• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
الاجتماعية والأخلاقية التاريخ والسيرة الفقهية والشرعية الفكرية والثقافية الفلسفية والكلامية القرآنية والحديثية
# العنوان تاريخ النشر التعليقات الزائرين
117 ألا تنفي آية (وأكثرهم للحقّ كارهون) مبادئ التعدّدية والديمقراطيّة؟ 2014-05-12 2 13667

ألا تنفي آية (وأكثرهم للحقّ كارهون) مبادئ التعدّدية والديمقراطيّة؟

السؤال: 1 ـ في أكثر من مكان صرّحتم بأنّ أكثر الناس معذورون، وبنيتم على ذلك اتجاهكم في التعدّدية الدينية. ألا يتعارض هذا المبنى مع التصريحات القرآنية التي تذمّ الكثرة، مثل قوله تعالى: ﴿وأكثرهم للحقّ كارهون﴾، مع قوله تعالى: ﴿هل امتلأتِ فتقول هل من مزيد﴾، فإنّ الظاهر هنا استحقاق المجموع لشكل من أشكال العقاب الجماعي؟ كيف التوفيق بين الأطروحتين؟ (عمّار، العراق).

2 ـ ما رأيكم بمن يستند لقوله تعالى: ﴿وأكثرهم للحقّ كارهون﴾، لإبطال الديمقراطية وأنّها فاسدة في الإسلام؟ (نوال، لبنان).

 

الجواب: ليس هناك تناقض بين ما ذكرتموه من آيات كريمة وبين فكرة التعدّدية الدينية بمعنى المعذوريّة، أو فكرة الديمقراطية بمعنى تداول السلطة بمرجعيّة الشعب، وذلك يتضح من خلال فهم مجموعة أمور، بعضها يتعلّق بالتعددية والديمقراطيّة معاً، وبعضها يختصّ بالتعدّدية، وبعضها يختصّ بالديمقراطية، فأرجو ملاحظتها جيداً:

1 ـ إنّ فكرة التعدّدية بمعنى المعذوريّة لا تقول بأنّ أغلب البشر معذورون، إذاً فهم لا يدخلون النار أو أنّهم يدخلون الجنّة، بل هي تقول بأنّ اليقين الذي يحصل عليه عامّة الناس بالاعتقادات التي عندهم يكون في كثير من الأحيان موجباً لعذرهم أمام الله، لكنّ هذا لا يمنع دخولهم النار، فإنّ دخول النار ليس بموجب عدم الإسلام فقط، بل بموجب عدم الطاعة أيضاً وارتكاب القبائح، فمن يرتكب الجرائم كالقتل والسرقة والاختلاس وعدم عبادة الله وكلّ ما يأمر به العقل العملي ويرى هو في قرارة نفسه أنّ الله لا يقبل به حتى لو كان مسيحيّاً أو يهودياً، فإنّ ارتكابه له موجبٌ لحسابه؛ إذ الحجّة في مورده قد ألقيت عليه، والمفروض علمه بالجرم الذي يرتكبه. وليست قضية الثواب والعقاب بالتي تقف فقط عند حدود الاعتقاد، بل هي تطال جوانب الحياة الأخرى، فكم من أشخاص ارتكبوا جرائم أو جنايات أو مظالم في حقّ الآخرين، وهم يدركون بقرارة أنفسهم ـ ولو عبر العقل العملي أو عبر الإيمان الديني غير الإسلامي ـ بأنّ ذلك غير صحيح، وبأنّه معصية لله سبحانه، مهما فهموا الله تعالى، فلو ألغينا اليوم قضية إشكالية الاعتقاد لم تنته مسألة الثواب والعقاب، بل هناك الكثير من الأعمال والتصرّفات التي يقوم بها البشر وتستحقّ الوقوف عندها، وقد كنت أشرت لذلك في دراستي حول التعدّدية الدينية، فنحن عندما نقول بالمعذورية نقول بها بملاحظة الجانب الاعتقادي بالديانات أو المذاهب داخل الدين الواحد، لا بملاحظة تمام الأمور التي توجب العقاب عند الله أو الثواب.

2 ـ إنّ آية ﴿هل امتلأتِ فتقول هل من مزيد﴾ لا تفيد سوى كثرة أهل النار، وهو ما دلّت عليه آيات أخَر أيضاً، لكنّ كثرة أهل النار لا تعني أكثريّة أهل النار، كما لا تعني أنّ هذه الكثرة جاءت من الكفر فقط ولو نتيجة الجهل المركّب، بل تعني أنّ النار سيدخلها عدد كبير جدّاً من البشر؛ لأنّهم كانوا مقصّرين، وكانوا معاندين، وكانوا مرتكبي معاصي كثيرة وهم يعلمون بذلك، وكانوا غير عادلين في الحياة في حقّ غيرهم، وغير ذلك من الأمور. والقائل بالتعددية لا يقول بأنّ جهنّم سوف تصبح مركزاً للسياحة خالية من الناس، وكأنّها تراث ثقافي لا أحد يسكنه، بل يقولون بأنّ دخول جهنّم لا يكون بسبب الاعتقاد الخاطئ غير الناشئ عن تقصير في البحث، وإنّما عن يقين به لا يحتمل الخلاف. فالناس يتصوّرون أنّ مدرسة التعددية تلغي العقاب يوم القيامة، نتيجة حصرهم العقوبات بالاعتقادات، والحال أنّها لا تفعل ذلك، بل تسعى لتحديد نوع المعاقَب، فهل كلّ مسيحي يدخل جهنّم لأجل أنّه مسيحي أم لا؟ أمّا دخوله لكونه عاصياً لله بملاحظة أفعال هو يعلم ـ ولو حسب الديانة المسيحيّة ـ بكونها معصيةً فهذا شيء آخر، وكذلك تركه للإسلام نتيجة إهماله العمدي عن تقصير لقضاياه مع احتماله الحقّ في هذا الدين. أرجو التنبّه لهذا الأمر جيداً.

إنّ المعذورية التي ينادي بها التعدّدي هي عذر الإنسان تجاه الخلل الاعتقادي الناشئ عنده لا عن تقصير، مع ادّعاء أنّ الخلل الاعتقادي الذي من هذا النوع ليس قليلاً في البشر. وليست المعذورية هي دخول الجنّة مطلقاً ولو ارتكب أفظع الجرائم أو قصّر في الجانب العقدي. وبجملة أخرى: إنّ التعدّدي لا يقول بأنّ كلّ الناس أتقياء صلحاء صالحون كاملون يدخلون الجنّة، بل هو يقول بأنّ الاعتقادات الخاطئة لا تُثبت ـ بالضرورة ـ أنّ صاحبها سيءٌ طالح فاسد يستحقّ النار، خصوصاً لو اختار هذا التعدّدي النظرية التي تقول بوجود الواسطة بين الجنّة والنار، بحيث إنّ بعض الناس لا يدخلون الجنّة، ولكنّهم لا يعذّبون في النار، كما لم يمانع عن هذا المبدأ بعض العلماء كالمحدّث البحراني والسيد الخميني (انظر: الحدائق 2: 203؛ وكتاب الطهارة 3: 469 ـ 470)، وإن كان في هذا الرأي ـ لا عذاب ولا ثواب ـ نظرٌ وبحث، تعرّضتُ شخصيّاً له في بحوثي المتواضعة حول أحكام ولد الزنا في الشريعة الإسلاميّة.

3 ـ إنّ آية ﴿وأكثرهم للحقّ كارهون﴾ تعدّ من الآيات التي كثر الاستناد إليها في الدراسات الدينية وفي قضايا الفقه السياسي، واعتبر بموجبها أنّ أغلب البشر يكرهون الحقّ، ويمكننا هنا التوقّف عندها سريعاً؛ مع كونها تستحقّ الكثير من الكلام، لكنّني أطرح بعض الأفكار هنا للتداول:

أولاًُ: هناك سؤال محيّر ومثير يتعلّق بهذه الآية الكريمة وبمجموعة من الآيات الأخَر، في الموضوعات المختلفة، وهي أنّ الضمير في (أكثرهم) إلى من يرجع؟ نحن عادةً ما نقوم باقتطاع المقطع المذكور، ثم نسبة الضمير إلى البشر عامّة، فتكون النتيجة أنّ أغلب الناس يكرهون الحقّ، لكنّنا لو لاحظنا السياقات القرآنية في هذه الآية وتأملنا جيداً، فقد نجد أنّ الضمير هنا يرجع إلى قريش والكافرين الذين واجههم النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فلنلاحظ معاً الآيات الكريمة حيث تقول: ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لاَ تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المؤمنون: 62 ـ 73)، فليست الآية مسوقة مساق قانون بشري عام، بل طبيعة الضمائر تحكي عن وقائع خاصّة بقوم تتمّ مواجهتهم. وهذه الإشكاليّة التي نثيرها للتفكير ستطيح بكلّ التحليلات التي قدّمها بعضهم في قضية الديمقراطية والتعددية ونقدهما، انطلاقاً من هذه الآية الكريمة. وتحلُيلنا لا ينفي تحقّق نفس الوصف في حقّ أممٍ أخرى غير قريش ومن حولها (تواجه الحقّ وأمامها وقائع دامغة كالمعجزة وغيرها مثلاً)، لكنّه يعطّل إمكانية استفادة جعل نصّ الآية الكريمة بمثابة قانون إنساني بشري عام في الخلق وفي جميع الحقائق أيضاً، وراجعوا كلمات المفسّرين والنحاة المعربين لكتاب الله، لتجدوا طبيعة الفهم اللغوي في هذه الآيات، وفي هذه الآية كلام كثير لا يفسح المجال لنا بتناوله، ولو أردنا جعلها عامّة مطلقاً لكان يفترض أخذها في مساق التعليل بقانون عام، مثل أن يقول: إنّكم تكرهون الحقّ، والأكثر يكره الحقّ، فالجملة الثانية جاءت في مساق بيان قانون عام، يجعل الجملة الأولى من مصاديقه، وهذا غير ما نحن فيه، فتأمّل جيداً.

قد تقول: على هذا سوف يكون القرآن خاصّاً بعصر النبيّ فقط، ولن نخرج باستنتاجات عامّة منه!

والجواب: هذا ليس صحيحاً، فكما أنّ آيات القصص القرآني وبعض آيات وقائع العصر النبوي نأخذ منها الكثير من العبر رغم حكايتها عن وقائع جزئيّة وتوصيفات جزئية لأقوام، لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ ما جاء فيها يصبح بياناً لتوصيفٍ بشري عام، فمثلاً قوله تعالى: ﴿الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ‏ الْأَعْرابِ‏ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ‏ الْأَعْرابِ‏ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ… وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ‏ الْأَعْرابِ‏ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى‏ عَذابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة: 97 ـ 101). فهل نستطيع الحديث عن منافقين من أهل المدينة اليوم لأجل هذه الآية القرآنية مثلاً أم أنّ هذه الآيات نزلت في وقائع خاصّة، لكنّنا نستطيع أخذ العبر والدروس منها في إطار القضيّة المهملة لا في إطار توصيف عام؟ وهكذا الحال في الأحكام الشرعيّة بمقتضى قانون الاشتراك.

وخلاصة القول: إنّ هذه الآية الكريمة توصيفٌ للمجتمع الذي كان يواجه النبيّ الأعظم، وليست توصيفاً لقانون بشري عام في الخلق، وهذا التوصيف للمجتمع العربي المعارض للنبي يمكن تعميمه في الحالات المشابهة، وهذا لا ضير فيه، لا اعتباره قانوناً عامّاً في تفكير البشر.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِ‏ كارِهُونَ﴾ (الزخرف: 74 ـ 78). فهذه الآية:

أ ـ إمّا خطاب من مالك خازن النار لمن هم في جهنّم، فيُراد أنّ أكثر أهل جهنّم دخلوها من خلال كراهتهم للحقّ (وهذا غير أنّ أكثر الناس يكرهون الحقّ)، وقلّةٌ منهم دخولها لانحرافهم عن الحقّ ولو لم يكرهوه، بل طمعوا في غيره لمصالحهم مع حبّهم له وعدم كرههم.

ب ـ أو أنّها خطاب مستأنف موجّه إلى كفّار عصر النبيّ، ويكون المراد: لقد جئناكم بالحقّ ولكن أكثركم ـ أيّها الكافرون بنبوّة محمد من قريش وأعوانها ـ كارهون للحقّ فاسدون في أخلاقكم في التعامل مع الحقيقة، وهذا لا يفيد بيان قانون بشري عام مطلق في الزمان والمكان.

نعم، الآيات التي تتحدّث عن أنّ أكثر الناس لا يشكرون أو لا يعلمون أو لا يعقلون أو نحو ذلك هي المهمّة في الموضوع هنا، وليس مثل هذه الآية الكريمة، فينبغي التمييز بين النصوص القرآنيّة. وما أدّعيه هنا في هذا التنويع في ألسنة الآيات قد يعدّ ـ لو قبل به شخصٌ ـ مفتاحاً أساسيّاً في فهم النصّ القرآني من وجهة نظري المتواضعة، ويجب دراسته بالكثير من التوقّف، وليس هو بدعاً من القول، فقد انتبه إليه بعض علماء الانسداد الأصولي ـ كالميرزا القمّي ـ في مجال الخطابات فقط مثل: (يا أيّها الذين آمنوا)، ولم يعمّموه لمجال أوسع كمجال الضمائر ونحوها.

ثانياً: لو تغاضينا عن هذه المشكلة المتقدّمة، فإنّ الآية لا تريد أن تقول بأنّ كلّ حقّ فإنّ الأكثرية ضدّه، كيف وأصل الإيمان بوجود الله ظلّ مؤيَّداً برأي أكثرية البشر عبر التاريخ، ومنكرو أصل وجود الله هم الأقليّة القليلة دوماً، وكثير من الأمور الحقّة يرضى بها الناس ولا يكرهونها أبداً من أساسيات العقل العملي والضمير وغير ذلك. بل مراد الآية أنّنا لو حسبنا الظروف في مجمل ما هو حقّ، فسوف نجد أنّ الناس بطبيعتها تميل لمصالحها، ويثقل الحقُّ عليها، لا أنّ كلّ حقّ إذن فأغلبية الناس ضدّه. هذا إذا جعلنا الألف واللام في (أكثرهم للحق) للجنس، أي مطلق الحقّ، لا للعهد، أيّ الحق الذي هو القرآن، أمّا لو أخذنا الحقّ هنا للعهد بمعنى القرآن فستختلف النتائج (ولن يكون معنى ـ على تقدير إرادة معنى القرآن من الحقّ ـ لنقد الديمقراطية بهذه الآية، إذا فسّرنا الديمقراطية بتداول السلطة على أساس الانتخاب، لا ما إذا فسّرناها بالاستفتاء على أصل حاكميّة أو صحّة الشريعة الإسلامية للحكم في مقابل عدم الاختيار، فأرجو التأمّل في هذه النقطة).

وبعبارة ثانية: الآية تفيد أنّه: ليس كلّ ما تراه الأكثرية وتميل إليه هو حقٌّ، لا أنّها تريد أن تقول: كلّ ما تراه الأكثريّة وتميل إليه فهو باطل، فليلاحظ جيداً.

ثالثاً: إنّ غاية ما تفيده الآية الكريمة ـ بعد غضّ النظر عن ما تقدّم ـ هو عدم الحقّ في رأي الأكثريّة، لكنّ ذلك لا يعني عدم الأخذ بقول الأكثريّة النسبيّة، أو عدم تباني الناس على تصريف أمورهم بالأكثر النسبي، فلو كانت الآية مسوقة على نهج القانون البشري في الخلق، فهذا يعني أنّ أكثر الخلق ضالّ، لكن لا يعني أنّ أكثر المسلمين هم ضلّالٌ أيضاً، حتى نمنع عن تداولهم السلطة بالأكثريّة، فكما أنّ قول أكثر الفقهاء حجّة لحجيّة الشهرة عند بعض الأصوليين، دون أن يجدوا في هذه الأكثرية دليلاً على بطلان قول مشهور الفقهاء، كذلك الحال فيما نحن فيه، فلو كانت الآية دليلاً على مخالفة أكثر الخلق للحقّ، فهي ليست دليلاً على أنّ ما يذهب إليه أكثر أهل الخبرة باطل، ولا أنّ ما يذهب إليه أكثر الفقهاء باطل، ولا أنّ ما يذهب إليه أكثر الناخبين المسلمين باطل، بل مفادها بطلان ما يحبّه أكثر الخلق (كلّ الخلق)، أمّا لو أخذنا الأكثر النسبي فستكون النتائج كارثيّة، لو كان القانون عامّاً، فإذا قلّد أكثر الشيعة مرجعاً فسيكون ذلك دليل عدم حقيّة مرجعيّته، وإذا قال أكثر الفقهاء بحكم فسيكون ذلك دليلاً على بطلان هذا الحكم، وهذا لم يقل به أحد على الإطلاق، والآية بعيدة كلّ البعد عنه، لهذا لا ربط لها بالأكثريات النسبيّة حتى نبطل بها تداول السلطة برأي الأكثرية فيما بين المسلمين، فتأمّل جيداً في أطراف الموضوع. فالآية إمّا نفسّرها بالشكل الذي اخترناه، أو نقول بأنّ أغلب الخلق كلّه يكرهون الحقّ (أو الحقّ الذي هو الدين الصحيح)، ومن ثمّ لا علاقة لها بالديمقراطية بمعنى تداول السلطة بالانتخاب.

رابعاً: إنّ الآية تفيد كراهة الأكثر للحقّ، وهذه الكراهة إمّا أن نفهمها كراهةً فعليّة، أو نفهمها كراهة أعم من الفعلية والتعليقيّة، والمقصود من ذلك أنّ كراهة الشيء حالةٌ نفسيّة متفرّعة على المعرفة بهذا الشيء، فأنت تعرفه ثم تكرهه، أمّا لو لم تكن تعرف هذا الشيء أساساً، فلا كراهة هنا، إذ هي سالبة بانتفاء الموضوع، وهكذا لو عرفت شيئاً آخر بظنّ أنّه هو هذا الشيء، ثم كرهته، فهنا لا تكون قد كرهت الشيء الأصليّ، بل كرهت هذا الذي ظننته هو الشيء الأصلي. وبناءً عليه، فعندما نقول بأنّ أكثر الناس كارهون للحقّ، فهذا يعني أحد احتمالين:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد بالكراهة هو الكراهة الفعليّة، فيكون المعنى: إنّ أكثر الناس الآن يكرهون الحقّ، وهذا يتفرّع على معرفتهم بهذا الحقّ حتى يكرهونه، فإذا عرفوا بعض الحقّ فكرهوه، قلنا: إنّهم يكرهون هذا الحقّ، أمّا لو لم يعرفوا البعض الآخر من الحقّ، فلا معنى لأن يكرهوه أو لا يكرهوه، إذ الكراهة الفعليّة فعلٌ نفساني قائم على التصوّر المسبق كالإرادة والحبّ تماماً.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد أنّ طبيعة الناس بحيث لو عرفت الحقّ لكرهته، فهنا تكون الكراهة تعليقيّةً، أي معلّقةً على معرفة الحقّ، فتسعون بالمائة من الذين يعرفون الحقّ ـ ولو في المستقبل ـ سوف يكرهونه، وفي هذه الحال لا يمكن محاكمة الناس قبل تحقّق الكراهية منهم؛ لأنّ المحاكمة على أساس الكراهة التعليقية هي محاكمة على الجرم قبل تحقّقه، فلابدّ للمحاكمة والعقاب من فرض تعرّفهم على الحقّ وحصول الكراهة الفعليّة في هذه الحال.

وهنا نقول: إنّ التعدّدي يعتبر أنّ الحقيقة وإن كانت جليّةً في بعض تجلياتها، لكنّها ليست كذلك في كلّ تجلياتها، فصحّة بعض النبوات مثلاً ليست مسألة جليّة لكلّ الناس، حتى لو كانت واضحةً عندك، والحقيقة ليست بمتناول يد الخلق جميعاً بعد عصر النبوات، وهذه نقطة مهمّة يثيرها التعدّدي، إذ يقول بأنّ عصر النبوات وعصر الوحي وعصر المعجزات يجب أن نميّز بينه وبين عصور الغياب، فعندما أكون مع موسى عليه السلام على شاطئ البحر، ثم أرى ـ وفي ذلك الزمان ـ أنّ موسى يضرب البحر بعصاه فينفتح، فيكون كلّ فرق كالطود العظيم، ففي هذه الحال ستكون الحقيقة جليّةً غالباً، أمّا بالنسبة لي اليوم حيث لا بحر ينفتح، ولا عصى تصبح حيّةً، وحيث يتوه كبار العلماء والمفكّرين في قضايا اللغة والقرآن والحديث والتاريخ والفلسفة والكلام، وتتشابك المعطيات، فإنّ حالة المعرفة سوف تختلف، فلن تظهر الحقيقة لي دوماً بالشكل الذي ظهرت لمن عاين حضور الغيب في عصر النبوّات، إنّ أولئك الذين رأوا المعجزات بأمّ أعينهم ثم كذّبوا يستحقّون ذمّاً عظيماً، بحجم الذمّ الذي وجّهته لهم نصوص القرآن الكريم؛ لأنّ موقفهم الرافض موقفٌ غريب للغاية، ولو عشناه اليوم فسوف نجد أنّه غريب حقّاً، لو جاءنا اليوم فقيرٌ من قرية نائية ولا خبرة له بأيّ علم من العلوم، ثم قام بادّعاء النبوّة، وشقّ القمر أمام أعيننا بحيث أثبتت العلوم ذلك، أو فتح البحار والأنهار، أو أوقف الرياح أو حرّكها، فكابرنا، فسيكون موقفنا غريباً حقّاً وغير مبرّر لأغلبنا على الأقلّ، أمّا الذي لا يعيش في حياته هذه الأمور أبداً، وإذا حصلت كرامةٌ هنا أو هناك فإنّ الناس تختلف أشدّ الاختلاف في حصولها أساساً وعدم حصولها، فمن الطبيعي أن لا تكون صورة الحقّ واضحةً أمامه في كثير من الأحيان. التعدّديُ يقول بأنّ هذا الإنسان لا يمكن أن أحاكمه كما أحاكم أولئك الذي واجهوا النبوّات والمعجزات وواضحات الأمور في العصر الغيبي، لا في العصر الغيابي، حيث نحن فيه اليوم، غياب الوحي وغياب المعجزة والتباس الأمور، والملاحظة التي يسجّلها التعدّديون اليوم على المدرسيّين في الفكر الديني هي أنهم لم يميّزوا بين العصور، وأسقطوا الأمور بطريقة غير صحيحة على الأزمنة المختلفة، فكثير من الناس اليوم لا يكرهون الحقّ كراهة فعليّة، لا لأنّ نفوسهم صارت صالحة، بل لأنّ الحقّ عند كثيرين غير واضح، ولو اتضح الحقّ لاتبعوه مثلاً، فإن لم يتبعوه قلنا بأنّهم أناس سيئون، ففكرة التعدّدي هي أنّ القضايا العقديّة الصحيحة يمكن أن تكون بالنسبة لكثيرين غير واضحة في عصرنا مثلاً، بحيث لا نستطيع تحميلهم مسؤولية الموقف منها، لا لأنّهم لا يكرهون الحقّ، بل لأنّهم لا يعرفونه حتى تقع الكراهة فيتمّ العقاب والذمّ.

وبجملة أخيرة: قد تكون هناك أمورٌ في عصرٍ ما من الواضحات وفي عصرٍ آخر غير واضحة، وبالعكس. ولا يمكن محاسبة الناس في العصر الثاني على واضحات الأمور في العصر الأوّل، وبالعكس، بل الحساب يكون على واضحات الأمور في كلّ عصر بحسبه، وبالواضح المشترك بين العصور والظروف. والتنبّه لهذه القضيّة مفتاح لفهم واقع البشر من وجهة نظر التعدّدي.

أكتفي بهذا القدر من التعليق، وللكلام مجالٌ آخر، نتركه لفرص أخرى إن شاء الله تعالى، حيث قد نتعرّض للآيات القرآنية التي تفيد معذوريّة الكثير من غير المسلمين من وجهة نظر المدرسة التعدّدية.

 

2 تعليق

  1. يقول علاء حسين الموسوي:
    2016-01-12 23:38:36 الساعة 2016-01-12 23:38:36

    سلام عليكم سماحة الشيخ حب الله

    ارجو الجواب على هذا السؤال من فضلك

    من هو خاتم الانبياء نحن نعلم جيداً ان خاتم الانبياء هو النبي محمد (ص له )

    لكن هناء اشكال قد طرح وهو ان خاتم الانبياء هو النبي عيسى (ع)

    وليس الخاتم (ص له ) وشكراً

    علاء الموسوي من العراق

  2. يقول superadmin:
    2016-01-13 07:03:41 الساعة 2016-01-13 07:03:41

    يرجى توضيح الاشكال وكيف صار عيسى عليه السلام هو الخاتم

إرسال

you should login to send comment link

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 36634145       عدد زيارات اليوم : 13315