السؤال: ما هو رأيكم بمن يقول في شعره ـ لأجل تعظيم الإمام الحسين عليه السلام ـ: يا حسين أنت كبير، يا حسين أنت عظيم، أكبر من الله أكبر والصلاة.. وقد انتشر هذا الشعر على وسائل الإعلام الطائفي لتشويه صورة مذهب أهل البيت عليهم السلام، نتيجةً لما قاله بعض المدّاحين في إحدى القنوات المحسوبة على التشيّع. فما صحّة الاعتقاد بمثل هذه العقائد؟ وهل فيها شركٌ بالله سبحانه وتعالى؟ وهل أهل البيت عليهم السلام أكبر من الله أكبر والأذان وقول لا إله إلا الله والدين؟ وكيف ينسجم ذلك مع قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (ما قلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلا الله)؟
الجواب: لقد سبق لي أن تابعت هذه القضيّة والجدل الذي وقع فيها، ووجدت أنّ بعض الناس فهم من هذا الشعر أنّ الحسين أكبر من الله، وهذا غير صحيح، فمن يستمع لهذا الشعر يعرف أنّه لا يريد أكثر من كون قضيّة الحسين والإمامة أكبر من الصلاة والأذان، وهذا لا يصنّف في ضمن الشرك أو الكفر بالله تعالى، ولا ينبغي التهويل في الأمور كثيراً لأغراض سياسيّة أو مذهبيّة أو طائفيّة، وقد رأينا عشرات الحالات التي من هذا النوع يصار إلى تصوير الأمور فيها بطريقة تشويهيّة أو مبالغ بها بحيث تخرج عن وضعها الطبيعي، من هنا فلا أجد أنّ هذا المقطع من الشعر تعبيرٌ عن كون الحسين أكبر من الله أو كونه شريكاً لله تعالى في خلقه أو تدبيره أو غير ذلك والعياذ بالله.
إنّما ينطلق مثل هذا الشعر من ثقافة موجودة عند كثير من الشيعة في تقديم قضيّة الإمامة على سائر الفروع الفقهيّة، كما تتقدّم قضيّة النبوة عليها عند جمهور المسلمين، فالإمامة أفضل من الصلاة والصوم والحجّ والخمس والزكاة والعمرة وغير ذلك، وهي أعظم ما نودي به في الأمّة مقارنةً بأكبر الفروع الشرعيّة العمليّة، بل قد اعتبرها بعضهم من أصول الدين التي تتقدّم بشكلٍ تلقائي عادةً على الفروع العمليّة في الدين الإسلامي نفسه، وهذا الرأي هو الذي يريد الشاعرُ أن يعبّر عنه، ولا يريد أن يقول بأنّ الحسين أكبر من كلمة التوحيد في الأذان، ولا من الرسالة التي ننطق بها في الأذان والإقامة، بل يريد أن يقول بأنّ الأذان والصلاة هما شعار العمل الصالح في الإسلام، والحسين أكبر منهما، بوصفه رمزاً للإمامة بكلّ قضاياها الكبرى التي يؤمن بها الشيعة.
نعم، ينتقل الموضوع هنا إلى أنّ هذه الفكرة، وهي فكرة أنّ الإمامة أكبر من فروع الدين برمّتها، هل هي فكرة صحيحة أم هي فكرة غير صحيحة؟ فمن حقّ فريق أنّ يقول بأنّ هذا المفهوم خاطئ ومنافٍ للنصوص القرآنيّة والحديثية، انطلاقاً من فهمه للنصّ الديني بمجمل أطرافه، ومن حقّ فريقٍ آخر أن يجتهد فيرى أنّ الإمامة أعظم من مختلف الفروع الفقهيّة والعمليّة والشعائريّة في الإسلام، وينطلق في ذلك من نصوصه التي يؤمن بها، ومن فهمه لمجمل أطراف النص القرآني والحديثي في هذا السياق، وهذا الخلاف مشروع، ولا أريد أن اُبدي فيه الآن رأياً، لكنّه لا يمتّ بصلة لقضيّة الشرك والتكفير حتى نمارس تهييجاً كبيراً للناس في ذلك، أو نحاول أن نقرأ الشعر بطريقة أخرى، وهي: الحسين أكبر من الله، أكبر والصلاة، بحيث يكون المعنى أنّ الحسين أكبر من الله ومن الصلاة؛ فإنّ الشعر ليس كذلك، وكلّ من يسمعه يعرف هذه الحقيقة بوضوح.
وليس همّي هنا أن أدافع عن هذا الشعر أو أفسّره، بل همّي أن ننتقل من هذه الحادثة / المفردة، إلى وعي منهج يقوم على:
أ ـ عدم اقتطاع النصوص بهدف تعظيم النصّ المقتَطَع، أو تقديمه بصورة غير دقيقة، وهي عمليّة تمارسها الكثير من المذاهب عادةً في حقّ بعضها.
ب ـ حمل المسلم على التفسير الأحسن لكلامه؛ إبعاداً للنفس عن اتهام الناس بالكفر أو بالشرك، فالاستعجال في الاتهام مشكلة عظيمة ابتُليت بها الأمّة، وما دام هناك محمل في هذا النص أو ذاك فلا بأس باختياره، نعم لو كان النصّ واضحاً فلكلّ إنسان الحقّ في الحكم عليه، ولست أرفع التهمة عن بعض الناس الذين أعتقد شخصيّاً بأنّ في كلامهم ما ظاهره الكفر أو الشرك هنا أو هناك، سواء قصدوه أم لم يقصدوه (دون أن أنصّب نفسي في الحكم على دينهم)، بل أقصد إلى أن نتريّث كثيراً في هذا الموضوع، ونلتمس المعاني الأحسن والأبعد عن الشبهة في فهم كلام المسلمين، ولو رأينا في كلامهم ما فيه شبهة فالأفضل أن نعظهم بتجنّب مثل هذه الكلمات، قبل أن نسرع إلى اتهامهم بالشرك على أساسها مع إمكان حملها على معنى لا ينافي التوحيد.
ج ـ أن نعرف أنّنا اليوم في عالم مفتوح، وقد انتهى زمن السرّ والعلن في كثير من الأمور، وأنّك عندما تكون في مجلسٍ هنا أو هناك فإنّ الكثيرين يرصدون ما تقول أكثر مما ترصد أنت نفسك وجماعتك فيما يقولون، فهذه حقيقة قاطعة واضحة تجلّت خلال العقود الثلاثة الأخيرة في صراع المذاهب فيما بينها، وساعد عليها انفجار المعلوماتية وتطوّر وسائل التواصل، وهذا يعني أنّ الكلام الذي يحتمل أكثر من معنى ينبغي ـ قدر الإمكان ـ السعي لتجنّبه؛ حذراً من حصول فهوم مغلوطة له، نتيجة الشحن الطائفي القائم في المنطقة. نعم لو كان الكلام واضحاً جليّاً ولكنّ الآخر يريد الاتهام كيف شاء والافتراء.. فلا ضير ولا تثريب على قائل الكلام، لكن ما دامت بعض الكلمات تحتمل وجوهاً في المعنى، وأحد وجوهها ملتبسٌ، وقد يخلق مشكلةً، فالأحسن تجنّب ذلك؛ حذراً من أن يُفهم الإنسان خطأ على مستوى موضوع التكفير والإيمان ونحو ذلك من القضايا الفائقة الحساسية والأهميّة.
ومن هنا دعوتي للكثير من الشيعة والصوفيّة والسلفيّة أن يتجنّبوا التباس الكلمات في تعابيرهم في هذه المرحلة الخطرة من عمر الأمّة، كما أدعو ـ بصفتي مسلماً من آحاد المسلمين ـ المرجعيات الدينية في المذاهب المختلفة لوضع حدّ لفوضى تصدّي أيّ كان للتعبير عن قضايا المذهب بطريقة ملتبسة وخطرة وقد تجرّ مشاكل كبيرة، ولا أعني بوضع الحدّ منع الناس أو حجز الحريات، وإنّما أن تعبّر المرجعيات الدينية عن رؤيتها الواضحة الصريحة في الكثير من هذه المواضيع الملتبسة، ويكون هذا التعبير مُفصحاً ومفوّتاً الفرصة على من يريد استغلال جملة هنا أو هناك أو توظيف تعبير هنا أو هناك في أغراضه الشخصيّة أو الفئويّة، أو الترويج لتعبير هنا أو هناك لا يشكّل أساساً فكريّاً في هذا المذهب أو ذاك وإنّما هي تعابير دخيلة عليه.. ويتمّ العمل على الترويج الإعلامي لمواقف المرجعيّات الدينيّة في هذا المجال، وعدم ترك المنبر الإعلامي لهذا المذهب أو ذاك بيد الشعراء والمدّاحين والخطباء فقط، مع حقّ هؤلاء المحفوظ في نشاطاتهم الكريمة جزاهم الله خيراً، فالعلماء والمفكّرون من وظيفتهم التي أمرهم الله بها تصويب الأخطاء وجرأة الإفصاح عن الحقيقة وعدم الخوف غير المبرّر من (عامّة) الناس؛ لأنّ هذا الأمر قد يفضي بمرور الوقت إلى (عوممة) أهل الاختصاص، بدل (خوصصة) جمهور الناس وعامّتهم إذا صحّ التعبير، (عوممةً) تستحكم في المختصّين أنفسهم وهم لا يشعرون بما طرأ عليهم من التفكير (العوامي).
كما أهيب بالعلماء والعاملين والمؤمنين كافّة أن يبدوا حساسية محمودة تجاه قضيّة الألوهيّة والتوحيد، وأن لا يهدروها بحيث لا يتحسّسون من الأفكار أو المسلكيّات أو الأقوال التي قد تقترب منها بطريقة سلبيّة، فالتوحيد أكبر قضايانا الدينية، والالتفاف على هذه القضيّة أو تمييعها بتحويلها إلى قضيّة نظريّة رقميّة بعيدة عن السلوك والمشاعر شكلٌ من العدوان عليها دينيّاً، والعجيب أنّ بعضنا يتحسّس من كلمة بسيطة قد تُطلق هنا أو هناك تتصل بشأن مذهبي، لكنّه لا يُبدي أيّ حساسية تجاه التباس ما قد يتصل بقضيّة التوحيد! فقد لا يُبدي بعضنا حساسية تجاه مدّاحٍ مشهور جدّاً يخرج للناس (وقد لا يكون قاصداً ذلك جداً، بل يكون ذلك ناتجاً منه عن هيجان العاطفة الشديدة) فيقول: (لا إله إلا الزهراء) أو (لا إله إلا زينب)، وقد تجد من يتأوّل له تعابيره وينتقد مرجعاً كالشيخ مكارم الشيرازي لتصدّيه لهذه الظاهرة (بصرف النظر عن الجدل الذي صاحب الموضوع فيما قيل عن الحكم بكفره من قبل المرجعيّة الدينية)… لكنّه ـ أي هذا البعض نفسه ـ يتحسّس للغاية ممّن يقول كالدكتور حسن رحيم بور ازغدي: لا تجعلوا كلّ أيّام السنة حزناً وعزاءً، فقد تعبت الناس وملّ الشباب منّا، رغم أنّ رأي ازغدي سبق أن صدر ما يؤيّده تقريباً قبل عام أو عامين من قبل المرجع الديني السيد موسى الشبيري الزنجاني حفظه الله، عندما اعترض سماحته على تكثير مشاريع أسابيع الحزن أو عشريات الحزن التي راجت مؤخّراً في غير مكان.
نعم، لا ينبغي لأيّ حرب مذهبية أو طائفيّة أن تفرض علينا ـ من حيث لا نشعر ـ تراجعاً عن الاهتمام بقضيّة التوحيد التي ترجع إليها أعظم قضايا الدين في الفكر والسلوك والعمل والإحساس، كما يقول العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه.