أن نضعه على الدوام نصب أعيننا في هذه الحالات، وهو التمييز بين النظرية والحقّ وخدمتهما، وبين شيء اسمه التحايل على النظرية أو التلاعب بالحقّ أو سوء استغلال الحقّ، فالموارد التي ذكرتموها ليس فيها ـ من الناحية النظرية ـ مجانبةً للتقوى أو تهاوناً بالدين والفضيلة، بل على العكس من ذلك فإنّ في بعضها تديّناً ومراعاة زائدة للتقوى، كما أنّها تعبّر عن مرونة الفقه وتكيّفه:
1 ـ أما الموارد التي تعبّر عن تديّن، فالكذب لإصلاح ذات البين، فلو كذب الإنسان لكي يصلح بين عشيرتين أو قبيلتين أو جماعتين، فيحقن بذلك دماءهم ويوقف التخاصم فيما بينهم، أليس هذا من الحرص على الدين وعلى المسلمين وعلى الإنسان؟ فلماذا يجب أن أفترضه دعوةً للرذيلة؟ كذلك الحال في الغيبة لأجل النصح والإرشاد، فلو كنت تعلم رجلاً سيئاً سارقاً ظالماً معتدياً على زوجته التي ماتت بسببه، ثم جاءتك فتاةٌ بريئة تريد أن تستنصحك في الزواج منه، هل يكون من الشرّ أن تنصحها، أم يكون من الخير أن تتركها عرضةً لمظلمة ومهلكة؟! فبعض الحالات التي أشار إليها الفقهاء ترجع في واقع الأمر إلى مزيدٍ من الحرص والإيمان والفضيلة، فلو كنتَ أمام خيارين: إمّا أن تعترف على مقاومين مناضلين سألك العدوّ عن أحوالهم، أو تكذب عليه وتضلّله، فأيّهما الأكثر تديّناً وتقوى وفضيلة؟ أتزجّهم في السجون باعترافك أم تتحايل على العدوّ، فتختلق له الأكاذيب؛ كي تقوم بتضليله لحماية نفوس هؤلاء المجاهدين وأرواحهم ليدافعوا عن الإسلام والأوطان؟!
2 ـ إنّ وجود استثناءات في كلّ قانون ليس نقطة ضعف في هذا القانون، بل هي ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ نقطة قوّة، لاسيما عندما ندخل في القوانين التفصيليّة، والسبب في ذلك أنّ حياة الإنسان متداخلة متشابكة تتعارك فيها الظروف والمعايير، فلو أنّك وضعت قانوناً موحّداً لا استثناء فيه لتضارب هذا القانون مع قوانين أخرى ومصالح أخرى في مكانٍ ما. خذ مثالاً الصوم، فهو واجب، لكن لو أكرهك شخصٌ على تركه وإلا قتل أولادك أو قتلك، فإنّ المقنّن هنا سيصبح أحمق لو منعك من ترك الصوم. وكذلك الحال في قتل نفسك، فهو حرام، لكن لو غزا العدوّ بلادك وأراد إلغاء هويّتك بكلّ ألوانها، وأراد قتل الناس وإبادة الأطفال وإهلاك الحرث والنسل، فهل يمكن للقانون أن يقول: لا يجوز لك قتل نفسك وتعريضها للخطر؟ أليس هذا القانون الذي يجعلني غير مبالٍ بسفك دماء الأطفال في وطني قانوناً غير حكيم؟ إنّ الأغلبيّة الساحقة من القوانين التفصيليّة (وليس المبادئ الدستوريّة العليا على الأقل) يحكمها هذا الوضع، لا فرق في ذلك بين القوانين الدينية والتشريعات الوضعيّة، لهذا غالباً ما تجد في القوانين نصوصاً ملحقة للتوضيح أو التقييد أو غير ذلك، بل تجدهم يتحدّثون عن روح القانون وأنّ هذه الروح لها القدرة على تعطيل بعض نصوص القانون نفسه لحمايتها وضمان بقاء هذه الروح التي جاء القانون لأجلها، فليس هناك نظام قانوني مطلق، وهذه عقليّة مثاليّة غير واقعيّة، فلو أنّ الشريعة أعطت استثناءات للغيبة أو الكذب أو غيرهما فهذا ـ من حيث المبدأ ـ شيء صحّي، وليس شيئاً مرضيّاً. نعم يجب أن نجلس لنتداول طبيعة الاستثناءات، فهل تنسجم مع روح القانون، ومع فقه الأولويات، ومع المبادئ الدستوريّة العليا التي تمثل جوهر التشريع ولبّه أم لا؟ وهذا نقاش في التفاصيل وقبول بمبدأ الاستثناء القانوني.
3 ـ المشكلة التي تظهر في كلّ القوانين وفي القوانين الدينية أيضاً، هي أنّه مهما سعيت لسنّ القانون بطريقة صارمة ودقيقة، فسوف تظلّ هناك فسحة للوصوليّين كي يستغلّوا الحقوق والقوانين لمصالح وأهداف غير صحيحة، إمّا بالتلاعب على القانون شكليّاً أو بإقناع أنفسهم بأنّ الحالة التي هم فيها هي حالة الاستثناء لا حالة الأصل، وهنا تنعدم التقوى ويتمّ ترحيل الفضيلة، وتحلّ الرذائل والخبائث. إنّ نفس الإنسان الطاغية تدعوه لكي يقوم بذلك دائماً، لكي يقنع نفسه بأنّني أندرج الآن في حالة الاستثناء من الحرمة أو الوجوب، ولست في الحالة العادية التي تفرض عليّ الالتزام بترك شيء أو فعل شيء آخر، لاسيما عندما نتحدّث عن حالات فردية يكون الإنسان نفسه هو المرجع فيها، ومن الصعب وضع مرجعيّة يحتكم إليها قانونياً، قال تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)، فيسعى كذباً لأن يقنع نفسه بأنّ فلاناً متجاهراً بالفسق، تمهيداً لغيبته، أو يقنع نفسه بأنّ هناك هدفاً أعلى؛ لكي يسمح لنفسه بالكذب، وهذه هي البلوى التي تصيب المؤمنين فضلاً عن غيرهم، فيجتمع التديّن والتعبّد مع الرذيلة والانحراف والعياذ بالله، ويُعبد الله بالشرّ بدل أن يُعبد بالخير، والسبب هو تسويل النفس الأمارة لنا دوماً بأنّ ذلك يجوز لي، وإقناع عقولنا بأنّنا ندخل ضمن دائرة المباح، فباسم الدفاع عن الدين إذاً يجوز لي أن أهتك حرمات الناس! وباسم الدفاع عن الوطن إذاً يجوز لي أن أسفك دماءهم! وباسم الدفاع عن العقل والحريّة والتجديد إذاً لا قيمة لأيّ عامل في الساحة، وكلّهم متخلّفون رجعيون لا يفرضون عليّ إنصافهم والقول فيهم بعدل، وباسم الدفاع عن أهل البيت أو عن الصحابة وأمهات المؤمنين إذاً يحقّ لي أن أفعل عظائم الأمور بمن يخالفني الرأي! هنا واحدة من أشدّ مهالكنا التي تسقطنا في الهاوية لنؤسّس لتديّن رهيب وغريب، يعتمد التحايل والتلاعب وافتراض العناوين الثانوية وغير ذلك من حيث شعرنا أم لم نشعر، فإذا كان هذا هو الذي كنتم تقصدونه من سؤالكم فإنّني أؤيدكم تمام التأييد، ولهذا أعتقد شخصيّاً أنّ مفتاح جزء كبير من الحلول هنا هو بهيمنة القيم الأخلاقية على القانون، فكلّما ابتعد القانون عن روحه وقيمه الأخلاقيّة التي جاء لأجلها ـ واقتصر على الشكليات ـ وقع في مثل هذه البلوى، وكلّما اقترب من روحه وأخلاقيّته العليا صار أبعد نسبياً عن ذلك. وهذا هو ما كنّا نقصده دوماً عندما نقول: إنّ الفقه والشريعة طرقٌ للقيم الأخلاقية لا العكس، وأنّ تضخّم الفقه على حساب البعد المعنوي والأخلاقي في الدين ليس مشكلة دراسيّة في مناهج التعليم في الحوزات العلميّة والمعاهد الدينية فقط، بل هو مشكلة بناء عقل ديني، يمكن أن تظهر له نتائج سلبيّة في مكان ما كهذا الذي نحن فيه على سبيل المثال.