الخميس 10 ـ 11 ـ 2016م
يستعين بعض الناس لمواجهة خصومهم في الساحة الفكريّة والثقافيّة والاجتماعية بالتعرّض لهم قبل التعرّض لأفكارهم، فهم لا يواجهون الفكرة ويناقشونها في البداية، بل يركّزون أوّلاً على مواجهة صاحب الفكرة؛ لتجريده من الإمكانات الشخصيّة التي تسمح له بطرح فكرةٍ من هذا القبيل، ثم بعد ذلك قد يناقشون الفكرة وقد لا يناقشونها أصلاً، معتمدين في توهينها على توهين صاحبها.
هذا المنهج من قواعد علم مواجهة التغيير والتجديد في عصرنا الحاضر، وتجده في فضاءات ثقافيّة متعددّة أيضاً خارج هذا الإطار الديني.
أوّل شيء يقوله هؤلاء للناس هو: من هو المتكلّم؟ هل يحقّ له الكلام أو لا؟ ما هي صفاته الأخلاقيّة؟ وما هي مكانته العلميّة؟ وعندما نأتي إلى مكانته العلميّة نقول: هل اعترف به أحد؟ وطبعاً هذا (الأحد) هو خصومه المختلفون معه في الفكر مسبقاً! هل لديه شهادات؟ هل.. هل.. هل..؟ ولا يقولون: هل فكرته صحيحة؟ هل عنده دليل؟ أيّها الناس انظروا في دليله وناقشوا دليله؟..
تتكرّر ممارسة هذه العمليّة عشرات المرات وبحقّ عشرات الأشخاص في مختلف الفضاءات الدينية الثقافيّة وفقاً لمتابعاتي المحدودة، ولا تقتصر على فريق دون فريق، بل وجدتها موجودة عند فرقاء متعدّدين، وإن كان أكثر من يستخدمها هم الذين يقفون في موقع السلطة الدينية القائمة والمحيطون بها والمدافعون عنها.
يُدمن هؤلاء الناس إضعاف الخصم الثقافي بشخصه مقدّمةً لتحييد فكره، ثم يتعاملون مع فكره من موقع أنّه فكرُ شخصٍ ضعيف هزيل لا خبرة له ولا معرفة، وهم يُقنعون الناس بهذه الطريقة، ومن ثمّ يوحون لهم بأنّ رموزهم هم لا يمكن النقاش في إثبات أصل خبرويّتهم، لكن نفس رموزهم لو أحبّ أحدٌ منهم في يوم من الأيام أن ينشقّ عن الطريق وينتهج نهجاً معارضاً أو تغييريّاً فسوف نجدهم وبسرعة يعيدون حساب الأمور، ليشكّكوا في أصل علمه أيضاً، وفي خبرويّته، وفي تاريخه الثقافي والمعرفي، وفي الشهادات التي يملكها!
أنا لا أتكلّم عن خيال، بل عن تجارب عشناها مكرّرةً في أكثر من موقع، وعلى أكثر من مستوى، وبإمكان أيّ شخص أن يراجع أرشيف السجالات الفكريّة خلال العقود الأخيرة، بل خلال قرون، ليتأكّد ممّا نقول.
إنّ بعض خلفيّات هذه الطريقة التي يستخدمها هؤلاء في أوّل مواجهة لهم مع أيّ آخر مختلف معهم، سواء أحسّوا بهذه الخلفيات أم لا، هو:
أ ـ ليس المهم البحث في الأفكار، ولا نريد للناس أن تنظر في فكرنا وفكر الطرف الآخر لتقوم هي بنفسها بالتقويم، بل الأفضل حجب النقاش عنهم حتى الإمكان والتركيز على التخويف من الرجال أنفسهم.
ب ـ إنّهم يرون أنّ الناس أميّون، ولهذا لا ينبغي إقحامهم في الموضوع، وعلينا أن نجنّبهم أصل الاتصال والتحاثّ بهؤلاء الأشخاص، فهذه أفضل طريق لخلق مناعة في عقولهم من سماع أفكار الآخرين.
ج ـ إنّنا أشبه بالأوصياء على عقول الخلق، وهذه الوصاية تخوّلنا أن نحجب عنهم ما نريد ونسمح لهم بما نريد، فالخلق كلّهم جهّال إلا نحن، ولهذا يجب منعهم من النقاش معنا ـ نحن نخبة النخبة ـ فإنّ الرادّ علينا كالرادّ على الله، مع تفسير أيّ نقاش أو مداخلة أو حوار أو سؤال نقدي على أنّه ردٌّ على الله! نحن في الحقيقة الله عينه في عالم التشريع والتفكير! وكلّ من يريد أن يناقشنا فليلَعم بأنّه يناقش الله تعالى في عرشه! توظيفٌ موسّع لمفهوم بسيط هو في أصله صحيح. إنّها سياسة تخويف تجعل عقول الناس البسطاء أنقياء النفوس مرتعشةً من أن تفكّر في إمكانيّة خطئهم في كلّ رؤية يرونها أو كلمةٍ يتلفّظون بها.
د ـ لا يتكلّم في القضايا التخصصيّة إلا المتخصّص، وهذه كلمة حقّ يتمّ استخدامها أحياناً من قبل بعضهم في غير موضعها، فقد تناقش طبيباً في قضيّة لا علاقة لها بالطب، فهل يقول لك بأنّك تناقشني في تخصّصي؟ فلماذا لا يحقّ لي أن أناقش هؤلاء في غير الجوانب التخصّصيّة، كأن أناقشهم في أسلوبهم، أو في طريقة تعبيرهم، أو في موقفٍ سياسي أو اجتماعيّ ميدانيّ، أو قضيّة تتصل بإدارتهم لهذا التفصيل أو ذاك، فهل هذه تُدرس في الفقه والأصول؟ هلّا أرشدونا أين تُدرس تفاصيل هذه الأمور في أصول الفقه: هل في مباحث الألفاظ أو الحجج أو الأصول العمليّة أو التعارض؟
فلنحترم عقول الناس، ولندخل في حوار مع عقولهم، لإقناعهم بما نراه صواباً، بدل أن نسعى بأيّ طريقة في عقم العقول وحرمانها من ممارسة دورها في التفكير. اليوم باتت الحرب مع عقول الناس خاسرة، إلا إذا فرّغتهم من عقولهم بسياسة التجهيل! وأجد نفسي متأكّداً بأنّ تيارات كبيرة في العقل الديني ما تزال غير مدركة لهذه الحقيقة أو أنّها تسعى ـ مع الأسف ـ مفتخرةً لممارسة سياسة التجهيل، والنتيجة لن تكون سوى أحد أمرين: إمّا تديّن مفرّغ من كلّ وعي أو لادينيّة مفرطة.
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
153 | جاهل فأفكاره خاطئة، أو أفكاره واهية فهو جاهل؟ | 2016-11-12 | 0 | 2928 |