السؤال: ما رأيكم في من يربط بعض النظريّات في العصمة المطلقة أو علم الإمام المطلق أو الولاية التكوينيّة التي لا يساعد على القول بها ظاهر القرآن الكريم وجوّه العام، بالمزاج الإيراني المولع بالبحوث الفلسفيّة والعقليّة المعقّدة من جانب، والميّال روحيّاً في الوقت ذاته إلى أجواء الميثولوجيا والمبالغة؟ ويدّعي أنّ هذه المواضيع لم تشتهر إلا بعد أن استولى التشيّع على إيران؟ (عماد الرفاعي، العراق).
الجواب: تارةً نتكلّم عن الموقف الرسمي الكلامي للشيعة (التراث الكلامي)، وأخرى نتكلّم عن النصوص الحديثية (التراث الحديثي):
1 ـ فإذا تكلّمنا على مستوى النصوص الحديثية، فنحن نجد الصورتين معاً في كتاب أصول الكافي مثلاً، ولا يمكن القول بأنّ أصول الكافي يقدّم الصورة غير المبالغ بها (بحسب تعبيركم) فقط، بل نجد في نصوصه معطيات وأحاديث تدعم كلا المزاجين. نعم، بعض الكتب الأخرى يتضح فيها المزاج العرفاني بشكل كبير جدّاً، لكنّ المشكلة هي التأكّد من وجود هذه الكتب الحديثية بهذه النسخ الموجودة بين أيدينا اليوم في تلك العصور، حيث هناك جدلٌ كبير في هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال كتابٌ مثل كتاب (بصائر الدرجات) وهو أحد الكتب العمدة والأساسيّة والمفصليّة في تكوين المفهوم الجديد للإمامة، هذا الكتاب يوجد بحثٌ ونقاش في أصل وجوده بهذه النسخة القائمة اليوم في العصور السابقة، حيث يدّعى أنّ أقدم نسخة له ترجع للقرن العاشر الهجري (العصر الصفوي)، وأنّ العلماء السابقين ما نقلوا عنه هذه المرويات، ولهذا لم أذكر هذا الكتاب، وإنّما ذكرت مثال كتاب الكافي نظراً لمعلوميّة النسبة، وإلا فلو أقحمنا مثل هذا الكتاب فسوف تكون الثروة الحديثية في هذا المجال أكبر.
2 ـ أمّا إذا تكلّمنا عن الموقف الرسمي للشيعة (التراث الكلامي)، فنحن نلاحظ تنامياً واضحاً لهذه المقولات منذ العصر الصفوي، وهو العصر الذي تحوّلت فيه غالبيّة الشيعة من العرب إلى غير العرب إذا صحّ التعبير، كما يقرّ بذلك الشيخ مرتضى مطهّري، في سياق نقده للفكرة التي تقول بأنّ تشيّع الإيرانيين جاء بوصفه ردّ فعل على غزو عمر بن الخطاب لبلادهم، حيث يرى أنّ غالبيّة الشيعة كانوا من غير الفرس حتى أواسط العصر الصفوي، وأنّ الغالبيّة الفارسيّة إنّما بدأت منذ ذلك الوقت، أي من أواسط العصر الصفوي (مطهري، مجموعه آثار 20: 89 ـ 90، وذلك في بحثه حول تاريخ الاجتهاد؛ وأيضاً في ج16: 113 ـ 115، في بحثه حول الإسلام وإيران).
فلو رجعنا إلى كتب متكلّمي الشيعة قبل ذلك، مثل كتب المفيد، والمرتضى، والطوسي، والحلبي، والحمصي، والعلامة الحلي، والمحقّق الحلي، وغيرهم، فضلاً عن علماء مدرسة قم القديمة مع الأشعري والصدوق وابن الوليد، ومدرسة بني نوبخت الكلامية، فنحن لا نجد غلبة هذا المزاج في فهم الإمامة، بل الإمامة هي نظام الحياة الدنيوية في الإدارة والعيش والدين وتطبيق الشريعة وحفظ الإسلام والمسلمين وغير ذلك، ولا أعني بهذا عدم وجود مقولات من هذا النوع، لكن من يقرأ كتب كلام الشيعة الإماميّة ويقرأ تعريفهم للإمامة خلال القرون العشرة الهجرية الأولى، فسوف يلاحظ امتيازاً في التوصيفات والمفاهيم والآراء والمزاج العام. أمّا منذ العصر الصفوي فالأمور تختلف تماماً، حيث المزاج الصوفي والعرفاني واضحٌ جدّاً بأدنى مقارنة بين عرفان ابن عربي وما تركه علماء الشيعة خلال القرون الأربعة الأخيرة.
ولهذا الأمر أسباب، وتوجد تحليلات كثيرة في هذا المجال يمكن طرحها، وقد لا يسعني الكلام لبسط القول فيها جميعاً، وأعرض صورتين مختلفتين في تقويم هذا المشهد:
الصورة الأولى: وهي ترى أنّ هذا التيار كان موجوداً في القرون الأولى غاية الأمر أنّ علم الكلام الإمامي تأثر بالمنهج العقلاني المعتزلي أو التقى معه، لهذا لم تشهد مثل هذه المقولات نموّاً في وسطه، فتراجعت مدرسة الإمامة الوجودية لصالح مدرسة الإمامة الإدارية والدينية، وهذا هو ما يفسّر عدم الانسجام بين التراث الحديثي والتراث الكلامي بشكل نسبي، ولهذا نجد أنّ المتكلّمين الشيعة أكثروا من نقد الحديث الكلامي معتمدين بشكل أكبر على العقل (بصورته الكلامية في القرون الأولى). أمّا جماع الإخباريّة والصوفية والفلسفة الصدرائيّة، فقد اتفق هذه المرّة ـ رغم اختلافه ـ على منح جرعة إضافية لهذا الفهم للإمامة. ويرى هذا الفريق المؤيّد لهذه الصورة في تفسير الموقف أنّ علماء الكلام الشيعي المتقدّمين قد ارتكبوا خطأ كبيراً بتأثرهم بمنهج المعتزلة أو ميلهم لطرائق المتكلّمين المعاصرة لهم، إذ ضحّوا بهذه الطريقة بثروة حديثية عظمى موجودة في تراثهم الإمامي؛ لأنّها لم تكن تنسجم مع خلفياتهم الفكريّة، واتهموها بالغلوّ والإفراط، وفي حقيقة الأمر إنّه لا غلوّ فيها، وإنّما علم الكلام الشيعي لم يكن قد نما بعدُ إلى حدّ استيعاب وفهم حقيقة هذه النصوص الحديثية التي تمّ إغفالها بشكل كبير. وما فعلته صوفيّة العصر الصفوي وفلسفته المتعالية إنّما كان إعادة بناء النظام الفلسفي الوجودي بطريقة وفّرت لنا فهماً جديداً للوجود، اكتشفنا معه أنّ تلك الروايات التي كان قد هجرها المتكلّم الشيعي ميدانيّاً في تعامله الكلامي كانت حقّاً، وكان من الخطأ عدم الاهتمام بها. إنّ فلسفة العصر الصفوي وتصوّفه كشفا التراث الحديثي وأعادا تظهيره والاهتمام به إلى جانب نشاط التيار الإخباري في تلك الفترة. فالموضوع ليس موضوع الإيراني وغير الإيراني من وجهة النظر هذه، بل هو موضوع تطوّر الدرس الفلسفي والعرفاني الذي كشف لنا عن حقّانية بعض المفاهيم التي فوجئنا باشتمال النصوص الحديثية منذ قديم الأيّام على كثيرٍ منها. وحتى لو لم نتهم العلماء السابقين أو نبيّن عجز فهمهم لقضيّة الإمامة ونقصانه، فقد يمكننا القول بأنّهم أغفلوا هذه الموضوعات في كتبهم الكلامية نظراً لانشغالهم بالجدل مع المذاهب الأخرى، في حين انّ هذه الموضوعات التفصيلية في حقيقة الإمامة تعود لجدل داخلي فلا معنى لطرحه في الجدل المذهبي، ولهذا غلب عليهم تغييب مثل هذه المقولات قياساً ـ وأشدّد على كلمة (قياساً) ـ بما حصل في العصر الصفوي إلى يومنا هذا.
الصورة الثانية: وهي ترى أنّ هذه النصوص الحديثية التي تقدّم الإمامة بوصفها ما يقوم عليه بناء الوجود، على قسمين:
القسم الأوّل: وهو النصوص الحديثية التي اشتملتها الكتب الحديثية الشيعية الثابتة النسبة إلى تلك القرون، كأصول الكافي وبعض مرويّاته.
القسم الثاني: النصوص الحديثية التي لم نشهد حضوراً لها أو ما يؤكّد نسبتها للقرون السابقة، مثل كتاب بصائر الدرجات وكثير من الروايات المتفرّقة التي وجدنا ظهورها منذ عصر ابن عربي وابن طاووس (وكلاهما في القرن السابع الهجري) وما بعد.
ويرى هذا الفريق أنّ تراث مدرسة الغلوّ الشيعي التي حاربها أهل البيت أشدّ المحاربة، قد عُزل وحوصر ورفض في الأوساط الشيعية بتوجيه من أهل البيت عليهم السلام، وأنّ بعض مرويّاته قد نفذت إلى الكتب الحديثية، تماماً كما نفذت بعض المرويّات المؤيّدة للتشيّع إلى كتب الحديث السنيّة، وأنّ علماء الشيعة في القرون الأولى قد ضعّفوا في بحوثهم الكلاميّة هذا النوع من الأحاديث وأهملوه، انطلاقاً من عدم انسجامه مع العقل تارةً، ومع القرآن الكريم أخرى. ولمّا ظهر ابن عربي وتنامى التصوّف منذ القرن الذي سقطت فيه الخلافة العباسية (القرن السابع الهجري)، تأثر بعض الشيعة المتأخّرين بالتصوّف تأثراً كبيراً يشبه تأثر بعض السابقين به من الغلاة، وعندما يلتقي التصوّف بالتمذهب تظهر المذاهب الباطنيّة، ولهذا حاول الغزالي أن ينفي تهمة الباطنية عن الصوفيّة، وميّز بين التصوّف والباطنية في مشروعه الصوفي والكلامي معاً، فالذي حصل هو أنّ بعض علماء الشيعة ـ وغالبيّتهم من الإيرانيين ـ تشرّبوا الثقافة العرفانية والفلسفية الميّالة للتصوّف، وآمنوا بها أشدّ الإيمان، اتباعاً منهم لابن عربي ومدرسته، وكانوا أفراداً قليلة كمثل سيد حيدر الآملي والسهروردي وغيرهما، وفي العصر الصفوي قوي هذا التيار لأنّ الصفويين هم في الأساس جماعة صوفيّة كانت تعيش في الشمال الغربي لإيران، فتحوّل العصر الصفوي إلى عصر حاضن للتصوّف والعرفان، وظهرت الكتب المنحولة غير المعلوم تاريخها، فوظّفها هؤلاء للجمع بين التصوّف والتشيّع، وذلك لهدفين: أحدهما: حفظ نزعتهم الصوفيّة في المناخ المذهبي الشيعي الذي يرفض التصوّف منذ الطوسي والمفيد، فجعلوا التصوّف في خدمة المذهب، لاسيما وأنّه كانت بينهم وبين الإخباريين منازعات في إصفهان. وثانيهما: حفظ نزعتهم المذهبيّة من خلال تعظيمها وعملقتها عبر الأدوات الصوفيّة في نظرية الإنسان الكامل لابن عربي، وبهذا التقى التمذهب مع التصوّف في العصر الصفوي في إيران؛ لأنّ الإيراني هو الذي نشّط هذا اللقاء. ومن هنا يتهم هؤلاء الإيرانيين بأنّهم المسؤولون ـ بحسب نزعاتهم الباطنيّة التاريخية الموروثة ـ عن صوفنة التشيّع وعرفنته وعملقته، وإدخاله في غنوصيّة وباطنية مخيفة، موظّفين بعض الأحاديث الآحادية (وهم أساساً لا يرون حجية لمثل هذه الظنون) لخدمة أفكارهم في المناخ الشيعي. ولهذا يقولون بأنّ السهروردي في (الحكمة الإشراقية ونظرية النور) إنّما صاغ حكمته الإشراقية على أساس الكتب الفارسية القديمة التي حصل على نُسخ منها وروّجها بصيغة إسلاميّة في المناخ الإسلامي، ولهذا نجد منذ عصره حديثاً عن نظريات من يسمَّون بالفهلويين الإيرانيين، وهم حكماء فارس القدماء، ونظريّاتهم ما تزال تثار إلى اليوم في بعض الكتب الفلسفية والعرفانيّة بين الشيعة وتنسب أيضاً إليهم، وهناك دراسات حول هذا الموضوع المتعلّق بالسهروردي يمكن مراجعتها في كتب المختصّين.
وخلاصة القول: إنّ الصورة الثانية ترى أنّ التشيّع لم تكن له علاقة بكلّ هذه المنظومة الغالية، وإنّما هو مفاهيم أبسط من هذا بكثير، لكنّ بعض التراث الحديثي القليل أضيف إلى تراث مجعول غير معلوم النسبة في العصر الصفوي، وهو العصر الذي شهد نموّ التصوّف والفلسفة المتعالية عند الإيرانيين الميّالين بذاتهم لمثل هذا المزاج، فالتقت هذه العناصر لتنتج تشيّعاً جديداً، ليس هو إلا الغلوّ الذي كان في العصور السابقة، فغلوّ العصور السابقة ـ من وجهة النظر هذه ـ هو التشيّع الرسمي الصفوي بهذا الفهم للإمامة، وهو الفهم الذي لعب أمثال العلامة المجلسي وصدر الدين الشيرازي دوراً كبيراً فيه، كلّ من موقعه.
هاتان قراءتان للموضوع تختلفان أشدّ الاختلاف في فهم تطوّرات نظرية الإمامة عند الشيعة، ففيما يرى الفهم الأوّل أنّنا شهدنا منذ العصر الصفوي يقظةً أعادتنا إلى تراثنا الحديثي وأفهمتنا المعنى الحقيقي للولاية والإمامة، وأنّ متكلّمي القرون الأولى قد بخسوا الإمامة حقّها، أو فرضت عليهم الظروف ذلك. يرى الفهم الثاني أنّ التشيّع هو ذلك الذي كان يعيش في مناخه المتقدّمون، وأنّ بعض بقايا الغلو ظلّت موجودة في التراث الحديثي ، وما لبث العصر الصفوي بنزعته الصوفية والعرفانية أن استعان بهذا التراث الحديثي وبما أضيف إليه من كتب وروايات غير معلومة النسبة، فنتج تشيّع جديد آخر، لعب الإيرانيّون الدور الأكبر في صياغته منذ دخولهم أفواجاً في التشيّع في العصر الصفوي. وقراءة الباحث تختلف تبعاً لنظريّته العقدية في الإمامة. وهناك فهوم أخرى للموضوع لا حاجة للإطالة فيها.