السؤال: قد يقول معترض على استدلال السيد محمد باقر الصدر في كتابه الأسس المنطقيّة، بأنّ السيد لماذا أخذ الظواهر الإيجابيّة فقط في إثبات الحكمة ولم يأخذ الظواهر السلبيّة إن صحّ التعبير من أمثال: الأعاصير والفيضانات والزلازل والأمراض؟! أنا كمسلم أؤمن بتفسير غيبي لهذه الظواهر، ولكن كمستدلّ استقرائي لإثبات الصانع الحكيم أين أضع هذه الظواهر من جوانب الاستدلال؟ (الفتى الهاشمي).
الجواب: البحث عن الله سبحانه وتعالى في الفلسفة وعلم الكلام يقع في أكثر من مرحلة، أولاها إثبات الألوهيّة ووجود الذات واجبة الوجود، ثم بعد ذلك الحديث عن الصفات، وإثبات الصفات له طريقان:
الطريق الأوّل: وهو طريق الذات الإلهيّة نفسها، بمعنى أنّ دليل إثبات الذات هو بعينه الدليل على إثبات تمام الصفات الكماليّة للذات نفسها، وهو الطريق الذي يدّعي الصدرائيّون أنّهم فعلوه، ذلك أنّ برهان الصدّيقين عندهم يثبت الواقعيّة المطلقة التي لا حدود لها، فتتصف بالكمال المطلق، إذ أيّ نقص يمكن فرضه فسوف يكون حدّاً للذات الإلهيّة المفروض ببرهان الصديقين أنّه لا حدّ لها؛ لأنّها محض الواقعيّة والوجود، فيما الحدود تنشأ من الماهيات التي لا مجال لها في ساحته تبارك وتعالى بحكم إطلاق وجوده ومحض وجوده، إذ الماهية هي حدّ الوجود، فلا ماهية لمطلق الوجود، وعليه فكلّ صفة كماليّة يمكن إثباتها لذات الباري بنفس دليل إثبات وجود الباري نفسه، وكلّ صفة نقص يمكن سلبها عن الذات بنفس دليل إثبات هذه الذات أيضاً، وبهذا نثبت كلّ الصفات الذاتيّة الكماليّة له تعالى.
الطريق الثاني: وهو الطريق الذي اتبعه مجموعة من الفلاسفة والمتكلّمين وأهل الحديث، وهو إثبات الصفات من خلال المخلوقات لا من خلال ذات الخالق، وفي هذا الطريق يصار إلى الانطلاق من ذواتنا والخلق المحيط بنا (الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة)، لكي نتأمّل في هذا الخلق، فنحاول اكتشاف صفات الخالق من خلال آثار صنعه وخلقه، وفي هذا الطريق نجد أمثال السيد محمد باقر الصدر في مختلف كتبهم الفلسفية والكلاميّة، يحاولون إثبات الباري وصفاته عبر البريّة والخلق، فيستخدمون قانون العليّة، أو برهان الحدوث، أو برهان الحركة الأرسطي، أو برهان النظم، أو برهان التوجيه والاستهداء، أو غير واحد من البراهين القائمة على مبدأ استحالة التسلسل العلّي، ونحو ذلك.
إنّ المنهج هنا مختلف فيما يتعلّق بقضيّة الصفات الإلهيّة؛ ذلك أنّ التأمّل في الخلق يمكنه أن يُثبت الذات الخالقة ومعها بعض الصفات، لكنّه لا يمكنه إثبات الذات الخالقة ومعها تمام الصفات الكماليّة، فبرهان الحدوث مثلاً يمكنه أن يثبت أنّ لهذا العالم خالقاً قديماً، لكنّه غير قادر أن يثبت وحدانيّة هذا الخالق إلا بمعونة معطيات إضافيّة، من هنا نجد أنّ الذين استخدموا هذه الطرق الآفاقيّة والأنفسيّة حاولوا إثبات الصانع المتصف ببعض الصفات، وبتعبير بعضهم: يمكن بهذا الطريق إثبات تمام صفات الكمال الموجودة عند المخلوقات بحدّها الأعلى، فعندما يُثبت هذا الفريق وجود الصانع فسوف يثبت ضمنيّاً بعض صفاته لا تمام صفاته، على خلاف الفريق الأوّل فإنّه عندما يثبت وجود واجب الوجود فهو يُثبت بنفس دليل الوجود تمام صفات هذا الموجود الواجبي.
بناءً عليه، فعندما يثبت السيّد محمد باقر الصدر في (الأسس المنطقية للاستقراء: 499 ـ 514) وجود الباري تعالى عبر المنهج الاستقرائي، فهو يستخدم النوع الثاني من الطرق التي تثبت الصفات، لهذا نجده يعبّر بإثبات الفاعل العاقل، أو إثبات الصانع الحكيم، ويقصد بذلك هنا إثبات وجود الصانع الذي هو شيء مغاير للطبيعة التي هي غير عاقلة (وقد شرح بنفسه معنى الحكمة عندما قابلها بعدم العقل ولا الوعي، وذلك في ص 502)، ولا يثبت دليل السيد الصدر تمام الصفات الكماليّة للباري بما فيها صفة الحكمة بالمعنى الثاني، أيّ الهادفيّة والعدالة والخيريّة والكماليّة في كلّ شيء، فإنّ طبيعة دليله على إثبات وجود الصانع لا يسمح له بذلك، لهذا فهو ـ ككثير من الفلاسفة والمتكلّمين ـ بحاجة لخوض مرحلة ثانية لإثبات تمام الصفات الكماليّة الأخرى، وحيث إنّه لم يكن بصدد ذلك لهذا كفاه هذا الدليل في إثبات الصانع الفاعل العاقل. وبرهان إثبات الفاعل العاقل بالاستقراء يكفي فيه إثبات العاقليّة لا إثبات تماميّتها من سائر الجوانب، بمعنى لو أنّنا عثرنا على كتابٍ في الرياضيات، فإنّ المنهج الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يثبت لي أنّ هذا الكتاب لم يأت صدفةً بحيث اجتمعت حروفه في الهواء صدفةً لتنزل على صفحاته فيخرج كتابٌ رياضي معقّد ورائع ومذهل، وهنا لو فرضنا أنّ في هذا الكتاب خطأ أو أكثر في بعض المعادلات الرياضيّة فهذا يثبت خطأ الكاتب (الفاعل العاقل) لكنّه لا يلغي فرضيّة أنّ هذا الكتاب قد جاء بفعل فاعلٍ عاقل لا من الصدفة وبلا علّة أو من ذاته أو من فاعل لا عقل ولا وعي ولا إدراك له، وهذا ما كان السيد الصدر بصدد إثباته، فحتى لو فرضنا أنّ الزلازل والبراكين وغيرها تعدّ مشاكل في صنع الكون (وكثير من الفلاسفة المتأخّرين لهم وجهة نظر في برهان النظم أساساً) لكنّ الكون رغم وجودها يظلّ يساعد بطريقة المنهج الاستقرائي على إثبات الفاعل الصانع العاقل لهذا الكون، أمّا إثبات تمام الصفات الكماليّة الأخرى له كالعدل والخيرية المطلَقَين فيحتاج لاستئناف أبحاث جديدة في الصفات، وهناك لابدّ للسيد الصدر من أخذ ما أشرتم إليه بعين الاعتبار لكي تكتمل الصورة عنده، فالحكمة بمعنى العقل شيء، فيما الحكمة بمعنى الهادفية والخيريّة والعدالة والكمالية المطلقة شيء آخر، فلا يرد إشكالكم على السيد الصدر في الأسس المنطقيّة للاستقراء، وإن كان وارداً في أصل بحث الصفات لا سيما على الطريق الثاني، إذا سلّمنا مع الصدرائيّين بسلامة طريقهم الأوّل.