الأحد 16 ـ 10 ـ 2016م
في فترةٍ من الفترات ونتيجة ازدياد العلوم وتناميها بشكل مذهل، تعالت الأصوات للاتجاه نحو التخصّص، فظهر التخصّصُ، وتخصّصُ التخصّص، إلى ما شاء الله، وكان ذلك دفعةً كبيرة لتطوير المعرفة بتضييق مركز النظر، بهدف الحصول على درجة أعلى من دقّة الرؤية؛ لأنّك كلّما ضيّقت مركز النظر وكبّرت الجسم الصغير، ظهرت لك فيه الكثير من المعطيات الخافية، بينما لو نظرت إليه مع غيره من بعيد قد لا تبدو لك تفاصيله الكثيرة.
كانت النزعة التخصّصية رافداً عظيماً لتطوير المعرفة الإنسانيّة بعد قرون من النزعة الشموليّة في المعرفة والتي باتت مستحيلةً اليوم، حيث كان ما يسمّى بالعلوم الحقيقية يُدرس كلّه في تخصّصٍ واحد.
اليوم تعقّدت المعرفة بشكل آخر، وصار وجود متخصّصين في مجالات متفرّقة موجباً لعدم قدرة كلّ فريق لوحده على الإجابة عن الأسئلة المتصلة بجميع التخصّصات معاً أو بمجموعةٍ منها، فظهر التيار المعرفي الداعي للمعرفة البينيّة، وهي المعرفة التي تتعالى عن التخصّص المنْفَرِد لتُمسك بالقضايا التي تتصل بعدّة تخصّصات معاً، وتقدر على توظيفها جميعاً بوعي متشابك.
في الدراسات الدينية هناك توجّه منذ بضعة عقود نحو التخصّص، وفرز الموضوعات المعرفيّة على حدة، كي يتخصّص الباحثون فيها، وهذا شيء ضاعف وسوف يضاعف من النموّ المعرفي فيها عامّة، لكن ثمّة موضوعات تحتاج لعقول تدرك اتصال هذه الموضوعات بعدّة تخصّصات، فنحن بحاجة الى الجهود المتخصّصة، وفي الوقت عينه بحاجة إلى العقل الذي يقدر على ربط معطيات هذه التخصّصات للإجابة عن تساؤلات تتصل بها جميعاً.. وعملية الربط والتجسير هذه تحتاج لوعي خاص، وهو الذي تقوم عليه المعرفة البينيّة، تلك المعرفة التي تقع بين العلوم.
هناك موضوعات دينية اليوم لا يستطيع الفقيهُ لوحده أن يقدّم فيها الجواب الشافي الكافي كما يقال، ولا الأصولي كذلك، ولا الفيلسوف، ولا المتكلّم، ولا المؤرّخ، ولا المحدّث، ولا المفسّر، ولا الرجاليّ.. إنّها موضوعات تحتاج لرؤية تستطيع أن تستخلص من مجموع العلوم (أو مجموعة علومٍ) جواباً عنها، فلم يعد موضوع مثل الإلحاد أو اللادينية أو الربوبيّة أو غير ذلك، من الموضوعات التي تهمّ المتكلّم فقط أو الفيلسوف فقط بحيث يجيب عنها بأدواته الخاصّة، بل صار لعلماء الطبيعيّات وعلوم النفس والاجتماع دور أساس فيها، وما لم نملك المعرفة البينيّة بين مجموعة العلوم ذات الصلة، فقد لا نتمكّن من تكوين نظريات كبيرة في هذا الصدد، أو وضع رؤى استراتيجيّة على هذا الصعيد.
إذن:
أ ـ المعرفة البينية (وعيٌ خاصّ) ينتج عن خبرة متعدّدة التخصّصات، ويقدر أكثر منها على توظيفها في مجالٍ لا يختصّ بواحدٍ منها.
ب ـ المعرفة البينية الدينية ضرورة في العلوم الدينية الحالية، أو على الأقلّ في الاُسر العلميّة داخل هذه العلوم، حتى لا نغرق في تخصّص وتغيب عنّا العناصر المشتركة بين التخصّصات، والتي تحتاج للتخصّصات جميعاً بشكل متواشج.
ج ـ المعرفة البينية حاجة ماسّة لكلّ من يعتبر أنّ الشأن الديني العام حكرٌ على تخصّصه؛ لأنّ الشأن الديني العام لا يقف اليوم عند حدود المسائل الشرعيّة؛ إذ القضايا الدينية العامّة تخطّت حدود الفقه بكثير، ولهذا السبب بات يبدو جواب الفقيه ـ بما هو فقيه ـ عليها منقوصاً، حتى لو كان صحيحاً من زاوية الفقه نفسه (أرجو التأمّل بِرَوِيَّة في الموضوع)، فلابدّ من التفتيش عن صيغ ممكنة لمعالجة هذا الوضع.
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
133 | الدراسات الدينية والمعرفة البَيْنِيَّة | 2016-10-17 | 0 | 1506 |