الثلاثاء 4 ـ 10 ـ 2016م
هناك نمطان من تفسير القرآن الكريم:
1 ـ التفسير الذي يقوم على تحليل المفردات والجمل والفقرات، ويتعامل معها على أنّها وحدات دالّة على معنى بشكل منفصل، ويصل إلى المعنى العام من خلال تركيب المعطيات الآتية من مجموعة الوحدات المنفصلة والتجسير بينها، وهذا شائع جداً.
2 ـ التفسير الذي لا يقف عند الكلمات والجمل والفقرات، بل يحاول أن يأخذ المشهد برمّته، وعلى مثل ذلك بنى القائلون بالتفسير البنائي للقرآن الكريم.
في مجال التحليل اللغوي والأدبي كلّ من هذين المنهجين صحيح من حيث المبدأ، فأنت تفكّك مفردات آيات القصّة القرآنية حول موسى والعبد الصالح تارةً، وتقوم تارةً أخرى بترك التفاصيل والذهاب خلف المشهد كلّه بوصفه مشهداً يمثل وحدة واحدة، وتحاول أن تعيد إنتاجه في مجموعة من المفاهيم.
هذا بعينه يحصل في تفسير الأفعال، فأنت تفسّر عدّة تصرّفات لشخص تارةً بوصفها تصرّفات منفصلة ترتبط بسياقاتها الخاصّة، وأخرى بوصفها انعكاسات لتصرّف واحد وموقف واحد.
الفكرة التي أودّ الإضاءة عليها ليست هنا، بل في التساؤل التالي: هل يمكن أن تكون بعض النصوص أو الفقرات الموجودة في القرآن أو السنّة أو في مجمل الكتب السماويّة غير معنيّة أصلاً بالمفردات والجمل والفقرات، كدوالّ ومدلولات قائمة بنفسها تنضمّ إلى غيرها، بحيث لا تهدف لإيصال رسالة من خلال الجملة، بل رسالتها (الوحيدة) تكمن في المشهد كلّه؟ وبالتالي فالتفسير التفكيكي مضرّ بها وليس فقط غير كافٍ.
سأعطي مثالاً أصغر من حجم الفكرة التي أودّ الحديث عنها، عندما يقول القرآن: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاْقٍ)، فتارةً نذهب خلف الكشف والساق، وقد نغرق في هذه الساق، وأنّها هل هي ساق الله أو شيء آخر؟ وأخرى نترك من الأوّل المفردات، ثم ننظر للجملة بوصفها (في اللغة) وحدةً واحدة تعني: يوم يشتدّ الأمر.. هل يمكن أن تتسع هذه الطريقة لتتخطّى الجملة نحو المشهد المؤلّف من عدّة جمل وآيات، وبالتالي يكون المشهد كلّه غير ناظر إلى مفرداته وفقراته، بل هو بكلّه يعبّر عن فكرة واحدة أو توليفة أفكار؟
وعلى سبيل المثال ـ وهو مجرّد مثال لتقريب الفكرة، فلا يغرقنّ أحدُنا في المثال كالعادة وينسى أصل الفكرة! ـ عندما يقدّم القرآن مشهداً تصويريّاً عن الجنّة (حور عين ـ فواكه ـ أنهار ـ لحوم ـ مأكولات ـ أرائك..)، فتارةً أنظر للآيات وأفكّكها وأقول: هناك في الجنّة كذا وكذا.. وأخرى أفترض من الأوّل أنّه يريد بكلّ هذا المشهد التصويري أن يقول: في الجنّة يوجد راحة وسعادةً ورغد عيش واستقرار.. وأنّ هذا المشهد التصويري كلّه جاء ليكون أفعل في الخيال في إيصال هذه الفكرة من مجرّد أن يقول: إنّكم ستكونون سعداء..
هل يمكن تأصيل آلية أدبيّة لاستنتاج مثل هذا الفهم من (بعض) النصوص والمشاهد القرآنيّة أو لا؟ وإذا أمكن، فكيف نشيد هذه الآليّة التفسيريّة لغويّاً وأدبيّاً ونجعلها راجحة؟ وهل يمكن أن تكون المشاهد من المتشابهات، ونصوص مثل: (لَهم مَا يَشَاؤونَ فِيْهَا وَلَدَيْنَا مَزِيْد) هي المحكمات؟
وربما كلّ هذه الطريقة لما أسميتُه بالتفسير المشهدي تكون خاطئة. وكلامي ليس في تأويل النصوص، بل في التفكير الأدبي واللغوي فيها.
إنّه مجال خصب لمساهمات جديدة تسعى لتكون غير تأويليّة ولا تطويعيّة.
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
122 | التفسير المشهدي للنصّ الديني | 2016-10-06 | 1 | 2225 |
السلام عليكم استاذنا العزيز،
عندي تعليق متواضع بخصوص ما تفضلت به.
المثال الذي ذكرته عن الجنة جيّد في تقريبه للفكرة. فلو اعطينا القران الكريم لشخصٍ ما، و قلنا له اقرا السورة الفلانية، و لنفترض ان تلك السورة تتحدث عن موضوع المعاد مثلاً ، ثم سالناه بعد ان ينتهي، ماذا فهمت ؟ فسيكون جوابه هو تلك الصورة او ذلك المشهد الذي ارتسم في ذهنه، و هو ان هناك رب العالمين، عادلاً لا يظلم احداً، و ان هناك يوم الحساب و سوف ينال المسيء عقاباً اليماً لا مثيل له بينما ينال المحسن راحةً و نعيماً لا مثيل لها.
اما لو دققنا في التفاصيل بالمعنى العلمي او المصاديقي للتدقيق فقد نغرق في اشكالات كثيرةٍ تبعدنا عن جوهر المشهد المطلوب ارتسامه في ذهن المتلقي، لان كثيراً من مصاديق النعيم كانهار اللبن و العسل و حتى الحور العين قد لا تبدو بنفس الجاذبية للمتلقي في هذا الزمان كما كانت في زمان النزول و محيطه الاجتماعي انذاك، و كذلك الامر بالنسبة لمصاديق العذاب فقد نجد اليوم انواعاً من العذاب لربما تبدو اكثر رعباً و شدةً من النار.
فعليه تكون الدقة الادبية -اذا جاز التعبير- في تناول النصوص ارجح من الدقة العلمية لانها تعطي فهماً عابراً للزمان و المكان، و تترك اثراً نفسياً اكثر شموليةً و عمقاً لدى المتلقي.
و شكراً
علي ابو التمن