السبت 3 ـ 12 ـ 2016م
يبدو من مراجعة الكثير من التراث الأخلاقي الديني، أنّ مفهوم مجاهدة النفس والتغلّب عليها، كأنّه غرضٌ في حدّ نفسه أيضاً، وليس مجرّد وسيلة فقط، فالمطلوب من الإنسان أن يخوض صراعاً مع نفسه بحيث يصبح متحكّماً بها، وليس المطلوب منه أن يحول دون هذا الصراع، ويصل للنتيجة نفسها فقط.
معنى هذا الكلام أنّني لو واجهت سلوكاً غير أخلاقي في حياتي، فإنّ أمامي سبيلين لتفادي التورّط به:
السبيل الأوّل: أن أغيّر مساري، وأسير في الطريق الآخر منذ البداية، وبهذه الطريقة أتفادى التصادم.
السبيل الثاني: أن اُكمل مسيري، فأواجه هذه الفتنة الأخلاقيّة، ثم أنتصر عليها مجاهداً نفسي ومكابداً لها، فأمنعها في ذروة الموقف من الوقوع في الرذيلة الأخلاقيّة.
تتجه بعض الأنشطة التربويّة اليوم نحو اعتماد السبيل الأوّل، وهو أمر صحيح ولا غبار عليه في نفسه، لكن المهم في التربية الدينيّة ليس تجنيب النفس التورّط أساساً في الوحل الأخلاقي فحسب، بل تحصينها أيضاً بنحوٍ لو تورّطت لقدرت على مقاومة الميول والرغبات غير الأخلاقيّة. بمعنى أنّ عدم الخسارة في الملاكمة لا يكفي فيه أن لا تشارك فيها من الأوّل، بل يلزم أيضاً أن تكون قادراً على الانتصار فيها لو شاركت أو لو فَرَضَت عليك الظروفُ أن تشارك.
لا يكفي أن تتجنّب الغِيبة وأنت معتزل الناس في صومعةٍ أو جبل، ولا يكفي أن تتجنّب الحسد الواقع بين العلماء مثلاً عبر عدم الإقدام أساساً على طلب العلم، ولا يكفي لكي تتجنّب صفة البخل أن تكون فقيراً، بل يلزمك أن تكون ذا مال ثم تواجه هذه الصفة في نفسك.
مبدأ المواجهة مع الذات ليس منبوذاً في الثقافة الدينيّة الأخلاقيّة، بل يبدو أنّه مطلوب، بهدف إحكام قدرة الإنسان على تملّك نفسه والتصرّف فيها من جهة، وبغية رفع مستوى المناعة الذاتية تجاه ميولها غير السويّة من جهة ثانية.
لا يعني ذلك رفض مبدأ احترام النفس ومنحها الثقة والاعتزاز بها كما يقول النفسيّون والتربويّون اليوم، بل يعني أنّ منحها هذه الثقة والقوّة ليس سوى وجه لعملةٍ، وجهها الثاني هو لومها ومعاقبتها في لحظات التقصير أو العدوان، والمطلوب هو التعامل مع الوجهين معاً باعتدال دون إفراط أو تفريط.
يبدو لي أنّ الثقافة التربويّة والأخلاقيّة الدينية لا تميل دوماً لفكرة التبرير الذي نستخدمه أحياناً في تفسير الظواهر الأخلاقيّة السلبيّة على المستوى الفردي، بل هي ترى أنّ علينا أن نقرّ بأنّ هناك جزءاً من النفس الإنسانيّة عاصٍ، وهو عدواني مُخْلِدٌ إلى الأرض متبعٌ هواه، ولابد لنا من التعامل مع هذا الوجه في بعض الأحيان بالحزم والشدّة واللوم والتأنيب.
ليس معيار سلامة التربية الأخلاقية في الثقافة الدينية هو أن يتقدّم الإنسان أخلاقيّاً دون مكابدة، بل المكابدة جزء من عمليّة التربية نفسها، ووجعُها ليس ألماً، بل هو مسيرة وجود وتكامل، يقع ـ دينيّاً ـ في سياق فلسفة الحياة الدنيويّة الامتحانية والاختباريّة. إنّ المكابدة بنفسها نشاط وحيويّة وفعالية روحيّة في التعامل (الأنفسي) الذاتي.
أظنّ أنّ هذه الفكرة لها تأثير كبير على رؤيتنا لتربية ذواتنا، ولتربية الأطفال أيضاً في الأسرة والمدرسة وغيرهما.
# | العنوان | تاريخ النشر | التعليقات | الزائرين |
---|---|---|---|---|
164 | أصالة مجاهدة النفس داخل التجربة، ومبدأ المكابدة والتغلّب | 2016-12-04 | 0 | 3072 |