السؤال: يوجد اتجاهان في الموقف من العرفان: واحدٌ منهما مؤيّد له، وأبرز المؤيدين صدر المتألهين الشيرازي والإمام الخميني والعلامة الطباطبائي وغيرهم، والاتجاه الآخر معارض كما في المدرسة الشيخيّة والمدرسة التفكيكيّة. وسؤالي: ما هو تأثير العرفان في العقائد ـ بما فيها المذهبيّة ـ مما جعل هؤلاء يقفون موقف الرفض، بل يتعدّاه أحياناً إلى التكفير؟ هل العرفان يرفض شيئاً من العقائد لا سيما المذهبيّة؟ حبّذا أن يكون الجواب بضرب بعض الأمثلة على ذلك؟ شاكرين لكم جهودكم، أدامكم الله.
الجواب: لعلّ بإمكاني أن أوجز أهم مصادر القلق عند بعض علماء المسلمين من العرفان وأفكاره، في النتائج تارةً، وفي المنهج أخرى، وفي السلوكيات ثالثة، وأختصر ذلك بالآتي:
1 ـ وجود بعض الأفكار والآراء التي ذهب إليها بعض العرفاء وبعض الفلاسفة، ويعتبر المفسّرون والمحدّثون والفقهاء أنّها تخالف العقائد الدينيّة التي صرّحت بها النصوص، مثل القول بالمعاد الروحاني فقط، والذي يخالف صريح مئات النصوص القرآنيّة والحديثية، ومثل القول بقدم العالم، الذي يخالف ـ من وجهة نظر الفقهاء والمفسّرين أيضاً ـ ما صرّحت به الكثير من النصوص الدينية، ومثل القول بأنّ الآخرة باطن الدنيا وليست نهاية زمنيّة لها، ومثل نظريّة الجبر العلّي التي فهمها بعض المتكلّمين والفقهاء على أنّها تحوّل الله إلى آلة مسلوبة الإرادة. ولعلّ من أكثر القضايا قلقاً قضيّة (وحدة الوجود) التي حملت معها التباسات كثيرة لا حدود لها، فقد فهم الفقهاء والمفسّرون والمحدّثون من نظريّة وحدة الوجود ـ مهما غلّفها العرفاء فيما بعد ـ أنّه لا يوجد غير الله تعالى، ومن ثمّ فكلّ الخلق ليس شيئاً آخر غير الله، وهذا إنكار لكلّ معاني الصفات الفعلية الإلهيّة تماماً، بل إنكار لمعاني العقاب والثواب، وإبطال لكلّ المنظومة الدينية، إنّ الفقهاء ـ وطبعاً بعضٌ منهم، وليس جميعهم ـ يعتبرون أنّ عرفاء وحدة الوجود قد تلاعبوا بالألفاظ كي ينجوا من التصريح بحقيقة معتقداتهم، ولهذا وجدنا كلّ هذه الفوضى وكلّ هذا الغموض في كلامهم في قضيّة التجلّي والظهور والوحدة التشكيكيّة والفيض ووحدة الوجود والوحدة الشخصيّة والكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة وغير ذلك مما لا يفقه روحه وجوهره أكثر دارسي الفلسفة والعرفان أنفسهم، ولا يعرفون منه سوى الألفاظ التي لو سألتهم عمّا وراءها لتاهوا وعجزوا عن الكلام، أو لأعادوا لك الكلام نفسه، ثم تسلّحوا بأنّ المطلب دقيق ولن تفهمه، وبأنّك محجوب وغير ذلك من الكلمات. إنّ معنى هذه المنظومة هو إبطال الرؤية الدينية الواضحة الموجودة في الكتب السماوية التي بين أيدينا بما فيها القرآن الكريم، فما معنى أنّه لا وجود سوى لله أبداً، وعندما تقول لهم: نحن موجودون بالبداهة، يقولون لك: نحن وجود ظلّي مجازي، أو يقولون لك: نحن رتبة وجوديّة ضعيفة، وغير ذلك من الكلمات التي يعتبر بعض الفقهاء أنّها لعبٌ على الألفاظ لا معنى لها سوى إنكار الخلق والخالقيّة وإثبات أنّ كل شيء هو الله، ولهذا تجد فكرة وحدة الوجود تبحث عند الفقهاء في كتاب الطهارة عند تعداد النجاسات، حيث يوجد بحث في إلحاق القائلين بوحدة الوجود بالكفار أم لا؟ بل هناك كلام صريح للسيد الخوئي في بعض رسائله التي نشرت في أواخر موسوعته بالطبعة الأخيرة ـ رسالته في الإرث ـ يصرّح فيه بأنّ ما يُفهم من ابن عربي في كلماته المتصلة بقضايا من هذا النوع هو كفر.
ومن جملة المفاهيم التي يقلق منها الفقهاء والمفسّرون كثيراً فكرة الوصول إلى الله تعالى، حيث يُبدي بعض الفقهاء حساسية من تعاطي العرفاء مع هذا الموضوع، وأنّ العارف يصل إلى الله ويفنى في الله ويأخذ صفات الله ويستجمع الأسماء والصفات الإلهيّة، ويصبح هو الله في مقام الفعل، وغير ذلك من التعابير التي يرى بعض الفقهاء أنّها ليست في جوهرها ـ لو تركنا لعبة الألفاظ ـ سوى دعوى الربوبيّة، بشكل مصغّر ولو غير مستقلّ، لآحاد العرفاء، فضلاً عن أنّ حديثهم عن الولاية العرفانيّة والإنسان الكامل يُفهم منه في بعض الأحيان أنّ منزلتهم أعلى من كثير من الأنبياء، أو كأنّهم يريدون أخذ مواقع الأنبياء والأئمّة ومقاماتهم لأنفسهم.
وما يثير التيار النصّي هو ما يعتبره دخولاً للأفكار غير الإسلاميّة في الإسلام نتيجة الفتوحات، إنّهم يقولون بأنّ مراجعةً سريعة للعرفان الهندي والعرفان الأفلاطوني والأفلوطيني والاسكندراني والتيارات الصوفيّة في المسيحية واليهوديّة، تكشف لك عن تطابق الأفكار مع العرفان الإسلامي أو تلاقيها بحيث ينتابك الشكّ في أنّه تمّ استحضارها بعينها لتُسقط على النصّ الديني (أحد الإخوة يكتب اليوم رسالة ماجستير حول المقارنة بين العرفان الهندي والإسلامي، ويتحدّث عن حقائق مدهشة من وجهة نظره)، وأبرز مثال يذكرونه على ذلك ما يعتبر في العرفان والفلسفة مفخرةً ومفصلاً، عنيت حكمة الإشراق، التي أتى بها السهروردي بشكل بارز، حيث إنّ المقارنات تثبت أنّ عمدة ما كَتَبَه في كُتُبِهِ إنّما أخذه من مخطوطات وكتب الفلسفة الفهلويّة التي تعبّر عن حكمة إيران وبلاد فارس القديمة، وكلّ تلك النظريّات التي صاغها في نظريّة النور لم يكتشفها بنفسه، بل أخذها من فلاسفة إيران القدماء، وهذا ما يخيف أكثر فأكثر من المجال الفلسفي والعرفاني. إضافة إلى اعتقاد بعض الناقدين للعرفان بأنّ قدامى العرفاء قبل الإسلام وقدامى الفلاسفة لم يكونوا موحّدين أو لم يكونوا يعبدون الله الذي تتحدّث عنه نصوص القرآن الكريم.
إنّ بعض الفقهاء والمحدّثين يعتبرون أنّ الجيل المتأخّر من العرفاء حاول تلميع الصورة، واللعب على الألفاظ، ومن يريد أن يكتشف حقيقة العرفاء فعليه النظر في النصوص الأصليّة لهذا العلم والتي تعود إلى عصور السهروردي وبايزيد البسطامي والحلاج وابن عربي وسيد حيدر الآملي وأمثالهم، وهناك سيجد شيئاً لم يطّلع عليه أكثر المعجبين بالتصوّف والعرفان اليوم، وقد يدهشه إن لم يستخدم سلاح التأويل ومقولة الشطحات وأمثال ذلك.
طبعاً، أنا أنقل وجهة نظر فريق كبير من الفقهاء والمفسّرين والمحدّثين، ولا أريد أن أؤيّد أو أعارض الآن، وإنّما نحلّل أسباب رفض كثير من العلماء لهذا المذهب الفكري والروحي في الإسلام، لكن في المقابل هناك الكثير من العلماء الذين لا يرون في العرفان مشكلة، بل هم من العرفاء والفلاسفة وفي الوقت عينه هم من الفقهاء والمفسّرين.
2 ـ قيام العرفاء والمتصوّفة بشكل مبالغ به ـ من وجهة نظر الكثير من المحدّثين والفقهاء والمفسّرين ـ بهدر حرمة النصوص واستخدام نهج التأويل المفرط المتعالي عن أيّ قاعدة لغويّة أو تفسيريّة، الأمر الذي يفتح باب المزاجيّات، وكلّ شخص يقول لك بأنّني انكشف لي معنى من هذه الآية لم ينكشف لك، وإذا طالبته بمرجعيّةٍ نحتكم إليها من لغةٍ أو عقل، قال لك بأنّ فهم العارف متعالٍ عن اللغة والمجاز والأدب وغير ذلك، ولا يُطالَب بالدليل، وقَدَمُ الاستدلال خشبيّة، فيصفّفون لك عشرات التفاسير التطويعيّة والتأويليّة التي لا شاهد لها من كتابٍ أو سنّة، وإنّما يُخضعون النصوص إخضاعاً فجّاً لها.. إنّ التيار النصّي (فقهاء مفسّرون ومحدثون) يبدون قلقاً كبيراً إزاء ما يعتبرونه تلاعباً في النصّ الديني بطريقة غريبة جداً، وهم إذ يرون أنّ المتكلمين والمفسرين والمحدّثين ساهموا في ذلك أيضاً إلا أنّهم يظلّون أفضل حالاً بكثير من العرفاء والمتصوّفة. ونظرة عابرة على أعمال ابن عربي وسيد حيدر الآملي تكشف هذا الواقع الرهيب، فالمتكلّم عندما أوّلَ اعتمد نظريّة المجاز وقدّم رؤية في فهم النص، أمّا العارف فرؤيته هي نفس ادّعاءاته غالباً، وقد لا تجد عنده برهاناً تفسيريّاً بقدر ما تجد عنده تخرّصاً في تأويل النصوص، فقوله تعالى: (قدّت قميصه من دبر) يصبح على علاقة بالحجب النورانيّة والظلمانية، وقوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) يصبح معنى الأرض هو النفس الإنسانيّة وليس هذه الأرض، وقوله تعالى: (إنّ فرعون علا في الأرض) يصبح معناه القلب الفاسد، وهكذا دون أيّ محكمة يمكن الرجوع إليها والاحتكام بين يديها ولو كانت هي الأحاديث الصحيحة المعتبرة، وإنّما يسندون ذلك لأنفسهم وكشوفاتهم، الأمر الذي يفتح على فوضى غير متناهية. هذا الأمر يسبّب قلقاً كبيراً للتيار النصّي التفسيري المتمثل بعدد كبير من الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين.
والمشكلة أنّ بعض علماء التيار النصّي لديهم سوء ظنّ ببعض العرفاء والمتصوّفة، فيرون أنّهم أدركوا خطورة أفكارهم وعدم مقبوليّتها فعمدوا إلى وجوه اخترعوها لتفسير النصوص، وتشبّثوا ببعض المرويّات الضعيفة جداً التي قد تكون من رواية سابقيهم الموضوعة على النبي وآله وصحابته، فأبدوا أنفسهم وكأنّهم يملكون نظريّةً في فهم النصّ، وليست لديهم سوى مجموعة تخرّصات لا أكثر، فابن عربي يقول لك: إنّ كلّ حرف في القرآن هو أمم أمثالكم، ويأتي من يلملم كلمات مبعثرة له لكي يقول لنا بأنّ ابن عربي يملك نظريّة في فهم النصّ، أمّا الحقيقة فليس هناك شيء من ذلك، وإنّما قام القونوي والقيصري وابن تركة الإصفهاني وصدر الدين الشيرازي وغيرهم بمحاولة لملمة ما قاله ابن عربي وتقديمه لجمهور المسلمين على أنّه رؤية عقلانيّة للوجود والحياة والنصوص.
3 ـ اعتبار الفقهاء أنّ التصوّف محاولة للتحرّر من الفرائض الدينية والتكاليف الشرعيّة، وهذه معركة كانت موجودة قديماً بقوّة أكبر منها اليوم، وقد عرفها العصر العباسي والعصر الصفوي أيضاً، ورغم أنّ العرفاء قد أحدثوا تحوّلاً كبيراً في أنصارهم من هذه الناحية حتى صاروا يعتبرون الالتزام الفقهي شرطاً في سلامة العملية الكشفية والعرفانية، إلا أنّ بعض الشكوك ما تزال تراود بعض الفقهاء من استهانة التصوّف والعرفان بالجانب الفقهي والشرعي، وتعتبر قضيّة الموسيقى والغناء، وكذلك قضايا محبّة الصبيّ الأمرد، والتغزّل بالمرأة وجمالها، وبالخمر وأنواعها، وغير ذلك، من عناصر قلق المؤسّسة الفقهيّة من طريقة تعاطي العرفاء مع الملفّ الشرعي.
ولا بدّ لي أن أشير هنا إلى:
أولاً: إنّ الصورة التي قدّمتُها مختصرة جداً، والوقت لا يسمح بالتفاصيل، وقد أخذت بعين الاعتبار المشهد على المستوى الإسلامي عامّة، وليس المذهبي خاصّة فقط.
ثانياً: إنّ بعض ملاحظات الفقهاء والمفسّرين تقبل النقاش بشكل واضح، والوقت لا يسمح بمناقشتها، لكنّ بعضها الآخر هو مشكلة حقيقيّة تحتاج أن يوليها أنصار الاتجاه العرفاني أهميّة وجدّيّةً أكبر، ولعلّ أبرزها ـ من وجهة نظري ـ هي علاقة العرفان بالنصّ وإشكاليّة التأويل التعسّفي الذي يُتهم به العرفاء.
ثالثاً: إنّ الجانب الروحي في العرفان هو مدرسة سامية لا ينبغي الحطّ منها نتيجة الموقف من النتائج المعرفيّة للعرفاء، إنّ التجربة الروحية هي رصيد رائع يستحقّ الاستزادة منه، أمّا التجربة المعرفيّة للعرفاء والتجربة التفسيريّة لهم في علاقتهم بالنصوص، فهي التي تقع موقع الجدل والنقاش. وللكلام تتمّة.