السؤال: هناك في الإسلام الكثير من الأحكام التي تجوّز ارتكاب المحرّمات إذا تزاحمت مع مصلحة أكبر، كوجوب أكل الميتة مثلاً إذا كانت تتوقّف عليها حياة الشخص، هذا في مجال الفرد. وأيضا في مجال المجتمع، قرأت رأياً للشيخ التبريزي بضرورة أن يتصدّى المسلمون لقطع أيدي الظلمة عن المؤمنين وبلادهم مع التمكّن منه، حيث إنه لو أمكن ذلك بالمقدّمات غير المحرّمة في نفسها فهو، وأما إذا توقّف ذلك على ارتكاب محرّم في نفسه فلابد من ملاحظة الأهمية بين المتزاحمين.. سؤالي هو أنه للوهلة الأولى فإنّ هذا المنهج في تبرير ارتكاب المحرّمات في سبيل غاية ومصلحة أهم شبيه بالمنهج الغربي البراغماتي القائل بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة!! لكن ربما الاختلاف في من يحدّد الغاية؟ ففي المبدأ الغربي يحدّد الغاية المصلحة الشخصية النفعيّة المادية، في حين أنّ الغاية وفق الرؤية الإسلامية ليست شخصيّة، بل هي عامة يُراعى فيها مصلحة الإنسانية ككل وليس الفرد… ما هو رأيكم شيخنا؟ (K. B، الكويت).
الجواب: إذا أخذنا مبدأ (الغاية تبرّر الوسيلة) على إطلاقه، فإنّه يلتقي مع التشريعات الإسلامية في جهة ويختلف عنها في جهات، فهذا المبدأ يجعل قيمة الوسائل تابعة لقيمة الغايات، فإذا كانت الغايات سليمة لم تكن هناك مشكلة في الوسيلة التي نستخدمها، وهذا الكلام مرفوض على إطلاقه في الشريعة الإسلاميّة، وذلك:
أولاً: إنّ الوسائل في الشريعة الإسلاميّة أفعال لها حكمها الخاصّ، فمجرّد وقوع فعل معين وسيلة في طريق تحقيق غاية معينة لا يبرّر هذا الفعل حتى لو كانت الغاية سليمة، فإصلاح ذات البين لا يصحّح سرقة مال شخص ولو كانت هذه السرقة وسيلة لهذا الهدف النبيل، والكذب لا يجوز ولو كان وسيلة لإدخال السرور إلى قلوب الناس وهي غاية نبيلة. والعلاقة بين الغايات والوسائل في الفقه الإسلامي تكون من خلال أمرين:
أ ـ انحصار بلوغ هذه الغاية بهذه الوسيلة، بحيث لا نملك طريقاً للوصول إلى هذه الغاية النبيلة إلا من خلال هذه الوسيلة غير النبيلة، فلو أمكن الوصول إلى الغايات النبيلة من خلال طرق أخرى نبيلة في نفسها، لم يُسمح باستخدام الطريق غير النبيل إطلاقاً، فلو أمكن إصلاح ذات البين عبر الصدق في القول، لم يجز الكذب لإصلاح ذات البين.
ب ـ قياس درجات الأهميّة بين الهدف والغاية من جهة وبين الوسيلة من جهة أخرى، فلو كانت أهميّة الغايات بحيث تكون أقوى من حجم الضرر أو المفسدة التي في الوسائل، فهنا يجوز استخدام الوسيلة لتحقيق الهدف. أمّا لو فرضنا أنّ الوسيلة كانت ذات مفسدة أو قبح أكبر من الغاية التي نستخدم الوسيلة لأجلها فإنّ الغاية في هذه الحال تسقط، فلا يمكن للتوفيق بين زوجين أن نقوم بهدم مسجد أو مستشفى يحتاجهما الناس مثلاً.
ثانياً: إنّ تحديد عنصر الأهميّة والذي هو العنصر الأكثر خطورة في تطبيق قاعدة التزاحم التي تقضي بتقديم الأهم على المهم، ليس مسألة ذوقيّة في الشريعة الإسلاميّة، ولا هي مسألة شخصيّة أيضاً، بل حيث إنّ الموقف الشرعي والأخلاقي من الغاية والوسيلة يرجع إلى المشرّع سبحانه وتعالى، فإنّ تحديد درجة أهميّة كلّ من الغاية والوسيلة لابد فيه من الرجوع إلى ما يكشف لنا عن موقف المشرّع تعالى فيه، وعملية الكشف عن موقفه لتحديد درجة الأهميّة ليس أمراً سهلاً، ومكامن خطأ الكثيرين في تطبيق قانون المصلحة اليوم وقبل اليوم هي في هذه النقطة بالذات. لقد بذل الفقهاء المسلمون جهداً في تحديد مستويات التشريعات من حيث الأهميّة وغيرها، وكان أكثر من ركّز على هذا الموضوع هم أنصار الفقه المقاصدي المؤيّدين لنظريات الإمام الشاطبي (790هـ) في الاجتهاد الشرعي، لكن في كثير من الأحيان نحن نواجه استحسانات واستنسابات شخصية في هذا الأمر، لا تقوم على أدلّة مقنعة، كما أنّ تحديد عنصر الأهميّة هذا يختلف تبعاً لمناهج الاجتهاد وقراءات المفكّرين والمجتهدين، وهذا ما يؤكّد أنّه أمر ليس بالبسيط أو بالعابر. سأعطي مثالاً بسيطاً، هل الأمّة هي الأهمّ أم الدولة؟ للوهلة الأولى قد يبدو هذا السؤال بسيطاً، لكننا نجد اختلافات عميقة فيه اليوم، فبعضهم يعطي القداسة للنظام الإسلامي، وبعضهم لا يعطيه القداسة بل يعطيها للأمّة، فالأمّة هي الغاية لا الدولة، والدولة ليست سوى وسائل لخدمة الأمّة. وهناك عشرات الأمثلة الصغيرة والكبيرة لهذا الموضوع الذي يؤكّد لنا أنّنا بحاجة إلى مناهج عميقة لدراسة معايير الأهميّة بين التشريعات وتمييز الوسائل عن الغايات تمهيداً لتطبيق قوانين التزاحم، وهذا ما يفرض اليوم فتح باب في أصول الفقه الإسلامي أو علم القواعد الفقهية يدور حول فقه التمييز بين الغايات والوسائل.
وعليه، فإنّ قانون التزاحم في التشريع الإسلامي يختلف أيضاً عن قانون الغاية تبرّر الوسيلة، من حيث إنّه في قانون الغاية تبرّر الوسيلة يكون العقل الإنساني هو الحَكَم في تحديد الغايات والوسائل وتمييزها عن بعضها، ثم في تحديد درجات الأهميّة فيما بينها، بينما الأمر في التشريع الإسلامي يُرجع فيه إلى الشرع نفسه، لكي نستكشف من مجموع نصوصه: أيٌّ من التشريعات هو الأهم وأيّ منها ليس بالأهم، بل إنّ افتراض تشريع ما غايةً وآخر وسيلةً هو بنفسه ليس سهلاً. وطبعاً لا أقول بأنّه ممتنع.
ثالثاً: إنّ هناك نقطة مهمّة هنا، وهي أنّ كثرة استخدام قانون التزاحم في الحالات المختلفة يحتاج إلى دراسة نوع الأداء الذي سنخرج به عموماً بعد ذلك، وأقصد من هذا الأمر أنّني عندما اُكثر أو اُفرط من استخدام قانون التزاحم، فإنّ عليّ أيضاً أن أحسب المجموع، لكي يكون له دور في حساب معايير الأهميّة، فإذا عمّت في المجتمع ظواهر قانون التزاحم بشكل مفرط، وبتنا نهدم في كلّ يوم مسجداً لأجل طريق، ونسلب حقّ شخص لأجل أمر أهم، ونظلم شخصاً لأنّ المصلحة تقتضي مراعاه العلاقة مع شخص آخر، ونهدر حرمةً لجماعة هنا لأنّها ضعيفة انطلاقاً من المصلحة الأهم في فتح علاقة مع جماعة هناك لأنّها قويّة… إنّ تمدّد هذه الثقافة يخشى منه أن يبلغ بنا مرحلة نهدر فيها القيم نفسها ونحن لم ننتبه، فعلينا أن ندرس أيضاً ـ بنظرة مجموعية، لا فردية ـ كلّ عمليات إجراء قانون التزاحم، لنرى هل بلغت حدّاً مفرطاً في ثقافتنا الدينية بحيث غيّبت القيم لصالح المصالح أم لا؟ هذا موضوع بالغ الأهميّة، وعندما ندرس سيرة الإمام علي عليه السلام فنحن نواجه مثل هذا الأمر، فقد كان بإمكانه أن يبقي معاوية على ولاية الشام، وكذلك يجعل طلحة والزبير على ولايتي الكوفة والبصرة، ثم بعد فترة يعزلهما، وكان بإمكانه أن لا يستعجل بعزل الولاة والقضاة في حركةٍ راديكالية قاسية، فلا يثوّر عليه الناس، لكنّه لم يفعل. ولعلّ أحد الأسباب لذلك ـ وهو موضوع طويل ـ هو أنّ نظام المصلحة الأهم عندما يفرط الحكّام والولاة والكبار في استخدامه، فإنّه يمكن أن يؤدّي إلى هدر حقوق الصغار، وتلاشي مصالح الطبقات الوسطى، وهذا معناه أنّه لا بدّ من صدمة تعيد للذاكرة الجماعية عنوان القيم العليا وقضايا التضحية في سبيلها، وهذا ما أراده عليّ عليه السلام لإعادة تصحيح المسارات والثقافات.
ما أريد التركيز عليه هو أنّ نظام التزاحم في التشريع الإسلامي، كما يلاحَظ بنحو الفقه الفردي التجزيئي، كذلك يلاحَظ بنحو الفقه الجمعي الموضوعي، وفي الملاحظة الثانية نستعيد استحضار قضايا القيم العليا. وإعادةُ استحضارها بهذه الطريقة سوف يبعدنا عن الأنموذج الغربي في قانون الغاية تبرّر الوسيلة.
أكتفي بهذا المقدار من التمييز؛ لأنّ الموضوع طويل. وهذا كلّه، إضافة إلى ما تمّت الإشارة إليه في السؤال من المصلحة الشخصية والنوعية بدرجة معينة.