السؤال: تكثر في الآونة الأخيرة الجدالات حول تفاصيل عقدية وشعائريّة بين المؤمنين، ويتحسّس كلّ منهم من الطرف الآخر في تعابيره وكلماته، إنّني أعتقد بأنّ الإصلاح والتغيير لا ينصبّ على مثل هذه المفردات والممارسات الشعبيّة، فنحن بحاجة إلى مشروع إصلاح ولكن قبل ذلك نحتاج إلى رؤية ونحتاج إلى خارطةطريق ـ إذا جازت الاستعارة ـ ونحتاج إلى وضع أولويّات ودراسة النتائج. وحتى مع القول الذي يؤمن بفكرة الصدمة وبضرورة النقد، فإنّ «الخراب»في الأمة هل مكمنه في هذه الأدعية والتوسّلات أو في هذه الزيارة أو في تلك الشعيرة أو في هذه العقيدة التفصيليّة حتى تركّز كلّ الجهود عليها؟! أم أنّه تعبير عن فشل في التشخيص وإفلاس في تقديم مضمون فكري ثقافي واع وعميق في الأمّة؟ لقد علّقتُ على بعض مقالات الشيخ (…) وقلتُ: ما باله يختار مفردات تتعاملمعها الأوساط الشعبية من قبيل حديث الكساء ورواية «لولاك» و «نحن حججه وفاطمة حجّة علينا» وما شابه؟ لماذا لا يقوم بوضع مشروع دراسة موسّعة لسيرةالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم والأئمة عليهم السلام؟ لماذا لا يشكّل فريقاً لوضع دراسة موسّعةمتعدّدة الأبعاد تاريخية ودعوية حركية وتربويّة وتشريعيّة وسياسيّة عنالنبي والأئمّة مثلاً؟ ثم إنّ التخلّف حالة عامة ليس في أمّة العرب والمسلمين فقط، بل في عموم العالمالثالث، فهل كلّ هذا التخلّف مصدره هذه الثقافة السائدة في الوسط الشيعيمثلاً بحيث يتعامل بعضٌ معها على أنّها تنشر الخرافة والتخلّف وما شابه، وكأنّ معالجتها والقضاء عليها سينقل العرب والمسلمين إلى عالم الأنوار ومابعده؟! ثم حتى لو تنزّلنا وقلنا بأهمية تناول هذه الأمور ونقدها ولكن لابدّ مناتّباع طرق وأساليب علميّة موضوعيّة وخطاب منضبط يُسهم في نشر الفكرة بدلاًمن الإثارة! لا أدري ما رأيكم؟
الجواب: أوافقكم في الجملة على ما ذكرتموه، لكن لديّ ملاحظات قد تجعلنا مختلفين في المنهج والتصوّر:
أوّلاً: إنّ الخلافات الجزئيّة التي أشرتم إليها (وغيرها كثير) يمكن أن نقرأها من زاويتين: ففي الزاوية الأولى ستبدو خلافات جزئيّة وطفيفة وسطحية، لكنّها في الزاوية الثانية ليست سوى مصاديق وتمظهرات لمناحي فكرية في فهم الإسلام، فهناك في تقديري صراع بين منهج القرآن ومنهج الحديث، بين منهج التوثيق الحديثي ومنهج النقد الحديثي، بين المنهج العقلاني ومنهج اللامعقول الغيبي، بين المنهج التاريخي والمنهج غير التاريخي، بين منهج صناعة عادات وثقافات وأنماط عيش دينية جديدة ومنهج يرفض ذلك ويراه بدعاً، بين منهج دفاعي ومنهج نقدي، بين منهج تواصلي مع الغرب في مجال الإنسانيات ومنهج تقاطعي، بين منهج توحيدي مع أهل السنّة ومنهج تمييزي، بين منهج (كفى سكوتاً عن تقصيرات المرجعيّة الدينية) ومنهج لابدّ من التغيير الصامت، إلى غير ذلك من الاختلافات. وأعتقد بأنّ هذه المعارك المبعثرة هنا وهناك ترجع إلى أنّ العقل الشيعي يحدّد خياراته، وأنّه على مفترق طرق في اختيار المناهج والعقول المعتمدة، ولهذا فأنا لا أبسّط ما يُثار؛ لأنني لا أراه لوحده، بل أراه انعكاساً لصراع مناهج وطرائق تفكير وخيارات استراتيجيّة.
ثانياً: وفقاً لذلك، فأنا إذا اخترت منهجاً فلا أستطيع أن أكون نخبويّاً، أعيش مع المنهج، وأتحدّث فقط في المنهج والتنظيرات والثقافة المخملية الصالونيّة التجريديّة، ثم اُخلي الساحة لتطبيقات المنهج الآخر، فهذا ضرب من النخبويّة الخياليّة النرجسيّة المتعالية التي لا فائدة منها، فأنت مقهور على النزول إلى التفاصيل، لكي يخوض المنهج معركة الوجود فيها. نعم، قد لا يناسب أن ينزل الجميع للتفاصيل، فإنّ في هذا استهلاكاً للطاقات وبعثرةً للأولويّات، لكن نزول البعض ضروريٌّ، كيف والآخر يخلق كلّ يوم تفاصيله التي تسيطر على الساحة وتشكّل وعياً جديداً سيجعلك في نهاية المطاف في غرفة مغلقة مهما أنتجت من كتبٍ ومجلات وفكر ومؤتمرات، فهذا مثل التقريب بين المذاهب، فما لم يدخل التقريبيون في صراع ميداني فكري مع اتجاهات التمزيق والسلفيّة فإنّ الحديث عن التنظيرات العامّة لا فائدة منه حتى لو قدّمت عشرين ألف مجلّد. والمعركة الفكريّة ليست معركة أوراق وتأمّلات في الفضاء الطلق، بل لها جانب عملي في الإمساك بالأمور، وهذا الجانب يفرض قوانينه الخاصّة، وإلا تحوّل الإصلاح إلى نخب تجلس في مقاهي الثقافة والشعر ونوادي الأدب والخطابة!! وعموم الناس ومتوسّطو الحال لا تنفع معهم المشاريع الفكرية الكبرى، بل لابدّ أيضاً من إصلاح التفاصيل والعادات، أليست هذه سنّة الأنبياء في محاربة العادات حتى الجزئيّة والإطاحة بها؟ فهل الأنبياء جلسوا ينظّرون في الكلّيات العامّة أم دخل النبيّ في التفاصيل وفي العادات وفي اليوميات وصحّحها حتى لو انفعل قومه الذين لا يريدون تغييرها؛ لأنّ تغييرها من تغيير مواقعهم وسلطتهم؟!
ثالثاً: أتّفق معكم أنّ النزول هذا يجب أن يكون مدروساً ومتوازناً وعقلانيّاً يحسب الحسابات من جميع الجهات، بحسب ما أوتيت عقولنا من طاقات وإمكانات، وأنّ الكثير من أصحاب المشاريع الجديدة أخطأوا في هذه النقطة، ولعلّ هذا هو الذي يوحي بكلّ الإشكالات الأخرى.
رابعاً: إذا كان هيجان العامّة ضدّ الفكر الإصلاحي ردّة فعل، فلماذا لا نحسب تيار النقد بنفسه ردّة فعل على مآلات أوصلتنا إليها العقليّة القديمة السائدة التي تمتاز بأنّها الممسكة بالأمور سابقاً وحاليّاً؟ وإذا أردت أن أعذر هنا فعليّ أن أعذر هنا أيضاً؛ لهذا أعتقد أنّ علينا ممارسة التعذير في كلّ النواحي وفي الوقت نفسه النقد.
خامساً: إنّني دوماً أفرّق بين التقويم والتوصيف والتوقّع، فسلوك النقديين يمكن تقويمه سلباً أو إيجاباً، وأنا أقبل بوجود ملفّات أخرى هامّة مغفلة عندهم نسبيّاً، رغم أنني أختلف معكم في أنّ القوم اهتموا كثيراً بغير قضايا المذهبيّات؛ لأنّني لا أعتبر أنّ جماعةً بعينها هم الإصلاحيون الوحيدون في الساحة، ولا أقرأ الإصلاح بهذه الطريقة، فقد اهتمّ الإصلاحيّون بالفكر السياسي كثيراً، وكتبوا في التفسير وفي الحديث وفي العلاقات الاجتماعيّة والتربويّة وغير ذلك. وإنّني أرفض أن نجلد ذاتنا أو أن نستسلم لتوصيفات الآخرين الذين يريدون دوماً تصوير رموز الإصلاح الديني بالضعف العلمي، فهذا وهم، فالآخرون أيضاً يعانون من مشاكل في قضاياهم الفكريّة، لكنّ تقويمي للإصلاحيين شيء وأن أتوقّع ظهورهم ولا أصاب بالدهشة منه في كلّ مرّة شيء آخر، لأنّ مسارات الأمور تفضي منطقيّاً لظهور تطرّف عندهم كما تفضي عند غيرهم، ولا يصحّ أن أضع الضحيّة والجلاد في كفّة واحدة، كما لا يصحّ أن أعتبر أنّ الفعل دوماً في طرف وردّة الفعل في طرف آخر، بل هي علاقة جدليّة. هذا، وكلامي بالمطلق أما المصداق الفلاني هنا في هذا البلد أو هناك في ذاك البلد، فلست متعرّضاً له فيما قلته هنا.
سادساً: لا أحد يقول بأنّ الخراب في الأمّة مكمنه هذه الأمور فقط، لكنّ عالم الدين مسؤول عن عناصر الخراب المتصلة بشؤون الدين، لهذا من الطبيعي أنّ عالم الدين يتصدّى لعناصر الخراب الدينية، فيما يوكل مهمّة إصلاح العناصر الأخرى لسائر الفئات الاجتماعيّة والعلميّة أو على الأقل يشارك هناك بمشاركة من الدرجة الثانية، إذا كان لا يجوز أن ننتقد رواية هنا لأنّها ضعيفة أو زيارة هناك أو مسلكيّة هنا أو رأياً مشهوراً هناك، أو ننتقد مرجعاً أو فقيهاً؛ لأنّ المرحلة لا تتحمّل، ولا ننتقد تياراً فكريّاً معيّناً و… ونبقى دوماً في نقدٍ مقنّع متخفّ يهمس من بعيد، فكيف نصلح عناصر الخراب المتصلة بالدين؟! هل جرّب أحدٌ طريقة التغيير الصامت هذه في العصر الحديث ونجحت معه؟ ألم يشنّ الإمام الخميني والسيد فضل الله والشيخ شمس الدين والسيد محمّد الشيرازي والسيد الصدر والسيد موسى الصدر والسيد محمّد صادق الصدر والشيخ المطهّري والعلامة الطباطبائي والدكتور علي شريعتي والسيد محمود الطالقاني والشيخ محمّد جواد مغنيّة والسيد هاشم معروف الحسني والسيد محسن الأمين وغيرهم أعنف الهجمات على الحوزة العلميّة أو على الأفكار المهيمنة التي كانت سائدة في عصرهم وتعرّضوا للتشويه والنقد، وخاضوا معارك ـ كلّ بحسبه ـ في هذا الإطار، وتدخّلوا في تفاصيل الوعي الديني الذي كان سائداً، حتى تحوّلوا اليوم إلى مسلّمات وتخطّينا الكثير من الأفكار التي حاربوها؟ هل كان هؤلاء الرموز لم يثيروا ضجّة في الأوساط الشيعية ولم تحدث قلاقل في الخلاف معهم؟ هل كانت حركتهم هادئة؟ أم حوربوا وافتعلت الأزمات ضدّهم (حتى وصلت بعض تجلّياتها في المنهج الفكري والعملي إلى حروب داخليّة فرضت عليهم وسفكت فيها دماء الشيعة)؟ ولولا أنّهم صاروا الحلقة الأقوى بانتصار تيّارهم السياسي والاجتماعي لرأينا استمراراً للحرب عليهم إلى يومك هذا (بل هي ما تزال موجودة في الغرف المغلقة)!! إنّ من المهم قراءة التاريخ لنعرف أنّ هؤلاء جميعاً أو غالبيتهم الساحقة واجهوا مشاكل من هذا النوع؟ كلّ ما في الأمر أنّ الأمور اليوم صارت مكشوفة ليس لشيء إلا لاتساع رقعة ومساحة نشاط وسائل التواصل والإعلام، وإلا فإنّني لا أجد في القضيّة شيئاً آخر مختلفاً، فهل كانت لغة السيد فضل الله أو الشيخ الذي ذكرتموه أعنف وأقسى من لغة مطهّري أو الخميني أو مغنيّة في حقّ الحوزات؟ راجعوا نصوص الفريقين وسترون، ولكنّ ذاكرتنا الجماعيّة قد تضعف في بعض الأحيان. إنّ التغيير الصامت يمكن تطبيقه في الدول والبلدان المستقرّة مثل الغرب، أمّا في مثل العالم الثالث فلابدّ من قفزات فكريّة ونهضويّة وثورات حتى يتمّ التغيير. لست ضدّ التغيير الصامت لكنّني لا أراه كافياً في الكثير من المواقع، وإن كان مفيداً جدّاً في مواقع كثيرة أخرى، لكنّ تحويله إلى منهج عام يفضي إلى عجز.
وأخيراً، أودّ أن أشير إلى أنّ رجالات الإصلاح الديني وأتباعهم لم تقتصر جهودهم ـ كما يريد خصومهم أن يصوّروهم ـ على ملاحقة القضايا الجزئيّة الخلافيّة، بل رأينا لديهم مشاريع كبرى، بحيث بدت هذه القضايا الخلافيّة أمامها أقلّ من الواحد في المائة من مجموع عملهم، لكنّ الآخرين يكبّرون هذا الواحد في المائة ليشغلوا الساحة به، فيما ينسى الجميع أنّ هؤلاء الإصلاحيين قد قاموا بأنشطة كثيرة أخرى وتجارب رائعة أخرى في حياتهم، خذ مثالاً السيد فضل الله الذي يعدّ أكثر الذين اتهموا بإرباك الساحة بهذه الأفكار النقديّة، هل قضى عمره كلّه في التعليق على هذه العادة أو تلك أو هذه الرواية أو تلك أو هذه الزيارة أو تلك؟! كم هو عدد كلماته في هذا الإطار قياساً بما يقرب من ثلاثين مجلّداً في الفقه (وبعض أبحاثه في الفقه جاء مقارناً مع القانون الوضعي مثل كتاب الإجارة) وأخرى مثلها في تفسير القرآن الكريم، وعشرات آلاف المقالات والمحاضرات والإجابات والاستفتاءات في قضايا الفكر والسياسة والاجتماع والثقافة والأخلاق والتربية والتاريخ، ونظرياته ونهجه الفكري الذي وضعه في قضايا الحوار الإسلامي الإسلامي، وقضايا الحوار الإسلامي المسيحي، وقضايا المرأة، وما قدّمه من أنموذج متطوّر للرسالة العمليّة (فقه الشريعة) شهد أمامي بعض كبار تلامذة السيد الصدر بأنّها أفضل من الفتاوى الواضحة للسيد الشهيد، من حيث اللغة والمنهجة والتنظيم القانوني، فضلاً عن مشاريع ميدانية يقرّ بها العدوّ قبل الصديق لبناء الجيل الصاعد؟! خذ مثالاً آخر، حركة الإصلاح الديني (لا السياسي) التي شهدتها إيران منذ بداية التسعينيات، ألم يسهم الإصلاحيون (المعتدلون منهم ولا شأن لنا بالمتطرّفين) في تأسيس علوم جديدة تراجعت مع الأسف مع تراجعهم، مثل علم فلسفة الفقه، وعلم الكلام الجديد، وعلم فلسفة الدين، وكانت لهم مساهمات فلسفيّة ومعرفيّة مشهودة؟! هل يكون بناء المشاريع البديلة بغير التراكم التدريجي؟ تعالوا لننصف الناس جميعاً، ولا نصوّرهم وكأنّهم عاطلين عن العمل لا يعملون إلا في مجال التعليق على زيد أو عمرو أو ملاحقة بعض التفاصيل، وتعالوا لتكون لدينا الجرأة لنقد خصوم الإصلاحيين علناً كما ننتقدهم هم علناً أيضاً وبنفس الدرجة، وإلا ما راعينا قانون العدل والإنصاف! والله من وراء القصد.