السؤال: حينما نحلّل النصّ القرآني الذي يتمحور حول قصّة العابد وموسى بن عمران عليه السلام، نجد أنّ هذا العابد ـ وهو ليس نبيّاً أو رسولاً، لعلّه مساوٍ إن لم نقل أقلّ رتبة من الأنبياء والرسل، فضلاً عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام. إنّنا نجد أنّ من جملة الخصائص الربّانية التي اتصف بها هذا العبد الصالح، وكما نفهمه من السياق القرآني، ما يلي:
1 ـ إنّه كان مشرّعاً للأحكام الدينية، بل لنوع من الأحكام، وهو الأحكام الواقعيّة، وهي على مستوى خطير جداً، مثل قتل الغلام، بناء على جريمة الكفر المستقبليّة، ولعلّ ذلك الأب المؤمن والد الغلام لو قدّر له أنّه شاهد الخضر يقتل ولده، لقطّعه بأسنانه وشرب من دمه، دون أن تكتب عليه زلّة أو إثم؛ لأنّه وليّ الدم. هذا من جانب، ومن جانب آخر، إنّ هذا التشريع يتقاطع مع ما جاء في صحف إبراهيم وموسى وتوراتهم، وهذا ما يكشفه اعتراض موسى شديد اللهجة على العبد الصالح.
2 ـ إنّ هذا العبد الصالح كان يحوي في قلبه علماً يفوق العلم بما كان أو بما هو كائن أو بما سوف يكون، وهو علم ـ ما لم يكن لو كان كيف يكون ـ وهذا العلم يكشف عنه التعليل الذي قدّمه العابد لكليم الله. إنّ الغلام الذي قتله وانتهى أمره إذا عاش وبقى حيّاً سوف يكون طاغيةً كافراً يرهق أمه وأباه.
3 ـ إنّ الخضر كان عنده بعد لاهوتي، وإلا كيف تعلّم العلم اللدني، وهو ليس نبيّاً ولا رسولاً؟ وسؤالي هو: إذا كان هذا كلّه ثابت للعبد الصالح أوليس ـ ومن باب أولى ـ وكما يقول الأصوليّون من باب القياس بالأولوية، يكون ثابتاً لعليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي هو أفضل من العبد الصالح؛ لأنّه نفس النبي سيّد الأنبياء والرسل بنصّ القرآن الكريم؟ وستكون هذه الخصائص ثابتة له، وهي أحقيّته بالتشريع، ولو على ذلك النحو من التشريع الذي هو أخطر من التشريع الظاهري؛ لأنّه ناظر للعلل الواقعيّة، ومن كان على اطّلاع بالعلل الواقعيّة أو بالتعبير الأصولي ملاكات الحكم الشرعي الواقعي، فمن باب أولى يكون مشرّعاً للأحكام الظاهرية؛ لأنه مهيمن على منظومة العلل الواقعيّة والظاهرية التي تبنى على أساسها أحكام الله. كما أنّ علمه بما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا العلم وكما هو واضح، يستبطن العلم بما هو كائن وبما سوف يكون. وكذلك البعد اللاهوتي في شخصيّة علي عليه السلام. كيف تعلّقون؟ (دريد الجزائري).
الجواب: أولاً: من قال لنا بأنّ العبد الصالح شرّع الحكم من نفسه؟ هذه مجرّد مصادرة لا دليل عليها، فلعلّ الله أوحى إليه بهذا الحكم من قبل، وكان موجوداً فيما أعلمه الله به، تماماً كما أوحى الله الأحكام الشرعيّة للأنبياء الآخرين، وقد بلغ العبد الصالح من المرتبة أن أوحى إليه الله هذا الحكم، ولم يكن قد أوحى مثله إلى موسى، فأعلمه بهذا الحكم عبر العبد الصالح لا عبر الوحي المباشر، ما النافي لهذا الاحتمال؟ بل ما يعزّز هذا الاحتمال قول العبد الصالح في آخر الحوار: (وما فعلتُه عن أمري)، أي إنّ هذا الذي فعلته أمامك يا موسى لم يكن شيئاً من عندي، بل كان شيئاً من الله سبحانه وتعالى، فهذا يعزّز أنّ العبد الصالح كان مأموراً بمثل هذه الأمور، وكانت مشرّعةً بالنسبة إليه، لا أنّه هو الذي شرّعها وأنّ الله فوّض إليه أمر تشريعها.
ثانياً: كيف عرفنا أنّ هذا الحكم يتقاطع حال إعلانه من قبل العبد الصالح مع شريعة موسى وتوراته؟ فهل نحن نعرف أنّ موسى في هذه الرحلة قد كانت نزلت عليه التوراة بعدُ أم لا؟ هذا كلّه مجرّد افتراض، بل يمكن أن نقول بأنّ موسى قد انطلق في ردّة فعله من الحالة الطبيعية للإنسان الذي يستنكر قتل الإنسان الآخر، فحرمة القتل ثابتة بالعقل أيضا كما يقول الفقهاء، ما لم يكن لها مبرّر، وموسى لم يكن ملتفتاً للمبرّر الذي كان يملكه العبد الصالح. ولعلّ موسى لم يكن نبيّاً مرسلاً مبعوثاً للناس بدعوةٍ بعدُ عندما ذهب بهذه الرحلة، بل كان يوحى إليه كما يوحى إلى مريم ولو لم تكن نبيّة، ثم بعد ذلك بلغ رتبة النبوّة فبُعث لبني إسرائيل. فبأيّ دليل قرآني يمكننا نفي هذه الاحتمالات؟ وأنتم تتكلّمون عن دليل قرآني يثبت البُعد اللاهوتي وعلم الغيب، إذاً فيجب أن نثبت هذا كلّه بالدليل القرآني حتى يصدق أنّ ما قلتموه هو دليل قرآني صرف.
ثالثاً: لقد افترضتم أنّ علم العبد الصالح بمآل حال الغلام هو من نوع علم الغيب الذي أدرجتموه في العلم بما لم يكن لو كان كيف سيكون، مع أنّ النص القرآني لا يفيد علم العبد الصالح بمثل هذا الشخص، بل يفيد خشيته من أن يلحق بالوالدين المؤمنَين كفرٌ وطغيان من هذا الغلام، إمّا بظلمه لهما أو بجرّه لهما إلى الكفر الذي هو عليه؛ لشدّة حبهما له، على احتمالين في تفسير الآية الكريمة. والخشية ليست علماً بالضرورة، فالغلام ـ وهو شابٌ يافع ـ كانت تظهر عليه أمارات الانحراف، فحصلت الخشية للعبد الصالح أن يضلّ والديه أو يظلمهما، فأريد الحفاظ عليهما، في حين كان الغلام طاغيةً كافراً، وهذه الخشية سمحت للعبد الصالح أن يقتله، وليس في الآية أنّه علم أنّه سيحصل هذا من هذا الغلام. فإن قلت: فكيف جاز له قتله مع أنّه لم يرَ في نفسه سوى الخشية دون العلم؟ قلتُ: إنّ قتله إذا كان جائزاً في شريعة العبد الصالح بحسب ما أوحى الله تعالى إليه، فيجوز لو تحقّقت الخشية ويجوز لو تحقّق العلم، ففي حالة العلم يبقى هذا السؤال أيضاً، وهو أنّه كيف قتله مع أنّه سوف يُلحق الضرر بوالديه؟ أي إنّه قتله على جرمٍ لم يقع منه بعدُ، فالإشكال يأتي على افتراضي الخشية والعلم معاً، وما دام يحتمل أنّه في شريعة العبد الصالح يجوز قتل الشاب اليافع للعلم بأنّه سيفسد والديه لاحقاً، فمن الممكن إذاً أن يجوز في شريعة العبد الصالح قتله مع احتمال ذلك احتمالاً قويّاً موجباً للخشية، فما المانع إذاً من ذلك؟!
رابعاً: سلّمنا أنّ هذه الآيات تفيد أنّ العبد الصالح كان يعلم بحال الغلام لو كان كيف سيكون، لكنّ هذه القصّة لا تفيد علمه بالغيب بنحو مطلق، بل تفيد علمه ببعض الغيب، وهو غيب النفوس ومستقبل الأشخاص، إن لم نقل بأنّه يعلم بخصوص غيب نفوس الأشخاص الذين يلتقي بهم، فهذا هو أبعد مدى يمكن توسعة دلالة الآيات إليه، لكن هل يمكننا من قصّة العبد الصالح إثبات أنّه كان يعلم كلّ الغيب بما في ذلك ما يجري في كلّ العوالم أو أنّه كانت له الولاية التكوينية؟! فهذا قفزٌ من الخاص إلى العام ومن الأضيق دائرةً إلى الأوسع دائرة، ويحتاج إلى دليل، فإن قصدتم أنّه يعلم بعض الغيب فهذا لا يناقش فيه أحدٌ بحقّ الأنبياء والأئمّة، بل بحقّ بعض الأولياء أيضاً، وإنّما مركز النقاش هو قاعدة أنّ المعصوم هل يعلم الغيب إلا ما خرج بالدليل أم لا يعلمه إلا ما خرج بالدليل؟ وأين هذا من قصّة العبد الصالح؟! بل غاية ما يثبت أنّ عليّاً ـ عليه الصلاة والسلام ـ سيكون له العلم بنفوس الأشخاص الذين يلتقي بهم عندما يراهم، وأين هذا من فكرة العلم بالغيب بمعناها الإطلاقي الواقع محلّاً للتنازع بين علماء الكلام؟
خامساً: ماذا يُقصد من البُعد اللاهوتي في شخصية العبد الصالح، والذي افترضتم وجوده من حيث إنّه ليس بنبيّ ولا رسول؟ فإنّ قُصد أنّه كان مرتبطاً بالله تعالى يلقي الله في روعه الإلهام الصادق، أو يوحي إليه، كما حصل مع مريم الصدّيقة الطاهرة، فلا أدري من هو الذي ينكر هذا النوع من البُعد اللاهوتي عندما يثبت بدليل؟! بل بإمكاننا مباشرةً أن نذهب إلى قصّة مريم، فلعلّها تكون أوضح في الدلالة، وكذلك قصّة أمّ موسى مثلاً. وأمّا إذا قُصد من البعد اللاهوتي معنى آخر، وهو العلم بالغيب بالمعنى الوسيع والولاية التكوينيّة والتشريع الذاتي والواسطة في الفيض، فكيف نثبت ذلك من قصّة العبد الصالح بعد الذي تقدّم؟ ثم هل هناك أحدٌ ينكر البعد اللاهوتي في أشخاص الأنبياء والأئمّة؟! فمن يقول بعصمتهم فهو يرى نفوسهم غير عادية؛ إذ كيف يكون شخصٌ معصوماً عن الذنوب (أو حتى لو قلنا شخص معصوم عن الذنوب إلا مرّة أو مرتين في حياته)، كيف يكون هذا إنساناً عادياً؟ أليس في تكوينه تدخّلٌ إلهي؟ هل هي صدفة؟ فمن ينكر البعد اللاهوتي إذاً؟ نعم عندما نوسّع البُعد اللاهوتي ونجعله في أوسع مدياته فسنجد من ينكر هذه التوسعة، لا من ينكر أصل البعد اللاهوتي، الأمر الذي يقتضي منّا الدقّة في استخدام المصطلحات.
سادساً: افترضتم أنّ كل شيء حظي به شخص في العالم فلابدّ أن يحظى به الإمام علي عليه السلام بالأولويّة، وبصرف النظر عن وجود من يناقش في مسألة تفضيل أهل البيت على الأنبياء وليس مسألةً إجماعية عند الشيعة، كما يذكر الشيخ المفيد (413هـ) ـ على سبيل المثال ـ فيقول: (القول في المفاضلة بين الأئمة والأنبياء ـ عليهم السلام ـ: قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة (ع) من آل محمّد (ص) على سائر من تقدّم من الرسل والأنبياء، سوى نبيّنا محمّد (ص)، وأوجب فريقٌ منهم لهم الفضل على جميع الأنبياء سوى أولي العزم منهم ـ عليهم السلام ـ وأبى القولين فريقٌ منهم آخر، وقطعوا بفضل الأنبياء كلّهم على سائر الأئمة (ع). وهذا بابٌ ليس للعقول في إيجابه والمنع منه مجال، ولا على أحد الأقوال فيه إجماع، وقد جاءت آثار عن النبي (ص) في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وذرّيته من الأئمّة، والأخبار عن الأئمّة الصادقين أيضاً من بعد، وفي القرآن مواضع تقوّي العزم على ما قاله الفريق الأوّل في هذا المعنى، وأنا ناظر فيه، وبالله اعتصم من الضلال) (أوائل المقالات: 70 ـ 71)، بل لو فهمنا من جملة (وأنا ناظر فيه) أنّه لم يحسم خياره، فهذا سيعني أنّ الشيخ المفيد نفسه لم يتبنّ صراحةً تفضيل الأئمّة على كلّ الأنبياء.
بصرف النظر عن هذا كلّه، لا يعني التفضيل أنّ كلّ شيء حصل عند الأنبياء السابقين فلابدّ له من أن يكون لأهل البيت، بل غايته أنّهم أفضل عند الله تعالى من غيرهم، فقد لا يمنحون بعض الأمور لعدم ضرورتها بالنسبة إليهم، تماماً كما يقول العرفاء بأنّ رؤية الملائكة أو عالم المثال لا قيمة له عند العارف، بل لو كان له ذلك لكان ذلك حجاباً، فهذا سليمان النبي عليه السلام قد حاز مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، واستجاب الله له، ومعنى الاستجابة ـ بحسب سياق الآيات ـ أنّه لن يحظى أحد بمثل ملك سليمان. بل الأئمّة أنفسهم لو حازوا كلّ ما يحوزه الأنبياء السابقون للزم كونهم أنبياء، فالنبوّة من أعظم ما حازه الأنبياء أيضاً، مع أنّ الأئمّة ليسوا أنبياء، فمعنى التفضيل أنّ لهم عند الله درجةً أرفع، وهم أقرب إليه من غيرهم، وأصفى روحاً وأطهر سريرةً، وأنّهم أوكلت إليهم المهمّة العظمى، وهي وصاية النبوّة الخاتمة (وما أدراك ما وصايتها)، لكن ليس معنى ذلك بالضرورة أنّ كلّ ما عند غيرهم فهو عندهم، حتى لو كان النبي سليمان غنياً في المال فلابدّ أن يكون عليٌّ مثله، وإلا كان أنقص منه. نعم من الممكن أن نقول بأنّهم لو أرادوه مثلاً لصار عندهم لكنّهم لم يريدوه، فما ضرّ عليّاً لو لم يعلم بصنعة إصلاح أعطال السيارات؟ وما ضرّه لو كان فقيراً أو ليس له سلطان يمارسه على الإنس أو الجنّ؟ هل هذا يؤثر في مكانته عند الله تعالى؟ ولعلّه لهذا هو لا يطلبه من ربّه، ولا يعير له بالاً، ولو طلبه لاستجاب له سبحانه. إنّ الصفات والفرص التي تتوفّر للمعصومين لا ترجع كلّها إلى أشخاصهم بالضرورة، بل بعضها يرجع للظروف الموضوعية في حاجة هذا المعصوم لأن يكون غنيّاً، وحاجة ذاك لأنّ يكون عالماً بما في النفوس، وحاجة ثالث لأن يكون قويّ الجثّة والبنيان، وحاجة رابع لأن يكون زعيماً في قومه، فلو كان كلّ واحد منهم على عكس الآخر في هذا، فهذا لا يوجب سقوط الأولويّة كما هو واضح. نعم لو دلّ النصّ الحجّة على علمه بكل شيء للزم التسليم به، أمّا حيث يدلّ النصّ القرآني على عدم علم الأنبياء بالغيب إلا بعضه مما يحتاج لدليل لإثباته له في هذا الدائرة أو تلك، فإنّ إثبات التوسعة يحتاج لدليل أوسع يحلّ إشكاليّة الدلالات القرآنية.