السؤال: قال تعالى: ﴿إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو﴾، أليست الدنيا مخلوقةً من قبل الله، فكيف يخلق ما هو لعبٌ ولهو؟ ألا يعتبر ذلك عبثاً ويتعارض مع قوله تعالى: ﴿أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً﴾؟ (حيدر الوكر).
الجواب: لا تناقض بين الآيتين؛ لما أشرنا إليه في مناسبة سابقة من أنّ الفعل من طرف الله تعالى قد يُحكم بحكم مختلف عن حكمه من طرف العبد، فأنت مثلاً تصنع لأطفالك أو تشتري لهم ألعاباً ليلهو بها، ومع ذلك يصدق على فعلك أنّه حكيم، فيما يصدق على فعلهم أنّه لهو ولعب، من دون أيّ تنافٍ، فالآية الأولى تنظر إلى الدنيا بالقياس إلى الآخرة بوصفها لهواً ولعباً، فلا تغترّوا بها، ولا تجمدوا عندها، فهي لا شيء بالقياس إلى الآخرة، فيما الآيات الأخرى تشير إلى أنّ الله خلق الإنسان في هذه الدنيا وفي هذا الفضاء اللهوي كان لغايةٍ ومقصد، وهو اختباره وامتحانه وأمثال ذلك.
وبعبارة أخرى: إنّ توصيف الدنيا بأنّها لهوٌ ولعب هو توصيف لها بملاحظة الآخرة، كي لا يرى الإنسان أنّ الدنيا هي غاية المقصد، بل ينظر إليها باحتقارٍ تام، فيجعلها سبيلاً للمقصد الحقيقي وهو الله والدار الآخرة، فلاحظوا عنصر المقارنة والخصوصيّات التي نتكلّم عنها في الآيات التي تحدّثت عن توصيف الدنيا بأنّها لعب ولهو، حيث نرى المقارنة مع الآخرة حاضرةً فيها بعد ضمّ بعضها إلى بعض:
أ ـ قال تعالى: ﴿وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون﴾ (الأنعام: 32)، فالآية تريد أن تقول بأنّ الدنيا هي لا شيء أمام الآخرة، فلا تغترّوا بها وتظنّوا بأنّها دار القرار، فهي ليست إلا لهواً ولعباً أمام الآخرة، تماماً كما هي مرحلة اللهو واللعب عند الأطفال، من حيث إنّها ليست المعيار والمقصد في حياة الإنسان، فعليه أن لا يظنّ أنّ الحياة هي هذه فقط، بل هذه ليست سوى مقدّمة لتلك، خلقها الله لغرض عقلاني وهو الابتلاء والامتحان اللذين هما المعيار في تعيين مصير الإنسان يوم القيامة تبعاً لأدائه فيهما.
ب ـ وقال تعالى: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ (العنكبوت: 64). فليست الدنيا سوى لحظات عابرة أمام الآخرة التي هي الحياة الحقيقيّة، أمّا هذه فهي عدمٌ بالقياس إلى تلك، فكأنّك تقول لابنك الصغير: هذه المرحلة من عمرك ليست سوى تسلية أمام مرحلة النضوج، فهناك سترى الحياة الحقيقيّة، وهذا لا يعني أنّ مرحلة الصغر لا قيمة لها أو أنّها عبثية، بل هي مرحلة التكوّن والتبلور والتربية والتدريب.
ج ـ وقال تعالى: ﴿إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم﴾ (محمد: 36)، فلاحظوا كيف يربط القرآن الكريم دائماً بين الدنيا والآخرة عندما يقوم بتوصيف الدنيا باللهو واللعب؛ ليشير إلى حقارتها أمام الآخرة في تجربة الإنسان، كي لا يغترّ بها، لا في أنّ خلقها بنفسها مفسدةٌ أو عبث، بل هي مصلحةٌ للإنسان كي تكون فرصةً له لكسب الآخرة السعيدة.
د ـ وقال تعالى: ﴿اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يصير حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض..﴾ (الحديد: 19 ـ 20). إنّ التوصيفين المتقابلين يراد منهما ـ بملاحظة السياق ـ حثّ الإنسان على السبق واللحاق بركب الذين يكسبون الجنّة، وليس توصيفاً لخلق الله للدنيا بأنّه لهو ولعب، فالدنيا مصلحةٌ عظمى في الخلق، لكنّ جمود الإنسان عليها جمودٌ على ما هو لعبٌ ولهو قياساً بما ضحّى به من سعادة الآخرة، فما كسبه من سعادة الدنيا هو بمثابة لعبة الأطفال التي يلهون بها قدراً من الوقت، ثم تنقضي أوقاتها وأزمنتها وتزول.
هـ ـ وقال تعالى: ﴿وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين﴾ (الجمعة: 11).
وبهذا يتبيّن أنّ توصيف الدنيا بأنّها لعب ولهو توصيفٌ لها بملاحظة حال الإنسان مقارنةً بالحياة الآخرة الحقيقيّة، أمّا الدنيا بما هي في نفسها من حيث خلق الله لها فهي أمرٌ ضروري وحكيم، كونها المختبر الذي أرادته السماء لبناء الإنسان الصالح لدخول الجنّة، فسياقات الآيات مختلفة بين هذه وتلك، فلا تعارض بينها.