الاثنين 3 ـ 10 ـ 2016م
سألني أحد الأعزّة من الأصدقاء الباحثين عن الحقيقة، فقال: ألا ترى أنّ صعوبة فهم النصوص الدينية، وحاجة العلماء إلى كلّ هذا الجهد في تفسيرها.. دليلٌ على ضعفٍ في النصوص نفسها؟! لماذا تفسير النصوص الدينيّة أمرٌ صعب؟ أيّ شفاء للإنسانية يكون حاله هكذا؟!
عندي أوجه ومداخلات كثيرة حول هذا الموضوع، لست بصددها الآن فالمجال لا يسمح، لكنّني أجبت صديقي بما أعتقد أنّه (أحد) الأسباب المسؤولة عن (بعض) أشكال الغموض الذي يبدو لنا في النصّ الديني، فقلت له: إذا فتحتَ تاريخ الطبري وأردت أن تستخرج منه قوانين التجارات والأحوال الشخصيّة، ونظريّات علم النفس والتنمية البشريّة، ثم عكفت ومعك مئات الأشخاص لاستنطاق نصّ الطبري، جازماً مسبقاً بأنّه تكلّم عن كلّ هذه المواضيع، واستمرّ الحال سنواتٍ طويلة، ماذا تتوقّع؟
إنّني أتوقّع أن يصبح نصّ الطبري بالغ الصعوبة والغموض، ومركّباً من شبكة لغويّة دلاليّة معقّدة وغير عفويّة؛ لأنّ حجم التأويل والتكلّف الذي سُكب عليه سوف يُخرجه مخلوقاً آخر لا يخلو من عجب. سنحاول من أيّ قصّةٍ تاريخيّة أن نأخذ قانوناً في الأحوال الشخصيّة مثلاً، وأنّ الطبري يريد أن يبيّن هذا القانون، فنستحلب النصّ حتى النهاية، ثم نستحلب، ثم نستحلب.. رغم أنّ النص لا علم له بهذا القانون ولا خبر.. تماماً كما يُحكى عن ذلك العالم ـ ولعلّه أبو حامد الغزالي ـ عندما سمع طلاب العلوم الدينية يتذاكرون في بعض كتبه، فرأى منهم تفسيراتٍ لنصّه لم تخطر على باله في حياته قطّ! أو كحال ذلك الشاب العاشق من طرفٍ واحد، يظنّ أنّ أيّ حركة من معشوقته هي رسالة له لها معنى ودلالات، والمعشوقة المسكينة تكاد لا تعرف هذا العاشق أو تنتبه إليه أصلاً.
لعلّنا سألنا النصّ الديني أحياناً ما لا علاقة له به، مفترضينه على علاقةٍ بكلّ شيء، فصعّبنا الأمر على أنفسنا، وتراكمت الطبقات الجيولوجيّة للنص فوقه ـ على حدّ تعبير محمّد أركون، انسجاماً مع حفريّات المعرفة لميشيل فوكو ـ فصار فهمه يحتاج لحفرٍ عميق مضنٍ، أو أنّ النصّ الديني يحتوي على جزء نخبوي وآخر عام، وعلى الناس أن لا تبحث من الأوّل في الجزء النخبوي؛ لأنّه مختصّ بالأنبياء والأولياء، كما يرى بعض العرفاء وبعض الإخباريّين من الإماميّة على مستوى النصّ القرآني على الأقلّ.
أعرف أنّ هناك الكثير من الكلام حول أنّ في القرآن بيان كلّ شيء، وأعرف المبرّرات التي ينطلق منها كثيرون هنا، وقد يكون لبعضنا تحفّظ على هذه المنطلقات، لكنّني أدعو ـ انطلاقاً من قناعة ـ:
أ ـ لتعاملٍ أكثر عفويّة مع النصوص، وللفرار من التكلّف.
ب ـ ولإعادة النظر في حجم المساحة العمليّة والمعرفيّة التي تُريد النصوص الدينية أن تتكلّم فيها.
ج ـ ولبناء استنطاق النصّ على احتماليّة أنّه يتكلّم عن هذا الموضوع، لا بناء الاستنطاق على حتميّة قبلية مسبقة تحسم أنّه تكلّم عن هذا الموضوع بالفعل ونريد أن نفتّش عن كلامه المكنون في هذا الموضوع، الأمر الذي يجعل معرفة مساحة العطاء في النصّ قائمةً أيضاً على جهد استقرائيّ، وليست مبنيّة على حتميّة قبليّةً مسقَطَةً عليه من الأعلى فقط.
لعلّنا بذلك ننتهي نسبيّاً من التأويل والاستحلاب، فيزول قدرٌ كبير من الغموض، والعلم عند الله.
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
121 | هل ينشأ بعض غموض النصّ الديني من أسئلتنا؟ | 2016-10-05 | 1 | 2936 |
كتب احد الاخوة الشبهة التالية فيما يتعلق بغموض النص الديني فما هو ردكم عليها:
يقول السيد محمد باقر الصدر في الحلقة الأولى من كتاب (دروس في علم الأصول): «بعد أن آمن الإنسان بالله والإسلام والشريعة، وعرف أنه مسؤول بحكم كونه عبداً لله تعالى عن امتثال احكامه، يُصبح مُلزما بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشَّريعة الإسلامية» وهذا الكلام يعني أن الإنسان مُلزم بامتثال احكام الله الموجودة في الشَّريعة، لكن السيد الصدر يعود فيقول: «ولو كانت احكام الشَّريعة في كل الوقائع واضحة وضوحاً بديهيا للجميع لكان تحديد الموقف العملي المطلوب تجاه الشَّريعة في كل واقعة أمراً ميسوراً لكل أحد، ولما احتاج إلى بحث علمي ودراسة واسعة» وهذا يعني أن الأحكام المطلوب منّا الامتثال لها غير واضحة في الشَّريعة!
وبين النتيجة الأولى والثانية تعارض واضح، فهو في الأولى يقول بأن على الإنسان أن يتَّبع أحكام الله الموجود في الشَّريعة، وفي الثانية يُـقرّ بأن الاحكام الموجودة في الشَّريعة ليست من الله! لكن كيف يتوجب علينا أن نطيع احكام الله الموجودة في شريعة لا تتضمن احكام الله؟!
هذا التعارض يتضمن أكثر الإشكاليات عمقاً في الدين الإسلامي، وفي كل الأديان السماوية بنحو ما، فهذا الدين يكتسب شرعيته من كونه يتضمن احكام الله التي اراد من البشر اتّباعها حرفيّاً ليعم خيرها عليهم، لكن المشكلة أن الأعم الأغلب من هذه الأحكام غير معروفة، لذلك يتم الاستعاضة عنها بآراء العلماء، فتكون النتيجة أن هذا الدين لا يتضمن احكام الله بل آراء العلماء، ظنونهم بالأحرى. لكن كيف ولماذا تتم عملية الاستعاضة؟
نجد الجواب في نفس كتاب الدروس، حيث يقول الصدر ما مُلخَّصه؛ بان علم الفقه مسؤول عن تحديد الاجراء الذي يجب على الانسان ان يتخذه عندما يواجه موقفاً لا يعرف حكم الله فيه. ما يعني بأننا وعندما لا نعلم حكم الله بخصوص واقعة معينة، ونكون بمواجهة عدة احتمالات نلجأ إلى الفقيه لاختيار أحد هذه الاحتمالات، والسؤال: كيف نعرف بان الاحتمال الفلاني هو الذي يمثل حكم الله وليس الاحتمال العلاني؟ الجواب المألوف هو: صحيح أن الاحتمال الذي اختاره الفقيه قد لا يكون صحيحاً، لكن الله سيرضى عنّا لو اتبعنا الفقيه حتى لو كان مخطئاً، لأنه بذل جهده في البحث عن الحكم الصحيح، لكن المشكلة تبقى قائمة، فهذا الحكم قد لا يمثل إرادة الله، والفقيه قد يكون كاذباً أو مغرضاً أو ذو نوايا سيئة! ثم لو كانت القضية تحتمل الآراء بهذا الشكل فلماذا أرسل الله رسولا حصَّنه بالعصمة المشدَّدة، التي تلزمه بتبليغ الاحكام فقط وعدم ابداء رأيه فيها؟!
بعبارة أخرى كيف يُعقل أن الله، من جهة أراد لأحكامه أن تصل لعباده واضحة ونقيَّة وخالية من اجتهادات حتى رسوله الأمين المعصوم من الخطأ، ومن جهة أخرى يتركها بعد ذلك ملتبسة وغير واضحة ليجتهد فيها الفقهاء بآرائهم مع أنهم غير معصومين ولا أمناء؟!
ما اريد الوصول إليه ليس التشكيك في الدين، فالدين يبقى ديناً محترماً واتباعه احرار في تقديسه والالتزام به سواء أكانت احكامه سماوية أم أرضية، لكن على الفقها أن لا يوهموا الناس بان فتاواهم تمثِّل أحكام الله، ثمَّ يُفْتون بقتل من لا يمتثل لها.