الاثنين 15 ـ 2 ـ 2021م
قرأت منذ مدّة دعوة وجّهها أحد الباحثين الإيرانيّين (غاب عنّي اسمه الآن) لما يمكن تسميته: نهاية عصر تفسير القرآن، نحو بداية عصر العلاقة مع القرآن أو المواجهة الوجوديّة معه.
الفكرة باختصار ـ كما أذكرها وأفهمها ـ تعني أو تتضمّن، وفقاً لتحليلي الشخصي، أنّ الاستغراق في مراكمة التفاسير عمليّةٌ لن تنتهي وسوف تدفعنا دوماً للمزيد من الرأي والرأي المضادّ وتزايد حجم التفاسير بما يشكّل طبقات حاجبة بمرور الزمن عن الوصول للنصّ وروحه ورسالته الأصليّة، مما يكرّس علاقتنا بالتفاسير السابقة أخذاً وردّاً أكثر من علاقتنا بالكتاب الكريم نفسه، وهو ما كان يُطلق عليه الدكتور محمّد أركون: الطبقات الجيولوجيّة للنصّ.
لست أُريد أن أنتصر لفكرة نهاية عصر تفسير القرآن، وأتركها لمناسبةٍ ثانية، لكنّني الآن أريد أن أنتصر للبديل الذي يتحدّث عنه صاحب الاقتراح، وهو الاتصال الوجودي بالنصّ القرآني. إنّني أعتقد بأنّه ضروريٌّ جدّاً، وفي الوقت عينه ليس فكرةً جديدة بالكامل، بل تحدّث عنها بنحوٍ ما العرفاءُ والأخلاقيّون كثيراً.
حصيلة الفكرة أنّ المهم هو أن أُطلق أحاسيسي عند اتصالي بالنصّ القرآني قراءةً واستماعاً، ليس المهم أن أعرف تفاصيل التفاسير، بل المهم الإحساس المعنوي بالروح القرآنيّة، ولو ضمن الحدّ الأدنى للمعنى المأخوذ من النصّ، ولتذهب أحاسيسي حيث تريد دون أن تَنسِبَ نفسَها تفسيراً للنصّ، فمثلاً عندما أقرأ وقائع الآخرة ويوم الدينونة، فليس المهم أن أحدد هويّة الحور العين أو أن أعرف معنى «مدهامّتان»، بل المهم أكثر الآن أن أندمج عاطفيّاً وشعوريّاً مع الحدث، فأستشعر الخوف من الله والرغبة في رحمته. إنّ تفاصيل النصّ ومعناها ليس مهمّاً هنا، إنّما الوقع النفسي للنصّ على أرواحنا يغدو أكثر أهميّة في لحظة المطالعة.
تنبني هذه الفكرة أيضاً على خاصيّة الدفع والخلق في النصوص الدينيّة، فهذه النصوص لا تعطي معلومات فقط، بل فيها سمة عجيبة تخلق في قارئها المؤمن بها حالة نفسيّة ورهبة وعشق، إنّ الإيمان بهذه النصوص ليس كالإيمان بكتب الفلاسفة، بل هو شيء يجعلك أسيراً لها منفعلاً لوقعها الروحي، إنّها مليئة بفعل الخلاقيّة الخيالية والمؤثرات الصوتية والتصويريّة، لهذا فهي لا تترك عقلك الخالص يتحرّك لوحده بل تخاطب فيك مكاناً آخر أيضاً.. خذ مثالاً الموسيقى الراقية قد لا يهمّني ماذا قصد المؤلّف بقدر ما أستخدمُها وسيلة للتسامي الروحي أو تفريغ الطاقة السلبيّة أو هيجان العاطفة أو الحزن أو غير ذلك.
إذا لم أكن موافقاً بشكل تامّ على فكرة نهاية عصر تفسير القرآن، لكنّني موافق بالتأكيد على أنّ المؤمنين ينبغي أن يتعاملوا مع النصّ الديني المقدّس لديهم ليس من وحي كونه مصدراً معرفيّاً فقط، بل هو ظاهرة وجوديّة يتبع الاحتكاك بها تأثيرات نفسيّة فريدة، ولعلّ هذا ما تختصره الفكرة القرآنية التي تكرّرت أكثر من مرّة من أنّ دور النبوّات هو “التعليم والتزكية” معاً، فهي لا تعلّمنا التزكية، بل تفعل فينا فعل التزكية عندما تتهيّأ نفوسنا لذلك «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ» (البقرة: 2)، «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» (الزمر: 23).