الجمعة 23 ـ 9 ـ 2016م
يتجه الكثير اليوم من أنصار مدرسة التحديث في الفكر الديني نحو الاتجاه المعنوي والروحي (الخالص)، بوصفه خشبة الخلاص التي بإمكانها أن تبقي شعلة الإيمان في النفوس، وفي الوقت عينه تضع عن كواهلنا كلّ (النتائج السلبيّة) الآتية من العقائد والقوانين والأمور التاريخيّة والفقهيّة..
إنّني أصنّف هذا التوجّه العام على أنّه رغبة التحديث الديني في عدم السقوط التام للدين، الأمر الذي يدلّ عندي على رسوخ النزعة الدينيّة في نفوس التحديثيّين خلافاً لما ينعتهم به خصومهم.. ولعلّ إقبال الكثير من الشباب المسلم اليوم على النزعة الروحيّة والصوفيّة ـ رغم تمرّدهم العنيف على النصوص والقوانين والتاريخ ـ تعبيرٌ آخر عن ذلك..
لكن.. وحتى نفكّر بعقليّة المستقبليات، هناك فرق بين أن تتخطّى مشكلة وبين أن تقوم بحلّها وتفتيتها، فليست كلّ المشاكل يكون حلّها بتجاهلها، فإذا أردت أن تتخطّى مشكلةً في أعمدة البناء، فلا يمكنك أن تكتفي بالتجاهل لتذهب خلف إكمال عمليّة البناء العلوي، إذ سرعان ما ستواجه انهياراً في المبنى بأكمله..
لا يمكن أن نخدّر أنفسنا بالمعنويّة والإيمانيّة قبل أن نجيب وبوضوح عن الأسئلة الكبرى في القضيّة الدينيّة.. ما هو موقفنا الحقيقي من الله؟ ما هو موقفنا الحقيقي من النبوّة والمذهب الربوبي الطبيعي؟ ما هو موقفنا الجادّ من النصّ الديني؟ ما هي مديات مرجعيّته؟ ما هي معايير التمييز بين اللباب والقشور في الدين؟ وما هي ضوابط التفكيك بين الأبدي والتاريخي؟ ما هو دور العقل؟ ما قيمة العقل النظري؟ ما هو الموقف من العلم؟ وما هي طبيعة العلاقة بين العلم والنص الديني؟ ما هو الموقف من منهاجيّات الفلاسفة والمتكلّمين؟..
أسئلة كثيرة ضاغطة بثقلها على العقل والضمير، تحتاج لاعتكاف الأدمغة لحلّها بِحِرَفِيَّة ومهنيّة عالية، ولا يمكن تخطّيها وتجاهلها نحو وضع حلّ يمثل قراءة مستوعبة للملفّ الديني.. فلا توجد حلول حقيقيّة وموضوعيّة من دونها فيما نظنّ.. فلا تأتي الحلول من وضع عصابة على العينين، ولا من دسّ الرؤوس في الرمال..
يُعجبني التحديثيّون الذي ساهموا في تقديم أجوبتهم عن هذه الأسئلة بدراسات معمّقة، ليذهبوا خلف المعنويّة عن قناعة معرفيّة مهما اختلفنا مع تفاصيل موقفهم فيها.. يعجبني هؤلاء أكثر من التحديثيّين الذين ذهبوا نحو المعنويّة دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء تقديم مبرّر معرفي مسبق، فجاءت نتاجاتهم أقرب إلى الجهود الشاعريّة والعاطفيّة وإلى شرح التجربة الوجدانيّة الذاتية التي تعمل على تخدير الطرف الآخر اللاهث باحثاً عن حلّ يخلّصه من وجع الواقع..
وجهٌ من وجوه المعنويّة هو في قناعتي المتواضعة خشبة خلاصٍ لابدّ منها لمواجهة تغوّل الجوانب الأخرى في الدين، لكن ما هو الشيء المحدَّد الذي (يمكننا منطقيّاً ودينيّاً) أن نضحّي به للوصول إلى خلاص المعنويّة والإيمانيّة؟
وجع الواقع لوحده لا يبرّر كلّ شيء، وإلا لبرّر وجعُ الرأس العلاجَ بقطعه من الرقبة!
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
113 | المعنويّة والإيمانيّة ومعضل الأسئلة الكبرى في الدين | 2016-09-24 | 1 | 2049 |
السلام عليكم مولانا الكريم,
مولانا العزيز -وفقنا الله وأياكم لمراضيه- عندما تستخدمون التعابير التالية:”…تغوّل الجوانب الأخرى في الدين…” وكذلك:”كلّ (النتائج السلبيّة) الآتية من العقائد والقوانين والأمور التاريخيّة والفقهيّة…” ألا ترون مولانا أنكم تستخدمون اللغة السائدة عند العلمانيين واللادينيين والملحدين والذين دائما تكون توصيفاتهم -عندما يذكرون الدين وأبحاثه- تنقيصية و تسقيطية و توهينية؟ معاذ الله أن أكون متبعا لاستراتيجية “البحث عن العفريت” -التي أشكركم لتنويرنا عنها- في كلامكم ولست أحاول الابتسار والاقتطاع لكلامكم من سياقه العام. أطلاقا, لا أحب لغة الاتهام والدخول في سجالات تبعدني عن المغزى الحقيقي لكلامكم. أنا متفهم لحقيقة أنكم تستخدمون لغة أكاديمية بحتة لا تكون ضحية العواطف والأفكار النمطية المسبقة, كما أنني -بعد متابعتكم منذ فترة طويلة- على دراية بتوجهكم العام في نقد مناهج الفقهاء والدعوة لتطويرها للوصول الى قراءة واعية صحيحة للنصوص الدينية, وتصحيح التعامل معها (والجميل في نقدكم أنه دائما علمي وبأسلوب راق يحترم العقل وينشطه ويستفزه ليفكر أكثر). الا أنني أحببت أن أستفسر عن العبارات التي عادة ما تستخدمونها (كالتي ذكرتها أعلاه) والتي يبدو منها -على ظاهرها- أنها لغة العلماني الذي يحاول تحجيم دور الدين في الحياة -بل والغاءه أحيانا-. فالظاهر من كلمة “تغول” مثلا هو معنى سلبي للغاية لم نعتد أن يصدر من باحث مسلم ذو معرفة واسعة وغيور على دينه كجنابكم الكريم. فهلا أوضحتم لنا طريقتكم ومنهجكم في استخدام هذه العبارات؟ ونشكر لكم رحابة صدركم وندعو لكم بالتوفيق دائما والسلام عليكم.