الثلاثاء 1 ـ 11 ـ 2016م
يتحدّث بعضُ الناس عن حظر أو رفض إبداء الشاكّ في أيّ قضيّةٍ دينيّة لشكّه، خاصّة في العقديات، ويرون أنّ هذا الأمر يُثير القلق والبلبلة والتشكيك بين الناس في هذه القضيّة أو تلك، وهو مضرّ بالمصلحة الدينية والاجتماعيّة، ومن ثمّ لا يصحّ إبداء موقفٍ إلا إذا كنت قد اخترتَ قولاً من الأقوال وحسمت رأيك فيه، وقدّمت أدلّتك عليه.
وجهة النظر المحترمة هذه، يمكن مقاربتها من زاوية حالات الشكّ، فنحن أمام نوعين من الشك إذا صحّ التعبير:
النوع الأوّل: الشك القَبلي، وهو الشك الذي يكون قبل بداية دراسة الإنسان لهذا الموضوع الذي يُبدي الشكَّ فيه، فأنت لم تبحث هذا الموضوع بالشكل الكافي، فحتى الآن لست متأكّداً من شيء، وتريد أن تبرز عدم تأكّدك وأنّ كلّ الآراء غير مؤكّدة.
في هذه الحال، ربما يُفترض عدم إبداء الشكّ بوصفه وجهة نظر؛ لأنّ المفروض أنّه لا يعبّر عن رؤية في الأدلّة والمواقف، بل يعبّر عن انعدام الرؤية والمعرفة والاطّلاع. وإذا كان ذلك ناتجاً من شخص غير متخصّص إطلاقاً في موضوع البحث يكون الأمر أوضح.
النوع الثاني: الشكّ البَعدي، وهو الشكّ الذي يأتي بعد دراسة القضيّة وملابساتها، فيتردّد الأمر عندك ولا تستطيع ترجيح وجهة نظرٍ على أخرى، فالموضوع عندك من العويصات العالقة كما يقولون.
وفي هذه الحال، لماذا نرفض إبداء هذا الشاكّ لشكّه، وطرحه لشكّه بوصفه وجهةَ نظر في الساحة الثقافيّة والفكريّة والدينيّة؟ إنّ الشك هنا هو بنفسه تعبير عن وجهة نظرٍ تقول بأنّ أدلّة الفريقين غير مقنعة، وأنّ الأمر وفقاً لأدلّتهما لا يُفضي إلى نتيجة حاسمة. أليست هذه وجهة نظر؟ لماذا يُمنع على صاحبها أن يبديها ويعطي رأيه في طبيعة الأدلّة المتنافسة في القضيّة؟
بل إنّ تاريخ البحث العلمي يؤكّد أنّ الكثير من العلماء في مختلف البحوث الدينيّة وغيرها كانوا يتوقّفون في بعض القضايا، ولهذا تجد أنّهم عندما يرصدون الآراء في مسألة معيّنة، يذكرون منها القول بالتوقّف، ويكون المراد به في بعض الأحيان أنّ صاحب هذا القول مرجع كلامه إلى عدم ترجيح أيّ قولٍ من الأقوال، وأنّ القضية متوقّفٌ فيها عنده، فسنّة البحث العلمي تقوم على هذا أيضاً.
إذن، لماذا لا يحقّ لمن بحث في قضيّةٍ، وحصل له ـ بعدَ النظرِ ـ الشكُّ في جميع الآراء وعدم ترجيح واحدٍ منها على الآخر، لماذا لا يحقّ له أن يُبدي رؤيته لطبيعة الموضوع وتحفّظه على جميع المواقف وتردّده في الحسم؟ أليس شكّه هذا ناتجاً عن وعي، وهو مختلف عن الشكّ الآتي من عدم الخبرة؟ أليس من حقّه أن يقول للناس بأنّه رأى أنّ أدلّة الفريقين ضعيفة وغير حاسمة؟ فلماذا يحقّ لك أن تعبّر عن رأيك في ترجيح فريقٍ على آخر ولا يحقّ له التعبير عن رأيه في عدم الترجيح؟! لماذا يجب عليه أن يخضع لوجهة نظرك ولا يُسمح له أن يخضع لرؤيته لطبيعة المواقف في الموضوع؟ وكيف يحقّ لك أن تحاسبه من موقعك دون موقعه ورؤيته؟
نعم، إذا كان هناك دليلٌ ديني أو عقلي يقول بأنّه في هذه الحالة أو تلك من حالات الشكّ يجب عليك الاحتياط من جميع الجهات، فلا بأس، لكن في القضايا الفكريّة والثقافية والعقديّة والتاريخيّة وكثير من غيرها، أين هو هذا الدليل سوى حُسن الاحتياط لو كان الأمر مورداً للاحتياط أصلاً، لا وجوبه عقلاً ولا نقلاً؟
وللمثال فقط، هناك من الفقهاء من يقول بأنّ الأعلم إذا احتاط وجوباً في مسألة، ونشأ احتياطه الوجوبي من رفضه لكلّ الأدلّة المختلفة في القضيّة، فإنّه لا يصحّ الرجوع في هذا الاحتياط الوجوبي إلى الأعلم بعده؛ لأنّ المفروض أنّ الأعلم قد حكم بخطأ ما توصّل إليه الأعلم بعده، فكيف نرجع إلى الأعلم بعده رغم حكم الأعلم بخطئه وبطلانه. وهذا معناه أنّ عدم الترجيح موقفٌ قد تترتّب عليه آثار، فلاحظ وانتبه.