السؤال: يقول الله في كتابه الكريم: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)، يقول العرفاء ـ حسب تفسير هذه الآية ـ: إنّ الدنيا والآخرة موجودتان الآن، فالنشأتان موجودتان، والآخرة باطن الدنيا، ولكنّ مشكلتنا أنّنا نعيش مع نشأة واحدة. فهل تتفق مع هذا التفسير؟ ولماذا؟ وهل العرفاء يستندون إلى هذه الآية فقط أو لهم أدلّة أخرى على مطلبهم؟
الجواب: يتضمّن سؤالكم موضوعين اثنين:
الموضوع الأوّل: دلالة هذه الآية الكريمة على وجود الآخرة الآن.
وهذا الموضوع لا يختصّ بالعرفاء، بل ذهب إليه كثيرٌ من علماء الكلام المسلمين من الفِرَق المختلفة، كما أنّ هذا الموضوع ـ بصرف النظر عن الموضوع الثاني ـ لا تدلّ عليه الآية؛ لأنّ الذي يدعو إلى تصوّره هو تعبير (الغفلة)، حيث يقال بأنّ الغفلة عن الشيء تستبطن وجوده، فأنت لا تغفل عن شيء إلا إذا كان موجوداً بالفعل، ولم تنتبه إليه، أمّا إذا لم يكن موجوداً، فإنّه لا تكون عندك غفلةٌ عنه.
إلا أنّ هذا الكلام غير دقيق في الاستخدامات اللغويّة إذا أخذنا الوجود الفعلي للشيء، لأنّ اللغة بمعناها الواسع تقبل استخدام موضوع الغفلة مع شيء لم يوجد بعدُ، ويكون هذا الاستخدام عرفيّاً جدّاً، وبلا حاجة لقرينة، فأنت تغفل عن أمرٍ مستقبليّ لم يقع بعدُ، لكنّه في معرض الوقوع، فإذا قلت لك: انتبه لفروضك المدرسيّة، ولا تغفل أبداً عن أنّ هناك تحديات تنتظرك، فهذا لا يعني أنّ التحديات وجدت فعلاً، بل يكفي أن تكون في معرض الوجود في مستقبل حياتك أو معلومة الوجود فيما سيأتي من زمان، وأنت تقول: لقد كانت الدولة غافلةً عن ما ستؤول إليه الأمور في مجال التضخّم السكاني أو في مجال عدم الاهتمام بالبيئة، فأنت استخدمت كلمة (الغفلة) رغم استخدامك كلمة (ستؤول) المعبّرة عن المستقبل، ومثل هذه الأمثلة كثير. ففي الحقيقة يكون الاستخدام في كلّ هذه الموارد يُراد منه عدم الانتباه لشيء ما بصرف النظر عن زمانه، فلا فرق في زمان الشيء المغفول عنه، سواء كان هذا الشيء قد وقع في الماضي، أم هو في الحاضر، أم هو في المستقبل، فلا يؤخذ في كلمة (الغفلة) وجود الشيء المغفول عنه في اللحظة الحاضرة المضارعة للغفلة نفسها، وراجع الأمثلة العرفية لهذا الموضوع تجد ذلك واضحاً، وعليه، فالآية الكريمة هنا تريد أن تقول: إنّ هؤلاء يعيشون ظواهر هذه الدنيا، ولكنّهم غافلون عن مصيرهم الآتي في الآخرة، وهذا معنى عادي جداً ومحتمل، ويكفي أن يكون محتملاً جداً بحيث يمنع عن ظهور الآية في وجود الآخرة وجوداً فعليّاً. والأدلّة على وجود الجنّة والنار متعدّدة لا تنحصر عند العلماء بهذه الآية الكريمة وأمثالها.
الموضوع الثاني: دلالة هذه الآية الكريمة على كون الآخرة باطن الدنيا، والدنيا هي ظاهر الآخرة.
وهذه هي النقطة التي ربما يمكن القول بأنّه قد تميّز بها بعض العرفاء، فلم يعتبروا الآخرة حدثاً يأتي بعد حدث الدنيا زماناً، بل هو واقع يقع في باطن هذه الدنيا، ولهذا يسافر العارف للآخرة وهو في الأولى بجسده، ويسبق وقائع الأشياء الطبيعيّة إذا صحّ التعبير، فكأنّ الآخرة روحٌ بدنها الدنيا، وكأنّ الدنيا بدنٌ روحه الآخرة.
هذه النظرية لا نريد أن نبحث فيها الآن، وإنّما أريد فقط أن ننظر في أنّ هذه الآية الكريمة هنا، والتي ذكروها شاهداً على هذه النظريّة، هل تدلّ عليها أو لا؟
لنرجع قليلاً إلى سياق الآية، ونرى قوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: 1 ـ 9).
إنّ الآيات تشير إلى مسألة الصراع بين الروم والفرس، ثم تبيّن وعد الله بالنصر، ثم تذكر بأنّ الله لا يُخلف وعده، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون هذا الأمر، وإنّما يعلمون ظواهر الدنيا، وهم غافلون عن الآخرة.. فماذا يعطي هذا التركيب؟
يوجد هنا أكثر من احتمال تفسيري يمكنني طرحه:
الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد بالآخرة ليس يوم القيامة، وإنّما أواخر الأمور ونهاياتها، بمعنى أنّهم يعلمون ما يظهر لهم، ولكنّهم لا يدركون ما سيأتي من أمور في قادم الأيّام ممّا لم يظهر لهم بعدُ، تماماً كما هم يعلمون الآن أنّ الروم قد غُلبت، ولكنّ الله وعد بنصرهم عمّا قريب؛ فهو صاحب الأمر في ذلك كلّه لا غيره، فلو أدركوا الله ووعده لفهموا أنّ الظاهر الذي يرونه ليس هو النهاية، بل وراءه باطنٌ ما زال مخفيّاً عنهم، وهو ما سيقع في قادم الآيّام من انتصار الروم على الفرس. وبناءً على هذا الاحتمال، تخرج الآية من موضوع يوم القيامة والآخرة تماماً، ولا يصبح لها معنى في هذا السياق، لأنّ الآخرة فيها معناها أواخر الأمور، لا يوم القيامة.
لكن ما يبعّد هذا الاحتمال هو كثرة تداول كلمة (الآخرة) بمثابة العَلَم لذلك اليوم المعروف، إلى جانب حديث الآيات بعد ذلك مباشرةً عن فلسفة خلق السماوات والأرض، وعن موضوع لقاء الله تعالى، فهذا الاحتمال وإن كان وارداً للوهلة الأولى، لكنّه بعيدٌ نسبيّاً عن السياق، وعن المفردة القرآنيّة.
الاحتمال الثاني: أن تكون الآية تتحدّث عن الدنيا والآخرة بالفعل بما نعرفه عنهما، وفي هذه الحال، نحن أمام افتراضين تفسيريّين محتملين:
الافتراض الأوّل: أن نفهم من الدنيا والآخرة هنا عنصر التقابل، وننتقل من التقابل في الدنيا إلى التقابل المفترض في كلمة (ظاهراً)، وهذا ما فعله العلامة الطباطبائي والعرفاء فيما يبدو، فهم قالوا: إنّ قوله يعلمون ظاهراً من الدنيا وهم غافلون عن الآخرة، معناه أنّ الدنيا لها ظاهر، وهو الذي يعلمونه، ولها باطن وهو الآخرة، فبدل أن يقول: يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن باطنها غافلون، قال: يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وبهذا تصبح الآخرة تعبيراً آخر عن باطن الدنيا.
الافتراض الثاني: أن يقال بأنّ الآية تريد أن تؤكّد على أنّ الناس يعلمون ظواهر ما يجري من حولهم في الدنيا، ولا يغوصون في أعماق هذه الظواهر وفلسفتها، ويظنّون أنّ نهاية الأمور تكمن عند هذه المجريات الظاهريّة التي تقع من حولهم، وهم لا يدرون أنّ هناك أموراً لا يعلمونها وهي خافية عنهم، وتقع خلف هذه الظواهر التي يرونها. وهذه الأمور التي تقع خلف هذه الظواهر ويمكنها أن تُفهمنا هذه الظواهر، هي الآخرة، فعندما تفهم الآخرة فهماً جيّداً فإنّ ما كنت تراه من ظواهر في الدنيا لن تفهمه بنفس الطريقة، بل ستفهمه بعمقه وروحه، فالآخرة ليست باطن الدنيا في الآية، بل تريد الآية أن تقول بأنّ غفلتهم عن الآخرة جعلتهم لا يرون من الدنيا سوى ظاهرها، دون أن يفقهوا ملكوت السماوات والأرض وأسرارهما وغاياتهما، فمثلاً أنت تنظر تارةً للمرض على أنّه ظاهرة معيّنة في الجسم، وأخرى تفهمه بطريقة مختلفة، وهي أنّه ابتلاء وامتحان، وأنّه المقدّمة لتكامل النفس لتحصيل الآخرة السعيدة. إنّ الفهم الأوّل هو فهمٌ ظاهري، فيما الفهم الثاني هو فهم باطني عميق يغوص في الظاهرة بأبعد من مجرّد متابعة شكلها الخارجي.
وعليه، فبناء على هذا الافتراض الثاني، لا تكون الآية دالّةً على كون الآخرة باطن الدنيا، بل دالّةٌ ـ بالقدر المتيقّن ـ على أنّ الغفلة عن الآخرة يجعلك لا ترى من الدنيا إلا ظاهرها، وفرقٌ كبير بين الحالتين، ولهذا نحن في الثقافة الدينية نقول بأنّ المؤمن يفهم الحياة الدنيا بطريقة مختلفة تماماً عن المنكر للآخرة، فالآخرة ليست حدثاً سيأتي وعليك أن تؤمن به فقط، بل الآخرة هي فهم جديد وعميق للدنيا وفلسفة وجودها، وهذا هو الفرق بين المؤمن بالآخرة والمنكر لها في نظرتهما للدنيا، كما تحدّثتُ عن ذلك في مقالتي حول الدين والإلحاد.
والمقدار المتيقّن من الدلالة في الآية هو الافتراض الثاني، ولا أقل ّمن كونه يربك إمكانية الاستدلال بالآية على ما طرحه العلامة الطباطبائي وبعض العرفاء. فلا تعني الآية بالضرورة: إنّهم يعلمون ظاهر الدنيا وهم غافلون عن باطنها الذي هو الآخرة، بل تعني: إنّهم لا يعلمون باطن الدنيا؛ لأنّهم غافلون عن الآخرة. أو تعني: لا يعلمون باطن الدنيا حال غفلتهم عن الآخرة (تبعاً لتفسير الواو في (وهم) بأنّها واو الحال أو غير ذلك)، وهذا المقدار لا يكفي لإثبات كون الآخرة هي باطن الدنيا، فالآية لا تقول بأنّ الآخرة باطن الدنيا، بل تقول بأنّ فهم باطن الدنيا غير متيسّر لهم حال كونهم غافلين عن الآخرة، وهذا غير أنّ الآخرة هي نفسها باطن الدنيا، فلاحظ جيداً. أرجو التأمّل في التفكيك بين الافتراضات.
رائع!!!!