أ. جواد علي
تمهيد
يمثل منهج التحليل التاريخي أحد الأدوات المعرفيّة في مسيرة الكشف عن حركة الفكر في الواقع العلمي والمعرفي، ولا يشكّ المشتغل بالبحث الاجتهادي الجادّ في أهميّته وضرورته، إلا أنّ الإشكاليّة تكمن ليس في المنهج كأداة، وإنّما في التطبيق للمنهج من جهة، وفي الخلط بين المناهج وبين الهواجس من جهة أخرى، والإشكاليّة الأخرى تتجلّى في الغرق ببحر النوازع الذاتيّة، بدلاً من الدوافع العلميّة.
(التحليل التاريخي للأفكار: موقف الشيخ البن سعد من “نظرية السنّة” للشيخ حيدر حبّ الله) هذا هو عنوان مقالة ترتكز بأسرها على عمود فقري تتقوّم به، ويتمثل في الاستظهار من نصّ كلام للشيخ البن سعد في كتابه جواهر الكلم، بنى الكاتب على هذا الاستظهار كامل المقالة، والكاتب العزيز وإن لم يأتِ بالنصّ بطوله، وإنّما اقتطع منه مورد حاجته دون ملاحظة لبداية الحديث، والذي يضيء للمقطع الذي أخذه كاتب المقالة، إلا أنّ النصّ الذي استحضره ليستظهر منه دعويين، لا يكشف بالنظرة الهادئة والتأنّي عمّا استظهره الكاتب، بل إنّ نصّ الشيخ البن سعد يكشف عن حجم الإنصاف الكبير الذي أبداه تجاه دراسة الشيخ حبّ الله فتأمّل أخي الكريم.
في نصّ كلام الشيخ البن سعد يوجد مقطعان:
المقطع الأوّل: يبرز فيه الشيخ البن سعد بنحو القضيّة المهملة الخلل والالتباس في التعامل مع القراءة النفسيّة والظرفية، وإن شئت فقل: يحاول الشيخ البن سعد بيان خطأ تطبيقات القراءة النفسيّة والظرفيّة، وليس في النصّ دلالة على نفي القراءة النفسيّة والظرفيّة، كما ذهب إليه الكاتب.
المقطع الثاني: يبيّن الشيخ البن سعد أنّ نماذج ممّن اعتمدت القراءة النفسيّة بشكل غير دقيق أو تعاطت التحليل النفسي والظرفي بطريقة غير سديدة، وإنّ الإنصاف الكبير من الشيخ البن سعد في هذا المقطع يتجلّى في عدم إقصائه وإلغائه ومصادرته للدراسة التي قدّمها الشيخ حيدر حبّ الله، وإنّما قال بالنصّ: (نظرية السنّة، منها دراسة أخينا الفاضل الشيخ حيدر حبّ الله في شيء من جوانبها طبعاً). وهذه برأيي قمّة الموضوعيّة والإنصاف، والتي لم يلاحظها الأخ الكاتب سدّده الله، قد تجلّت في كلام الشيخ البن سعد في عبارته الدقيقة (في شيء من جوانبها طبعاً).
ألا تدلّ هذه العبارة على شيء بنظر الأخ الكاتب سلّمه الله؟! أم أنّه استعجل الاستظهار فلم يمعن النظر مليّاً؟ فإذا أشرقت شمس الجلاء والوضوح على حقيقة كلام الشيخ البن سعد يكون النقض الذي أورده الكاتب غير صحيح. هذا مضافاً إلى أنّ الأقوال التي ذكرها سلّمه الله وعنونها مرّة بـ: التحليل التاريخي مسلمة بحثية عند الأصوليين، الصدر نموذجاً. ومرّة أخرى بـ: ممارسة العلماء للتحليل التاريخي، شواهد جريئة. هذه في مجملها لا تساند ولا تدعم الرؤية التي عرضها الكاتب العزيز، بل هي التباس واضح في استحضار شواهد للدعوى.
فإنّ ما ذكره الشهيد الصدر(ق.س)، حول قطع القطّاع والظهور وتقسيمهما إلى ذاتي وموضوعي، هذا بحث معرفي ابستمولوجي ولا ربط له بالتحليل التاريخي، وأين ما ذكره حول الذاتيّة في العمليّة الاجتهادية، في خطوة طيبة قام بها الشهيد الصدر لتشريح جسد الاجتهاد ومحاولة اكتشاف ما يمكن أن يصيبها من أدواء تعرقل حركة نموّ الجسد الاجتهاديّ، ممّا عنونه الأخ المكرّم بمسلّمة بحثية عند الأصوليّين!! في محاولة إثبات التحليل التاريخي مع أنّه كان في غنى عنه.
وسأتجاوز بعض فقرات مقالته لكونها تكلّف هذا.. وأنطلق معه إلى محطّة مهمّة من كلامه، وهي: محاولة نقض التحليل التاريخي عند البن سعد، جواب النقض والتزام المنهج. يذهب الكاتب في هذه المحطة إلى القول: فلو كانت عبارات الشيخ حب الله في تحليله تمارس هجوماً وتسقيطاً للمحدّث البحراني لقبلنا وكان الإشكال في محلّه، لكنّ أي مانع من أن يقول بأنّه عندما رفض الفكرة الفلانيّة، كانت أحد عوامل رفضه هو قلقه من تلاشي المذهب أو خوفه من نفوذ الفكر السنّي في المذهب؟!
هذا النص يكشف عن مشكلة وحالة غير سليمة: .. التسقيط قد يكون وسيلة وقد يكون نتيجة، وما ذكره الأخ الكاتب هو التسقيط كوسيلة والحقّ معه، ولكن عندما تمارس منهجاً نتيجته التسقيط فهنا الإشكال. ماذا يعني أنه ما المانع في إبراز قراءة نفسيّة لا تقوم على أيّ مستند ووثائق معتبرة، سوى تخمينات ومحاولة إبراز أنّ العامل النفسي سبب في رفض الفكر الآخر، وهذه هي العصبيّة. والشيخ البن سعد لم يقل غير هذا يا كاتبنا العزيز، فما نقضت به على الشيخ أتيت به.
يقول الشيخ البن سعد: (نراه يتمسّك بالجانب النفسي والظرفي للكاتب فيقول هذا من سيرته في مناوأة تراث التيار الآخر كذا وكذا).
وعليه، تأتي النتيجة أنّ القارئ أو المراقب للمشهد اعتماداً على تحليلك النفسي سيقوم برفض تلك الشخصيّة، وهذا هو التسقيط كنتيجة.
وفي المحطّة ما قبل الأخيرة مع كاتبنا العزيز يقول: ومتى حكم الشيخ حب الله في كتاب نظرية السنّة على فكرة من أفكار هذا العالم أو ذاك فصحّحها أو أبطلها انطلاقاً فقط من التحليل النفسي؟ أرجو أن يرشدنا سماحة الشيخ البن سعد إلى ذلك.
إنّما طالب بهذا الأمر لأنه لا يدرك بأنّ هكذا نوع من القراءة هي وسيلة تسقيط سواء انبنت على قصد أم لا. ويبدو أيضاً أنّ الكاتب العزيز لم يقرأ كتاب الشيخ حبّ الله (نظريّة السنّة) بشكل فاحص ومتأنٍّ، فلنذهب سويّاً لننظر في بعض النماذج فقط مراعاة للاختصار، هل الشيخ حبّ الله تعامل بالتحليل النفسي وكان حاضراً أم لا.
النموذج الأوّل: الشيخ حب الله، عند الحديث عن المحقق الأردبيلي ، في 202 و ص 202 من كتاب نظرية السنة يقول: (والشيء البالغ الحساسيّة في مسألة عدم الاعتناء ـ ولو النسبي ـ بفكرة المشهور، هو البعد النفسي الذي تتركه هذه الظاهرة، فإنّ سقوط هيبة المشهور من أحاسيس العالم أو الفقيه سوف يؤدّي بطبيعته إلى تحطّم حواجز نفسيّة كانت تحول دون تبنّي مواقف أو رؤى على خلاف مع السائد، ومن ثم فسياسة المحقّق الأردبيلي يمكن اعتبارها لبنة أساسية في تغيير واقع بدل تكريسه..).
هذه الفقرة من كلام الشيخ حبّ الله، أليست معتمدة على التحليل النفسي والدعم لثقافة مخالفة المشهور.
النموذج الثاني: يقول الشيخ حبّ الله في ص 222: (ومن الممكن أن يكون للتفوّق الشيعي الذي جاء مع الجايتو خدابنده عصر العلامة دوراً في خلق إحساس الأمان عند الشيعة من فتح علاقة ثابته ومتينة ونقديّة من الطرفين).
احتمالٌ وتخمين، مضافاً إليه تحليل نفسي، بلا أيّ وثائق ولا أيّ مصادر، يمكنها أن تدعم الفكرة.
النموذج الثالث: يقول الشيخ حبّ الله في ص 232: (لأنّ العقل هو مفتاح التواصل مع الآخر أيضاً، من هنا اعتقد الأخباريّ بلا جدوائيّة العقل).
وهذا الكلام من الشيخ حبّ الله خطير، وهو ليس فقط تحليل نفسي، بل اتهام بلا دليل ولا مصدر، فإنّ رفض الأخباري للاستدلال العقلي راجع إلى مستندات شرعيّة لديه، كما في الخبر: (إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول). وهو نفسه ما سيبيّنه في الصفحات المقبلة، فلماذا يقدم التحليل النفسي على طرح المادة؟ وهذا أمر أستغربه من كاتبنا المحترم، ألم يلتفت إلى هذه الشواهد في كلام الشيخ حبّ الله؟!
النموذج الرابع: يقول الشيخ حبّ الله في ص 230 ـ 231: (وهكذا نحّى الأخباريّ القرآنَ؛ لأنّها لا تبدي الخصوصية عند الآخر ما دام القرآن هو القاسم المشترك).
وهذا تحليل نفسي أو إسقاطات نفسيّة معيّنة؟ فهذه الطريقة التي اتبعها الشيخ حيدر حب الله تلغي كلّ الأدلّة والبراهين التي قدّمها الأخباريّ لرفض حجيّة ظواهر القرآن، ليتمّ التشبّث بتحليلات نفسيّة وحدسيّات وظنون.
النموذج الخامس: يقول الشيخ حبّ الله ص 231: (كما اعتقد بقطعيّة الكتب الأربعة ويقينيتها؛ لأنّ حال رواياتنا غير حال روايات السنّة).
أليس هذا الكلام من الشيخ حبّ الله غريباً في غاية الغرابة، هذه التحليلات النفسية وهي تطلق العنان للشعور النفسي، بدلاً من بيان وجه الواقع الذي تسلكه الأخبارية في قولها بيقينية الكتب الأربعة المعتمدة على مقدّمات أصحاب المصنّفات الأربعة مثلاً، وكما أشرت سابقاً قد جاء عليها ووقف عندها فيما بعد، ولكنّه لم يرها كافية، ولذا بادر بالقراءة النفسية أولاً.
النموذج السادس: من كتابه علم الكلام المعاصر، يقول الشيخ حب الله ص 76: (لكنّ القضيّة الأعمق من هذا الشكل الظاهري الذي قد لا يلاحظه الإنسان كثيراً ما دام غريباً أحياناً هو إثقال الإجماع النفسي على الباحث، وهو إثقال أكبر تأثيراً في عالم الفكر، فمن يرفض الأدلّة لصالح الإجماع قد يلبّس رفضه هذا بصيغ تشكيكيّة في الأدلّة نفسها، وهو أمر حاصل بدرجة معتدّ بها، فعلى سبيل المثال الشيخ محمد حسن النجفي في جواهر الكلام كثيراً ما يردّ أفكاراً عديدة لأجل مخالفتها لما قاله الأصحاب، بيد أنّه ولأجل تخفيف الضغط النفسي عليه كفقيه يقوم بإثارة سلسلة من التشكيكات الصغيرة بغية إرباك الأدلّة..)!!
أيّها القارئ الحصيف والمتأمّل البصير والكاتب المحترم، هذا النص أمامك، أليس تحليلاً نفسيّاً خطيراً جداً، وقد اتخذه بدل البحث العلمي، واللافت أنّه وإن لم يكن من كتاب “نظرية السنّة” إلا أنّه أدرجه تحت عنوان: البحث التاريخي والتحليل التاريخي لا النفسي، مما يعني أنّ مشكلة الخلط بين الأمرين متجذّرة لدى باحثنا المحترم..
ختاماً: استعرضنا مع الأخ كاتب المقالة معظم فقرات مقالته، فتبيّن لنا أنّ الشيخ حيدر الله لم يستند إلى التحليل التاريخي في كلّ الكتاب، بل حاول في عدّة مواضع أن يستخدم التحليل النفسي ويعتمد الحدس بدلاً من المنهجيّة العلميّة القائمة على جمع الوثائق والتقارير، وظهر لنا أنّ كلام الشيخ البن سعد سليم ولا غبار عليه.